تفتتح (الكلمة) بفضل صمود أسرة تحريرها عامها الخامس عشر بهذا العدد الجديد، وإذ تُذكّر كتابها وقراءها ببعض أهدافها ورؤاها، وتشكرهم على دعمهم لها، فإنها تحتفل معهم بعام جديد ترجو فيه مبارحة كآبة العام الماضي، كي يواصلوا العمل على الارتقاء بوعي الإنسان العربي، وإرهاف عقله النقدي وذائقته الجمالية.

العام الخامس عشر

ص. ح.

 

تفتتح (الكلمة) بهذا العدد الجديد، العدد 165، عامها الخامس عشر بفضل تفاني من يؤمنون برسالتها، أعضاء أسرة تحريرها، ومن ورائهم قرائها العديدين في أربعة أركان المعمورة. ولولا تفاني أعضاء أسرة تحريرها في العمل التطوعي – في حياة تستأدي منّا المزيد من الوقت والجهد لتأمين الضروريات ولا تترك لأي منا وقتا لترف العمل الثقافي – من أجل أهدافها السامية لما استطاعت الصمود كل هذا الوقت دون أي دعم من أي جهات حكومية أو فردية. ذلك لأن أحد أبرز أهدافها هو البرهان على أهمية الثقافة الحرة والمستقلة، وأهميتها في حياة منتجها ومتلقيها معا. فهي تعزز إحساس منتجها بحريته وفاعليته في رد عوادي التردي والهوان عن نفسه وعن مجتمعه، وبالتالي بقيمة حياته. كما أنها ترهف وعي متلقيها بقيمته، بعيدا عن دوامة حياة مرهِقة تستنزف طاقته في توفير ضرورات مادية، وتنحو وبشكل متصاعد إلى تجريده من حرية الاختيار والتفكير. فالثقافة الحرّة المستقلة هي راعية القيم الضميرية والإنسانية الراسخة. وهي التي تجعل حياة الإنسان جديرة بأن تُعاش، وتتجاوب مع مكابداته الروحية وصبواته العقلية على السواء.

والواقع أنني كثيرا ما فكرت – وخلال الأعوام الأخيرة – في التوقف عن العمل فيها، بعدما تقدمت في العمر، وأخذت أمراض الشيخوخة تستنزف طاقتي. خاصة وأن ما سعت المجلة لطرحة من إمكانية استقلال الثقافة الحرة النزيهة، وتحكيم معايير القيمة الأدبية والفكرية والجمالية معيارا للاختيار، في عالم من الخلط والتخليط الذي شجعته الشبكة العنكبوتية، قد حققته بمسيرتها التي تغلبت فيها على ضربة الغدر التي سُرق فيها أرشيفها. وقد سبق وأن استشرت أسرة التحرير أكثر من مرة في هذا الأمر – فبدون جهدهم المشكور يستحيل إصدارها بالانتظام والدقة التي تحترم مواعيدها مع القراء – فكان ردهم جميعا هو ضرورة الاستمرار.

لكن ما جرَّته علينا تلك السنة الكبيسة والكئيبة بحق 2020، أغناني عن استشارتهم قبيل استهلال هذا العام. فما عشناه طوال العام الغريب الذي انصرم من تحولات مؤسية ومزلزلة في عالمنا العربي، بما في ذلك سقوط أقنعة التخلي الفاضح عن قضيتنا القومية، قضية فلسطين؛ وما كشفت عنه جائحة كرونا من خلل في العالم كله بصورة شلّت الكثير من حركته، وأجبرته – أفرادا ومجتمعات – على إعادة تمحيص رؤاه وأولوياته، جعلني أشعر بأن التوقف في هذا الوقت العصيب أمر غير مقبول، لأنه ينطوي على نوع من انتصار الهزيمة، بدلا من مقاومتها والتغلب عليها. كما أن تقلبات الطبيعة الجامحة من أعاصير وحرائق للغابات، التي صحبت الجائحة وكأنما لتؤكد لنا ضرورة أن تكون إعادة التمحيص تلك شاملة وجذرية، ضاعفت من إحساسي بأهمية الاستمرار في التنبيه إلى أهمية هذا كله من خلال منبر يتيح النقد الجذري المطلوب. نقدا لا يكتفي بالواقع المحلي، وإنما ينظر من ورائه إلى العالم، والكون كله.

