لا يحيد الكاتب والروائي التونسي شكري المبخوت في منجزه الروائي الجديد (باغندا) الصادر عن دار التنوير 2016 عن البرنامج السردي الذي خطه في (الطلياني) وذلك يَتَمَثَل في صياغة النص الروائي، بناء على ما يرشح من واقع المجتمع التونسي من معطيات ثقافية واجتماعية واقتصادية، مع الإشارات إلى بعض محطات تاريخية، تتخذ طريقها إلى المنظومة السردية من خلال الحبكة، بوصفها مفهوما يشتغل على تحويل الأحداث والوقائع إلى القصة، على حد تعبير بول ريكور.
كما يستوعب أيضا العناصر المتنافرة، مما ينظم تتابع السرد في رواية (باغندا) هو البحث عن مصير أحد نجوم الكرة، الذي صعد من القاع إلى منصة تتويج النجومية، وانطلاقا من سيرة بطل الرواية «باغندا» التي يتابع خيوطها «عبدالناصر» أو الطلياني الذي كان في موقع الشخصية الأساسية في باكورة شكري المبخوت الروائية، يكتشف المتلقي ما شهده المجتمع التونسي من التطورات في قطاع الرياضة، الذي تحول من الهواية إلى الحرفية، ناهيك عن ترصد ما تحظى به لعبة كرة القدم من الاهتمام على المستوى الشعبي، وما وصل إليه التفاعل الجماهيري مع الأندية الرياضية، كأنها حلت محل الأحزاب السياسية في زمن التآكل الأيديولوجي.
غير أن كرة القدم، وهي لعبة أكثر شعبية قاطبة، لا تكون بعيدة عن التحالف القائم بين أصحاب المال وأركان جهاز الدولة، وذلك تراه في تجربة عماد بلخوجة الذي نجحَ في الهيمنة على أعرق الجمعيات الرياضية، وهو الاتحاد التونسي، من خلال نفوذه المالي والاقتصادي، إذ باقتحامه الوسط الرياضي تغزو ظواهر جديدة هذا المجال، وبالتالي الأمر يكون له انعكاس على الفضاء المجتَمعي، وما يبدو في الظاهر منافسات رياضية بين الفرق والمجموعات، تتوارى خلفها صفقات مالية وأحابيل تجارية، إذ كثف ابن صانع (الشاشية) مساعيه لتوظيف خبراته في بناء إمبراطوريتهِ المالية تحت غطاء الرياضة، وسانده في ذلك جيش من الأعوان يتحكم به ما يسميه الراوي وزير داخلية الاتحاد التونسي «منير الزرقوني».
في مثل هذا المناخ الموبوء بالمؤامرات، يصعب أن يعاكس المرء لعبة الكبار وبارونات المال، كما لا تصبح العبقرية والكفاءة حصانة لمن يريد أن يتحركَ بمشيئته، بعيدا عن الوصايا، لذا ما أن يخالفَ بركة القواعد حتى تطوى به الأرض ولولا مقال (الطلياني) لما ذكره أحد.
الجذور
يعيد المؤلف بطل روايته السابقة إلى مسرح الأحداث في «باغندا» موكلا إليه دور الراوي، إذ أن الطلياني بوصفه محررا في القسم الرياضي في صحيفة فرنكفونية، يبدو مؤهلا لسرد قصة الجوهرة السوداء، والتفتيش عن حقيقة ما وقع لمن كان يتمتع بمواصفات النجوم العالميين، وتفوق في عالم الساحرة المستديرة، يظهر «باغندا» بعد خمسة عشر عاما على غيابه من خلال ما جمعه الراوي من معلومات توصل إليها عبر متابعته واستفساراتهِ حول حدث مثير، وبذلك يتوفر في أسلوب السرد ما تعتمد عليه روايات الجريمة من الغموض الذي يلف الوقائع، واختلاف في تفسير حدث النواة الذي يقوم عليه العمل برمته، أضف إلى ذلك أن الراوي ليس من النوع النمطي، إذ يتغير موقعه، تارة يكون متضمنا ومشاركا في الأحداث، وتارة يفارق هذا الموقع مكتفيا بنقلِ ما وصله من الأخبار والروايات المتباينة، وبهذا لا يتوقف بما في متناول يده من قصاصات وتقارير صحافية لتركيب صورة عن مراحل حياة «فتحي بركة» بل يعتمد على ذكرياته عن الأجواء التي رافقت طفولة الأخير في حي باب الجديد ومشاغباته مع أترابه.
