لا أصدق أن الذاكرة خانته في السنوات الأخيرة، فهو الكاتب الذي كان ينهل دوما من نبع ذكرياته الذي لا ينضب. كان بذاكرته يقاوم النسيان والاندثار.
سألته مرة: أليست الذاكرة أساس الكتابة لديك؟ فأجابني: "الذاكرة عندي ليست مما تنطبق عليه كلمة الذاكرة بمعناها التقليدي. الكتابة عندي، فيما آمل، تتجاوز الزمنية، بمعنى أنها لا تُعنى لا بالماضي ولا الحاضر ولا المستقبل. لعلها تقع في منطقة ينتفي فيها الزمن نفسه، بحيث يصبح حضورا ماثلا دائما مستمرا. هذا الطموح نحو التغلب على الماضي والقضاء على فكرة الاندثار، فكرة أن الماضي ذهب وانقضى. الماضي لم ينقض، هو قائم وماثل، والحاضر مراوغ بطبيعته.
*****
في يناير 2012 كان آخر لقاءٍ لنا في شقته بشارع أحمد حشمت في الزمالك. كان على أعتاب السادسة والثمانين، ورغم ذلك بدا في صحة جسدية جيدة. كان كعادته ودودا وبشوشا ومُرحِبا، ولكنه بدا غائب الذهن بعض الشيء. "بيروح وبيجي"، قالت لي مدام جورجيت على التليفون عندما اتصلت، وكأنها تحذرني. تسامرنا، وسألني عن أصدقاء تعرف إليهم في برلين. "كيف حال ... ما اسم الذي أوصلنا إلى المطار؟" "نوربرت" قلت له متعجبا من أنه ما زال يتذكره، فهو لم يره سوى مرة واحدة أو مرتين، عندما مرّ نوربرت بسيارته قبل سنوات طويلة ليصحب الخراط وزوجته إلى المطار بعد انتهاء إقامته الأدبية في برلين.
في برلين أيضا كان لقائي الأول به في سبتمبر 2002، خلال الدورة الأولى من مهرجان برلين الدولي للأدب. في ليلة الافتتاح لمحته، ولم أكن أعرفه إلا من بعض أعماله، ومن صوره في الصحف. فوجئت بقصر قامته. كنت أتخيله صعيديا عملاقا. هتفت "أستاذ إدوار!"، فالتفت إليّ، وقابلني بابتسامته العريضة. عرفته بنفسي، فجلس جواري في القاعة الرئيسية من مسرح "برلينر إنسامبل" حيث كانت تنعقد ندوات مهرجان الأدب.
تكررت لقاءاتنا في الأيام التالية. أجريت معه حوار مطولا لإذاعة دويتشه فيله، وتمشيت معه كثيرا على ضفاف نهر الشبريه وفي الشوارع المحيطة بالمسرح الذي كان يديره في الخمسينات الشاعر والمسرحي برتولت بريشت. تحدثنا طبعا عن بريشت وأدبه، وعن تفضيله الحياة بعد الحرب في ألمانيا الشرقية الاشتراكية، كما حدثني عن الأعمال التي قرأها من الأدب الألماني، مترجمةً في معظم الأحيان إلى الإنجليزية. أبدى في حديثه الإذاعي لي إعجابا خاصا بأعمال هيرمان هيسه "لعالمه المحبب الذي أجد فيه تشابها أو تقاربا مع العالم الذي تسبح فيه كتاباتي، أعني عالم المكابدة الروحية."
راح يسرد لي ذكرياته عن ألمانيا التي دُعي إلى زيارتها مرات كثيرة. عندما رأى محطة فريدريش شتراسه الواقعة أمام المسرح، تذكر أنها كانت نقطة عبوره من برلين الشرقية إلى الغربية. ثم تذكر لقاءه بعبد الحكيم قاسم الذي سافر إلى برلين عام 1974 للمشاركة في ندوة أدبية، غير أن المقام امتد به هناك 11 عاماً.