والواقع أن هذا النقد الجذري لكل ما حولنا كان هدف (الكلمة) منذ افتتاحية العدد الأول منها، وأهيب بالقارئ – وقد أصبح كل أرشيف (الكلمة) مفتوحا الآن للجميع – أن يعود إلى تلك الافتتاحية. لأن مثل تلك العودة تؤكد أن ما تطرحه علينا تلك السنة الصعبة الكبيسة 2020 وما خلفته من أحزان كئيبة، كان مضمرا في كثير من الرؤى التي انبثقت عنها الكلمة ودافعت عن ترسيخها: رؤى الحق والخير والعدل والجمال. فقد أكدت الجائحة كثيرا مما انطلقت منه هذه المجلة، وهو أننا نعيش في عالم يحتاج إلى إعادة النظر في أولوياته، وتصحيح سلم قيمه المقلوب كي يصبح الإنسان مركز كل اهتمام. وكي نضع العدل والحرية على قمة هذا السلم، كما نضع القيم الضميرية والأخلاقية ضمن أهم أولوياته. فقد أكدت الجائحة أن الإنسان/ الفرد، الهشّ هو عماد هذه الحضارة، ولابد أن يحتل الحفاظ على صحته الجسدية والعقلية مركزها. ولم يعد ثمة همّ لكل المجتمعات الآن أكثر من الحفاظ على صحته تلك وقد تهددها الفيروس بالموت اللعين. كما أن الارتقاء بعقله وروحه في زمن يحتاج إلى إعادة التفكير في كل ما دار أمر لا يقل أهمية عن الحفاظ على حياته. فأكثر ما يهم معظم المثقفين والمفكرين في عالمنا اليوم – من اقصى الشرق إلى أقصى الغرب فيه – هو كيف يمكن علاج الخلل البنيوي في النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي زلزلت الجائحة أهم أركانها، وعرتها من مصداقيتها، وطرحت عليها الكثير من الأسئلة المقلقة.

والواقع أن أي عودة إلى افتتاحية العدد الأول من المجلة تؤكد أن الدعوة إلى التفكير العقلي في هذا الخلل البنيوي – الذي عانى منه عالمنا العربي أكثر من غيره – كان الحافز وراء إصدارها. وكان في الوقت نفسه الدافع لاستقلالها، والحفاظ على هذا الاستقلال. لأنها كما أعلنت وقتها «تضيق بالتبعية بكل أشكالها وتجلياتها، الثقافية منها والفكرية والسياسية. وتعلي من شأن قيمتي الاستقلال والحرية. ولذلك كان من الضروري، بل الحتمي، أن تكون هذه المجلة مبادرة فردية متواضعة، في عصر سيطرة المشاريع المؤسسية العملاقة. تدرك أن هذه المشاريع العملاقة والتي تتعدد منابرها طوال العقود الثلاثة الأخيرة، لم تنجح في الخروج بعالمنا العربي من محنته التي تزداد تفاقما يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى. فقد انتهت الأمور بأن أصبح عالمنا العربي ــــ برغم كل مؤسساته السياسية والحضارية والإعلامية الضخمة ـــ رجل العالم المريض في مستهل القرن الحادي والعشرين، كما كانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض الذي تتصارع الدول الأوربية على ممتلكاته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فالعالم العربي الآن هو رجل العالم المريض؛ يقف مهانا وبائسا وكئيبا، لا يعرف لنفسه طريقا، وليست له مشروعاته أو أولوياته الخاصة التي يسعى لتحقيقها؛ وسط عالم يضج بالنمو والنشاط والأجندات المتصارعة. ... هذا الوعي المرّ أو الوعي الشقيّ بأن عالمنا العربي، المترع بالإمكانيات المادية والبشرية والفكرية، قد أصبح مع مطلع القرن الحادي والعشرين رجل العالم المريض ــ بينما تنهض كل الثقافات والمناطق الأخرى من الصين وشرق آسيا وحتى البرازيل وأمريكا اللاتينية ــ هو الدافع الأساسي للشروع في هذه المجلة/ المبادرة الفردية التي تسعى لتشخيص أسباب هذا الداء، والتعرف بدقة وعقلانية على أعراضه ومصادره، قبل البحث عن أسباب علاجه والبرء منه.

فالتشخيص السليم للداء، هو الخطوة الأولى والضرورية للبحث عن أي دواء. ولأن الإنسان حيوان ناطق فإن هذا التشخيص نفسه لا يمكن أن يتم إلا بالكلمات. ولكي يتم هذا كله لابد أولا من تحرير الكلمة من كل لبس أو التواء، وطرحها بجرأة في ساحة حرة للجدل النقدي الخلاق. ولهذا تبدأ هذه المجلة بهدف متواضع ــ ولكنه ليس سهلا أو بسيطا ــ هو تحرير الكلمة ورد شرفها وتعزيز كرامتها، كي تحرر الأنسان العربي من الخمول والخمود والتبعية، وترد له شرفه وكرامته. فبدونهما لن يستطيع عالمنا العربي أن يصوغ مشروعه، ويبلور رؤاه الخاصة، وأن يرسم أولياته في عالم اليوم، ويخطط لمستقبله فيه، ناهيك عن العمل على تحقيق هذه الأولويات والرؤى للنهوض بواقعه المترديٍ. فتحرير الكلمة هو الخطوة الأولى والضرورية لتحرير العقل وتحرير الفكر وإطلاق طاقات الإبداع في هذه الأمة المترعة بالمواهب والإمكانيات. وهذه المجلة تعول على هذا التحرير كثيرا، وتعول أكثر على طاقات هذه الأمة الثقافية والإبداعية من المحيط إلى الخليج. ...