ويلجأ إلى هذا الإجراء نفسه مع بعض شخصيات أخرى منها عماد بلخوجة الذي كان يعتمد على شبكة من التلاميذ لكتابة الفروض والاختبارات، غير أن هذا الأمر لم يتعثرْ إلا في امتحان شهادة البكالوريا، ويغيب بعد ذلك إلى أن يظهر من جديد مدعيا حصوله على الشهادة في المحاسبة وإدارة الأعمال بتوقيع جامعة كندية، وما انفك سائرا على هذا المسلك لشراء ذمة أرباب السلطة، لذلك يؤكد سي عثمان للصحافي صعوبة اعتراض طريق عماد بلخوجة للتربع على عرش نادي الاتحاد التونسي، والإطاحة بغريمه مصطفى الشريف، الذي لم يقدمْ غير الخطابات الرنانة، بينما كسبَ بلخوجة تأييد المسؤولين، وكان يقيم لهم ولائم دسمة، كما استفاد من تردي مستوى النادي العريق، إذ منعت تدخلات الشخص الأول نزول فريق كرة القدم للنادي إلى دور الدرجة الثانية، إذ أدار آلة دعائية كبيرة للترويج له، كونه وجها جديدا، ويشهد الاتحاد على يديه النهوض والوثبة.
الكرة اليوم هي أفيون الشعب بالعدل والقسطاس:
فعلا في أول عهده برئاسة الاتحاد حقق إنجازات كبيرة بعدما اختار مدربا برازيليا هو زينهو لقيادة الفريق، لكن هناك اسما آخر شغف به الجمهور وهو «باغندا»، لولا مهارته ما حصد نادي الاتحاد كل الألقاب، من هنا تستحوذ سيرة «باغندا» وبيئته الأسرية على مساحة من المادة المروية، إذ تتضمن طيات السرد حديثا مفصلا عن ظروف نشأته والمهن التي مارسها، بعدما يفشل في الدراسة، فضلا عن ذكر طبائع إخوته وإمه فتيحة الكحلة، التي كانت ضمن فرقة الإنشاد الديني إلى جانب عملها حنانة ومزينة للعروس، وهذا ما يعيد إلى الذهن أسلوب نجيب محفوظ واهتمامه بتفاصيل النسب الأسري لاسيما في (بداية ونهاية) و(الثلاثيته). يشار إلى أن شكري المبخوت وفق في تصوير خصوصية البيئة التونسية، على مستويات سياسية واجتماعية، إضافة إلى ما يدور في عالم الصحافة من صفقات مشبوهة، وفرض رقابة شديدة على كل ما لا يروق لرأس السلطة السياسية.
علبة اللغة
مثلما أشرنا آنفا إلى تمثل السرد لخصوصية المجتمع التونسي، فإن ما يضفي هذا الطابع على رواية «باغندا» هو عنصر اللغة ومستويات الخطاب الذي تجسده خلفية شخصيات الرواية: من رئيس التحرير سي عبدالحميد وبراغماتيته، إلى لغة الراوي المنكهة بأدبيات يسارية في توصيف طبيعة الأماكن الشعبية، والمتكلم في الرواية كما يقول باختين منتج أيديولوجيا، وما كلماته إلا عينة من معتقداته، أضف إلى ذلك الألفاظ المتداولة بين المتاجرين بالمواد المحظورة والمضاربين في سوق المراهنات الرياضية، مثل مركاتو وطوطو كاليشو، إلى جانب المفردات الموحية بنزعة عنصرية، والعبارات الدخيلة في عالم الرياضة أولتراس، الدربي، الماتادور، ما يشير إلى التحول في الوعي والاهتمام لدى الفرد التونسي.
لعل تعليق عم صالح الشيوعي يلخص المشهد «ألم تلاحظ أن شعب الملاعب أكثر عددا من شعب الجوامع، الكرة اليوم هي أفيون الشعب بالعدل والقسطاس». وبهذا تنفتح الرواية على أشكال متباينة من الوعي، ما يشد المتلقي أكثر هو تمسك الراوي بتقديم روايات متعددة حول حادث السير الذي خلف إعاقة لدى «باغندا» وفي هذا السياق ترد أسماء كثيرة، «عماد بلخوجة»، لأن «باغندا» قد تودد إلى خصمه «عياض الجزيري»، كما يقع والد الحسناء سالي في دائرة الشبهة أيضا، كما لا يستبعد أن يكون ضحية الباندية والمراهنين في سوق اللعبة، يسمع الراوي من مقهى باب الجديد ما يتردد عن نجم الحي المحبوب، ومن هنا يبدأ بتحقيقه، فعلا أن شكري المبخوت قد تمكن من أن يرتدي جلد الصحافي، ويوظف أدواته لسبك روايته.