يكتب الناقد أن هذا الكتاب يندرج تحت لافتة "الكتابة المتقطعة"، لذلك جعله كاتبه عبارة عن تنويعات قد تبدو لكثيرين متباعدة، فنجد الكاتب ينتقل من مقالات تسائل المفاهيم إلى قراءة في أعمال كتاب آخرين إلى مقالين يمدحان الترجمة، كما ضمن كتابه نصوصاً ذات طابع تأملي، جاءت عناوينها على شكل أسئلة. وعليه يبدو أن عبد السلام بنعبد العالي مارس القفز والوثب بين المواضيع والأشكال في كتابه الجديد، لكن برشاقة بالغة.

»الكتابة بالقفز والوثب»

كتاب متعدد يدعو إلى إنزال الفلسفة إلى أرض الواقع

عبد الرحيم الخصار

 

ينطلق المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي من محاضرة للكاتب المعروف عبد الفتاح كيليطو، استلهم منها عنوان كتابه الجديد "الكتابة بالقفز والوثب" الصادر حديثاً عن دار المتوسط. وهو عنوان أخذه كيليطو نفسه عن المفكر الفرنسي ميشيل دي مونتين، في إشارة إلى تأليف الكتب عبر استطرادات وتنويعات، بدل تخصيصها لموضوع واحد وفق منهج تدرجي. ويتساءل بنعبد العالي عن السبب الذي يجعل الكاتب يؤلف كتاباً بتقنية "القفز والوثب" منتقلاً من موضوع إلى آخر، محاولاً إرجاع ذلك إلى الخوف من الوقوع في الملل، ملل الكاتب نفسه قبل ملل القارئ، بل إنه سيخلص إلى وجود شعور ثالث، هو ما سيسميه "ملل الكتابة"، أو ملل المنهج، مقدمة، تحليل فغاية.

 يمتد الكاتب المغربي بتأملاته إلى رولان بارت الذي وجد خيطاً رابطاً بين الكتابة المتقطعة من جهة، والموسيقى والكاتش من جهة أخرى. ثمة ما يشبه الرغبة في التخلص السريع هي ما يجمع هذه المتباعدات. يثني الباحث المغربي على الكتابة المتقطعة باعتبارها توفر إمكانات التواصل المفتوح، أو ما يسميه أهل البلاغة الاستطراد. إن الشذرة بالنسبة إليه، كما ذهب إلى ذلك رولان بارت، هي استفزاز للفكر لا تلخيص له، وعليه تصير الكتابة المتقطعة كتابة غير منتهية، تدعو القارئ إلى مواصلتها عبر الإسهام والمشاركة في التأمل والتأويل.

وإن كان كثيرون يرون في الكتابة الشذرية خلاصة خطاب يرى بنعبد العالي في المقابل أنها "حاضر متحرك، تومئ إلى وجهة من غير أن تدل على طريق". لذلك يعود إلى هايدغر الذي غير المفهوم المتداول للمؤلف، إذ لم يعد بالنسبة إليه الكائن الذي يمتلك المعرفة، ويحمل رسالة ومكلفاً بمهمة، بل هو ذلك الذي يشير ويومئ ويكون "وراء نمو وزيادة توغل في طرق التفكير".

فلاسفة جدد بأقنعة
انطلاقاً مما سبق، يتساءل الكاتب المغربي عن وظيفة الفلسفة اليوم، فينتقد الصورة التي يروجها البعض للفلسفة باعتبارها طريقاً نحو السعادة، أو جسراً لتجاوز المشكلات والوصول لهدوء أو طمأنينة ما. هذه مهمة تبشيرية بحسب بنعبد العالي بعيدة عن أرض الفلسفة. فهي على العكس من ذلك مجال الأسئلة ومجرى القلق، فضاء مفتوح للاختلاف والجدال، وطريق طويل تحفه التجربة.

ويبدو بنعبد العالي متفائلاً بخصوص الفسلفة في العالم العربي، لا سيما بعد ما عرفته من إقصاء وإهمال مع نهايات القرن الماضي، مشيداً بالانتعاشة التي عرفها حقل ترجمة الفلسفة، فضلاً عن تداولها في الصحافة العربية ومؤسسات التعليم. والحقيقة أن العالم اليوم أحوج إلى إعمال العقل أكثر من أي زمن مضى، خصوصاً مع هذا التنامي الطحلبي للأشكال التواصلية الجديدة التي صارت تعلي من شأن التفاهة، فتدفع إلى الواجهة بكائنات فارغة أُوكلت إليها، على ما يبدو، مهمة النيابة عن الجميع.

في الكتاب الجديد لعبد السلام بنعبد العالي نجد أنفسنا مدفوعين إلى التعاطف معه، وتقاسم فكرته بخصوص مسألة تبدو في غاية الأهمية، وهي أن أبرز مفكري العصر الحديث لم يقدموا أنفسهم كفلاسفة، بل كانوا يمارسون الفلسفة من وراء أقنعة أخرى مثل اللسانيات والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي وعلم الإناسة والنقد الفني في التشكيل والمسرح والسينما والموسيقى. ويستدل على ذلك بنخبة من الأسماء التي كان لها دور بارز في إنعاش النقاش الفسلفي خلال العقود الأخيرة، وإن كان تركيزه على المجتمع الثقافي الفرنسي في الغالب: ميشيل فوكو، رولان بارت، كلود ليفي ستراوش، بيار بورديو، موريس بلانشو، أمبرتو إيكو، جورج باطاي، أنطونين أرطو وجون لوك غودار، وغيرهم.

