هل يصيب عمال اليومية نوع من العماء الإلكتروني-لما هو خارج الشاشات-أهو أثر الهاجس الأمني العصابي؟ ما بين مراقبة الشاشات لحظات انتظار داخل المترو بين غرباء متباعدين رغم تلاصقهم، أوسقوط أثناء التدخين الشره من شرفة، ولا يعبأ أحد، خيوط لا مرئية تربط هؤلاء إلى عبودية معاصرة قائمة على المراقبة.

مياومة

محمد فـرج

 

بخيوطٍ غير مرئيَّة، لكنَّها شديدة القوَّة واللّيونة، ينسحب الواحد من سريره إلى مقرِّ العمل، تسمح له الخيوط، بغسل وجهه، والاستحمام إنْ أسعفه الوقت، وتقبيل زوجته وأطفاله إن كان لديه، وبالوقوف ثوانيَ أمام المرآة وتأمّل أثر النوم على عيونه المنتفخة. يمكنه تغيير الطَّريق لكن لن يفيد ذلك في الهروب من أسر الخيوط اللَّامرئية، ومهما بَعُدَ محلّ سكنه، ستجذبه الخيوط إلى مكانه المعتاد كلَّ يوم.

في أيَّام الإجازات، يبقى العامل فارغًا من الطاقة الَّتي كان يظنّ أنَّه يدَّخرها ليوم الإجازة. في البداية كان يخطِّط منذ أوَّل اليوم ماذا يمكن أن يفعل، حتَّى ينقضي اليوم بدون أن يتحرَّك.. بعد ذلك اعتاد الأمر.

الزُّملاء القدامي الَّذين تآلفوا مع تلك الخيوط قد استسلموا لها تماما، أحيانًا يمدُّ أحدهم يده كأنَّما يتحسَّس شيئًا في الهواء، فيفهم الآخرون أنَّه يتحسَّس خيوطه ربَّما ليفسح مجالًا لتحريك رقبته، أو تغيير وضع كرشه؛ لذا ينظرُ العمَّال الجدد إلى تلك الأيدي الَّتي تلمس الهواء نظرات حسد، فهؤلاء هم أصحاب الخبرة الحقيقيُّون.

في كلِّ مكان عمل، ثمَّة حكايات عن هؤلاء الَّذين مزَّقوا خيوطهم، حكايات يتمُّ تلقينها للعمَّال الجدد، حتَّى يدركوا عواقب عدم الاستسلام للخيوط.

منهم مَن ظلَّ يحوم حول مقرِّ عمله، بدون أن يستطيع الدُّخول، فتمزيق الخيوط يعني فقدان كلِّ الاتِّجاهات، ويتمُّ العثور على جثَّته بعد فترة في أحد الشَّوارع المحيطة بمقرِّ عمله. ومنهم مَن يؤثِر الانتحار في هدوء، وهناك مَن يبتعد كثيرا.. ربَّما يغادر البلاد، وهناك في البلاد الأخرى يصبح مشرَّدًا، يجلس تحت الكباري وفي المباني المهجورة يتحسَّس الهواء عسى أن يعثر على خيط يعيده إلى مداره البعيد.

وهكذا تعمل الحكايات على تثبيت الخيوط أكثر حول أجساد العمَّال الجدد.

***

قبل أن ينتهي العامل من صعود درجات سلَّم الجسر الحديديِّ في طريقه لمقرِّ العمل، تظهر أفخاذ رجل عجوز، يجلس فوق ظهر الجسر، ومع إكمال الصُّعود تكتمل صورة الرَّجل الجالس أمام صندوق خشبيٍّ، يبيع مناديل ورقيَّة.