لذلك تبدأ هذه المجلة كمبادرة متواضعة تختار (الكلمة) عنوانا لها كي يظل هدف تحرير الكلمة من الغموض والالتباس والتدليس والتبعية، والحفاظ على استقلالها وشرفها وحريتها، نبراسا لها لاتحيد عنه في مسيرتها. تذكر به قراءها وكتابها على الدوام باعتبارها مجلة لحراس الكلمة، وليست لكلاب الحراسة. هي مجلة إذن لتحرير الكلمة من أمراس التردي والتزييف والتبعية التي عانت منها كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة. وأولى خطوات هذا التحرير هو تحريرها من أي رابطة مؤسسية أو جغرافية. فالكلمة تنطلق من استقلالها الكامل عن كل المؤسسات العربية السياسية منها والإعلامية والثقافية. وتطمح إلى أن تكون مجلة عربية يكتبها المثقفون العرب من المحيط إلى الخليج، من العراق إلى المغرب وموريتانيا، ومن سوريا إلى السودان والصومال وكل ما بين هذه الأطراف العربية من بلدان. وهذا الطموح ابن وعي بوحدة الثقافة العربية، وهي وحدة تزداد عراها متانة كلما ازداد العالم العربي ومؤسساته السياسية تشرذما وخلافا.»

والواقع أن الكلمة قد حققت على مرّ عمرها الذي امتد الآن لأربعة عشر عاما الكثير من هذا الطموح. وكان الفضل في هذا كله لتفاني أسرة تحريرها وصلابتهم في الالتزام بخطها ومواعيدها، خاصة وأن العمل التطوعي مبهظ في هذا الزمن الرديء. لأن أحد جوانب الخلل الذي كشفت عنه السنة الماضية هو أن هذا اللهاث وراء ما يسد الرمق، ويوفر أساسيات الحياة، دون أن يترك فسحة للثقافة والجمال هو أبرز ما ينطوي عليه عالمنا من خلل، يزداد به الأغنياء غنى ويزداد عبره الفقراء فقرا وإملاقا. وقد كان من أسس مشروع (الكلمة) عند إطلاقي له مع مطلع عام 2007 أن تكون الثقافة والفن والعمل بهما ومن أجلهما مجزيا، وقادرا على مكافأة كل المشاركين فيه بسخاء. فقد كان عماد الفكرة أنها ستصبح مشروعا متكاملا قادرا على تمويل نفسه وتقدير جهد كل المساهمين فيه من محررين وكتاب. إيمانا بقيمة الثقافة كعمل مهم وجدير بالتقدير.

لكن غدر الشريك الكويتي، وسرقته لأرشيف المجلة، وتوهمه أنه يستطيع أن يحقق به ومنه المكاسب المالية بعيدا عنها، وقد واصل تنميته بطريقة غبية تكشف عن عقمه ومحدودية تفكيره، لم ينفعاه. وإن حرماها – السرقة والوهم – من تحويل الأرشيف نفسه إلى عمل ثقافي مهم من ناحية، ومن توفير الدخل الذي كان جديرا الآن بتحويلها إلى مؤسسة قادرة على استقطاب أجيال جديدة من المحررين لمواصلة رسالتها، ومكافأتهم بشكل مجزٍ على جهدهم، وتحويلها إلى طاقة نور مستقلة تشع على العالم العربي كله من ناحية أخرى.

وبرغم ضربة اللص الكويتي الغادرة تلك، واصلت (الكلمة) بقدر ما في طاقة أسرة تحريرها من إيمان بمشروعها الصمود والاستمرار، فشكرا لكل فرد من أفراد تلك الأسرة الصغيرة، وهو شكر يضاعفه الوعي بأن العمل فيها يضع على عاتق كل منهم كثيرا من المسؤوليات، وقد ثقل العبء وطال في زمن لا يترك لهم وقتا. كما أشكر كل من ساهم فيها من كتاب من كل أرجاء الوطن العربي. فليس هناك بلد عربي لم يساهم كتابه ومثقفوه فيها، أو لم يظهر انتاجهم على صفحاتها. فقد برهنت طوال مسيرتها على أنها بالفعل مجلة الثقافة العربية الواحدة، والتي تتغيا النهوض بوعي الإنسان العربي، وتعزيز قيمه الإنسانية الراسخة، من أجل حياة كريمة يحقق فيها أحلامه في مستقبل آمن وسعيد، مع إطلالة عام جديد، ترجو فيه أن يواصل كتابها وقراؤها معا العمل على الارتقاء بوعي الإنسان العربي، وإرهاف عقله النقدي، والارتقاء بذائقته الجمالية.