إن صاحب "الكتابة بيدين" يريد منّا أن نتخلص من تلك الصورة الثابتة عن مفهوم الفيلسوف، فهو لدى أغلبنا مفكر ميّت ينتمي إلى العصور الأولى، والحقيقة أن أسماء عدة من مختلف جهات العالم تنمتي إلى عصرنا الراهن أثْرت النقاش الفكري، وضخت فيه كثيراً من الحيوية قياساً إلى أسماء اعتدنا أن نسبغ عليها صفة الفيلسوف فقط، لأنها تنتمي إلى عصور سابقة نعتقد نحن أنها، هي فحسب، عصور الفلسفة.

يدعو بنعبد العالي إلى الإسهام في إنعاش الفلسفة بالعالم العربي، لكنه لا يتوجه إلى المشتغلين في حقلها وحسب، بل يتوسم مشاركة منتجة من لدن أساتذة اللغة والدراسات الأدبية والأبحاث التاريخية والعلوم الاجتماعية، مذكراً بعهد طه حسين وسلامة موسى ومحمد عبده، حين تم إحداث ثورات فكرية من خلال النقد الأدبي.

يدعو الكاتب المغربي أيضاً، في مشروعه الفكري، وعلى مدى سنين، إلى إنزال الفلسفة والنقد من سماء التجريد إلى أرض الواقع، إذ يريد منهما أن يناقشا بالأساس الحياة اليومية للناس، ما يشغلهم، ما هو قريب منهم، لا ما يبدو بعيداً ومجرداً. ألم يفرد رولان بارت، منظّر البنيوية، كتاباً عن الموضة وكتاباً آخر عن فن التصوير وكتاباً ثالثاً عن فن العيش المشترك؟ أليس كتابه "أسطوريات" بحثاً في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الفرنسي؟ إذ غدت هذه الأحداث اليومية هي الأساطير الراهنة في حياة الناس.

هذا ما سيفعله أيضاً بنعبد العالي في كتابه اللافت "الفلسفة فناً للعيش"، إ ناقش فلسفياً كثيراً من المواضيع التي تشغل الناس، وتشكل مدار حياتهم اليومية، مثل كرة القدم والـ "فيسبوك" والطعام والهجرة.

الفلسفة في مواجهة البلاهة
في سياق مواز، تغيّر مفهوم النقد الفلسفي بدخول وسائط جديدة، أبرزها الإعلام. لم تعد الفلسفة في مواجهة مباشرة مع الأيديولوجيا لفضح أشكال الاستلاب الفكري والاجتماعي، بل صار لها دور جديد وهو مواجهة البلاهة. يقول بنعبد العالي في فصل (الفلسفة ليست وصفات طبية)، "خصمُ الفلسفة اليوم هو البلاهات والترهات التي يصنعها مجتمع الفرجة"، ويلجأ المفكر المغربي إلى حقل الأدب ليستعير تعريفاً للبلاهة من الروائي ميلان كونديرا: "إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة". غير أنه يستطرد مستعيناً بجان كوكتو، "إن مأساة عصرنا هي كون البلاهة تفكر".

 وكعادته في التقاطع مع الأحداث الراهنة التي تشغل الناس، يفتح صاحب "الفلسفة فناً للعيش" نقاشاً حول جائحة كورونا، ويتوقف عند ما أحدثته من تغيير في المفاهيم: الفرد، الدولة، الحداثة، العلم، اليقين. فالدول "القوية" لم تعد قوية أمام استفحال الوباء. كما يعود إلى "السخرية" التي تعامل بها الناس، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، مع كورونا في بداية ظهورها، مؤكداً ما ذهب إليه الروائي الفرنسي رومان غاري في اعتبار السخرية "نوعاً من التفوق الوهمي للإنسان على ما يحدث له". يعيد بنعبد العالي صياغة غاري فيرى أن السخرية "تحكّم وهمي في مجريات الأمور، وعلامة على إحساس عميق بهول الفاجعة".

لا يفوت بنعبد العالي أن يجدد سؤاله عن وظيفة المثقف في عصرنا الراهن. إنه لم يعد صاحب مهمة إقناعية، فقد تراجع عهد الوثوقيات، ولم تعد المعرفة واحدة ومسلّماً بها، فالمثقف بحسب صاحب "الكتابة بالقفز والوثب" لم يعد مجبراً على إقناع الناس بحقيقة اهتدى إليها، ولا مكلفاً بمهمة نشر الوعي، بل تحولت وظيفته إلى "تغيير نظام الحقيقة الذي يعيشون في حضنه". لم تعد وظيفة المثقف هي "إزعاج السلطة" وحسب، كما شاع في عهد سارتر. بل صارت وظيفته، على ما يبدو، هي إزعاج الجميع تقريباً، والعمل على إخراجهم من حال الطمأنينة المتوهمة إزاء أفكارهم وأوضاعهم.

ولأن الكتاب جاء تحت لافتة "الكتابة المتقطعة"، فإن صاحبه جعله عبارة عن تنويعات قد تبدو لكثيرين متباعدة، فنجد الكاتب ينتقل من مقالات تسائل المفاهيم إلى قراءة في أعمال عبدالله العروي وعبدالفتاح كيليطو إلى مقالين يمدحان الترجمة، بل إنه اختار أن يقدم في الكتابة ترجمته للدرس الافتتاحي للصينية آن تشينغ، أستاذة التاريخ الثقافي للصين بكوليج دو فرانس. كما ضمن كتابه نصوصاً ذات طابع تأملي، جاءت عناوينها على شكل أسئلة، "هل فقد القمر سحره؟"، "هل مازال بإمكاننا أن نخلد إلى الوحدة؟"، "هل فقدنا القدرة على التمييز؟". وعليه يبدو أن عبدالسلام بنعبد العالي مارس القفز والوثب بين المواضيع والأشكال في كتابه الجديد، لكن برشاقة بالغة.

 

اندبندنت عربية