  • يبدو الرَّجل مهتمًّا بالبيع أو بالخلاص من كومة العلب فوق الصُّندوق، يبدو مشغولًا أكثر بتوزيع نظرات اشمئزازه من الجميع، ربَّما يمنح الشَّباب نظرات أكثر حقدًا، لكنَّه يحتقر حتَّى كبار السِّنّ. كأنَّ هدفه من الجلوس هنا هو البقاء فوق بقعة مرتفعة ولعن العالم عبر نظراته. انتظر زمنًا كي يتمكَّن من إعلان امتعاضه... وقتًا طويلًا جمّع الرَّجل فيه أوجاعًا، وآمالًا، وطموحات، وهزائم، ومرارات، اختمرت كلَّها عبر سنين لتصنع تلك النَّظرة، الَّتي كانت تبدو للعامل كأنَّها رسالة قادمة من أحد الواصلين لآخر الطَّريق... رسالة تلتصق بظهر العابرين كأنَّها بصقة.

***

كانت الشُّرفة هي المتنفَّس الوحيد في العمل، ندخِّنُ هناك، كنَّا نحرق أعدادًا لا نهائيَّة من السَّجائر. في العمل يصرفون لنا كمِّيَّات غير محدودة من القهوة السَّوداء، كي نظلَّ منتبهين، فلا يجب أن تغفل عيوننا لحظة، نشرب وندخِّن، ونعمل.

وأحيانًا يتبادل البعض ضحكات عصبيَّة تندلع فجأة وتختفي فجأة، لكن في الأغلب نحن صامتون.

يوما كان أحدهم يدخِّن، مستندًا على سور الشُّرفة، لم ينتبه للجزء الَّذي استند عليه، كانت البقعة الأضعف، راح يدخِّن باستغراق، مُضيِّقًا عينيه من كثرة الدُّخان المنبعث من منخاره وفمه، فجأة انكسر السّور، وسقط زميلنا، سمعنا صوت ارتطام جسده بالأرض، ابتعدنا خطوتين عن الجزء المتحطِّم، وأخرج أحدنا رأسه؛ ليرى أين سقط الزَّميل. سمعنا صيحة رئيس الورديَّة من الدَّاخل ينبِّهنا لضرورة العودة واستكمال العمل، فدخلنا واحدًا تلو الآخر، وألقى بعضًا منا سجائره من فوق السُّور، لتسقط بجوار جسد الزَّميل.

***

يجلسُ العامل أمام الشَّاشة، يكمل عملًا، يبدأ آخر، تبقى أعمالًا كثيرة بلا نهاية لوقت طويل، ويظلُّ العامل ينتظر رسائل.. تفيد بأنَّ ما تمّ قد تمّ فعلًا، ويتمنَّى لو أنَّه حاز إعجاب أحدهم، ورسائل أخرى تُذكِّر بضرورة إنجاز ما يجب إنجازه.

ويبقى العامل ينتظر رسالة تبدِّل مجرى اليوم، وربَّما تغير مجرى عالمه، رسالة تنبئه بأنه جيِّد، بل ممتاز. رسالة تخبره بوصول نقود. رسالة تخبره بقبوله في عمل جديد. رسالة حبّ. رسالة تخبره بأنَّ ما يفعله له معنى. انتظار طويل. الانتظار لا ينتهي، فقط يبدأ ويستمرّ.

***

يطولُ طريق العمل، أحيانًا يسع شوارع، سيَّارات تاكسي، حافلات، قطارات مترو، طائرات. هناك ينحشرُ الواحد رفقة أجساد غريبة، لا يعرفها لكن يُجْبَرُ على ملاصقتها لوقتٍ ما، تحتكُّ الصُّدور بالظُّهور، جانب الفخذ بالفخذ، وربَّما تتلامس الأيدي، يحدث القرب في الوقت الَّذي لا ترغب فيه تلك الأجساد في التَّلامس، لكنَّ ضيق المكان وطبيعة الآلة الَّتي يركبها الجميع تجبرهم على التَّخبُّط بين بعضهم البعض.

يفكِّر العامل في العلاقة الَّتي يمكن أن تنشأ من ذلك الاقتراب الإجباريِّ، هل يصنع هذا جسرًا ما؟ هل ارتطام الفخذ بساق آخر في المترو تعني إمكانَّية فتح أبواب مغلقة؟ لمسة أطراف الأصابع يمكن أن تُقيم حديثًا؟

كان العامل يسأل نفسه كثيرا كيف يبدأ حوارًا لا يشبه تلك الَّتي تندلع فجأة أثناء الحركة من وإلى مقرِّات العمل، الَّتي غالبًا ما تبدأ من سوء إدارة الدَّولة للمرافق وتتَّسع لتشمل آلام الأسنان، والنَّظر لقضيب ما عاد ينتصب سوى لحظات حال الاستيقاظ، أو آلام هجوم دماء الدَّورة الشَّهريَّة، والصُّداع الملازم لكلِّ اليوم، والنَّزيف المفاجئ بعد انقطاع التَّبويض، وجفاء الأبناء، وخشونة الرُّكبة، وتراكم الدُّيون، وإدمان المخدِّرات، وآلام الظِّهر والرَّقبة، واقتراب موعد تسديد الأقساط، وذكريات ضياع القطارات من أجل خطأ في قراءة موعد التَّحرُّك، وعن رحلات اللَّيل الطَّويلة الَّتي تبدأ مع الظَّلام وتستهلك القمر والنَّجوم والأسفلت وتصل محطَّتها الأخيرة وما زالت السَّماء كحليَّة اللّون.

لم يحاول العامل أن يبدأ أيَّ حوار مع مَن يجاوره، اكتفى دائمًا بالرَّدِّ بهمهمات على مَن يحاول فتح حديثٍ معه.

كانت كلُّ تلك الحوارات تهدف لقضاء الوقت، لقتله، يفكِّرُ العامل؛ لكن أليس هذا الوقت هو الَّذي نحتاجه لملئه بالحياة؟ أيّ حياة تلك؟ الَّتي نمضيها أمام الشَّاشات بأعين مفتوحة، وظهور مقوَّسة؟ أم تلك الأخرى الَّتي نحلم باقتناصها قبل النّوم.

يهبط العامل عند وجهته الأخيرة ويفكِّر... هكذا إذن تمضي الحياة، محاولات متتابعة لقتل الوقت.. لقتل الحياة نفسها.

***

يمشي العامل على ضفَّة النَّهر سريعًا خفيفًا، لا يرى شيئًا من النَّهر، ثمَّة خطّ أسود طويل تحوطه بعض الأشجار. يَحسبُ مع زيادة سرعته أنَّه يهرب، لكنَّه أدرك فجأة أنَّه فقط يتحرَّك قدمًا داخل الفخِّ الذي يريد الهرب منه.

لم يمتلك يومًا الفرصة ليسأل نفسه مرَّة ما هو الفخّ؟ وما الَّذي دفعه هناك؟ ولماذا يريد الهرب؟ ولماذا لم يفلح حتَّى الآن؟

يظلُّ صامتًا، قابعًا وراء وجه جامد... لطالما كان الصَّمت كلامًا ساكتًا... كلامًا لا يتوقَّف عن السّيلان ولا يعرف طريقًا للخروج. ذات مرَّة قالت له فتاة ذات شعر مموَّج: يجب أن تذهب لطبيب كي تتعلَّم كيف يمكنك الحديث. نظر لها ولم يعلِّق، همّ بتقبيلها، لكنَّها أشاحت بوجهها طالبة منه الكلام أوَّلًا.

جمع أشياءه ورحل، لم يعرف كيف يمكنه الرَّدُّ، لا تعرف الفتاة شيئًا ولا ضرورة لذلك.

الصّمت طبقات كثيفة يغزل العامل في كلِّ طبقة كلامًا يريد أن يقوله. رغب كثيرًا في لقاء شخص لا يعرفه ربَّما يمكنه تكسير تلك الطَّبقات، لكن مع كلِّ المجهولين الَّذين رآهم كان ينزلق خلف الطَّبقات، ويمضي سريعا.

في البداية ظنَّ العامل أنّ الصَّمت سيكون فرصة جيِّدة للتَّدرُّب على الكلام، لكن بالتَّدريج ضاعت القدرة على الحديث، تكلَّست... واكتفى بالهمهمة، والتَّلويح بيده كلَّما أراد الصرّاخ.

 

*مقاطع من عمل صدر حديثًا

بعنوان "مياومة.. هايكو عامل معاصر"

عن دار المحروسة – مصر