أتذكر أمسية جمعتنا به - هيثم الورداني وأحمد فاروق وأنا - في مطعم يُدعى "قبو البطاطس" بجوار مسرح بريشت. ضحك الخراط عندما قلت له إن جونتر جراس خصص فصلا في روايته "طبل الصفيح" عنوانه "قبو البصل" يذهب إليه الناس ليبكوا ويرتاحوا. قال بضحكته المميزة: "لن نبكي، فنحن في قبو البطاطس لا البصل."
بذاكرة يقظة راح الخراط يحدثنا عن موضوعات شتى، عن فترة عمله في منظمة التضامن الأفرو-آسيوي، عن الوظيفة التي التهمت وقته كله، والتي كان يعتبرها رسالة مهمة، وعن تحرره من قيدها وتفرغه للكتابة بدون حاجز أو عائق. تذكر الخراط سفره إلى نيقوسيا مع يوسف السباعي في فبراير 1978 لحضور مؤتمر لمنظمة التضامن، ثم اغتيال السباعي في الفندق، واحتجاز بقية الوفد – وهو منهم - كرهائن. حكى لنا عن رحلتهم الأوديسية بالطائرة من مطار لارنكا، ورفض عدة دول – ليبيا وسوريا واليمن الجنوبية - هبوط الطائرة بمطاراتها، ثم الهبوط الاضطراري في جيبوتي لنفاد الوقود، ثم العودة إلى لارنكا مرة أخرى. حكى لنا أن الخاطفين استعانا به لكي يترجم ما يقولاه لسلطات المطارات المختلفة. كان الخراط يستعيد ما حدث، وكأنه عايشه بالأمس فقط.
*****
منذ لقائنا في برلين كنتُ حريصا على زيارته في بيته عندما أتواجد في القاهرة. وعندما جاء إلى برلين مرة أخرى في عام 2004 لقضاء عدة أسابيع في إطار مشروع "ديوان الشرق والغرب" الذي جمعه مع الروائي مارتين موزيباخ، انتهزتُ الفرصة ودعوته مع زوجته لقضاء عدة أيام في مدينة بوخوم حيث كنت أعيش. رغم اقترابه من الثمانين، كان لا يزال يتمتع بحيوية لافتة. سافرنا معا إلى دوسلدورف، وتجولنا في أحيائها وعلى ضفاف نهر الراين، وأبدى إدوار إعجابه بالبنايات الحداثية للمعماري الأمريكي-الكندي فرانك جيري، ثم واصلنا السفر إلى كولونيا، حيث زرنا كاتدرائيتها العتيقة، وجلسنا في مطعم شهير بالمدينة القديمة يقدم الأطعمة التقليدية وبيرة المدينة المعروفة باسم "كولش".
في بوخوم كان يختلي بنفسه أحيانا، ليستكمل بدأب كتابة قصص مجموعة "الغجرية ويوسف المخزنجي". وعندما كنت أطرق باب غرفته في المساء، وأسأل في حذر إذا كان قد انتهى من الكتابة لنتعشى معا، كان يقابلني بابتسامته العريضة ويقول بصوته العريض: "آه، خلاص، قفّلنا الدكان النهاردة".
خلال إقامته معنا في بوخوم، تجولنا كثيرا في أرجاء المدينة. وذات يوم، قمنا برحلة إلى مدينة مجاورة تدعى بوتروب، بها متحف للفنان يوزف ألبرس Josef Albers (1888 – 1976) الذي ولد في هذه المدينة. شخصيا، لم أكن أعرف أعمال الفنان، ولهذا قلت له: لا أعرف ما ينتظرنا هناك. لكن الخراط كان كعادته متحمسا لكل جديد.
قرأت فيما بعد أن ألبرس كان مهووسا بالتجريب، وسبر غور العلاقة بين الألوان بعضها ببعض، وبين تأثير الألوان والأشكال والخطوط على المتلقي. عدد كبير من لوحاته ليست سوى أربعة مربعات متداخلة أو ثلاثة، وكل مربع ملون بلون واحد. لم يكن ألبرس يخلط الألوان، بل يستخدمها كما تخرج من المصنع. رسم عددا كبيرا من هذه اللوحات منحها اسم "الاحتفاء بالمُرَبَع". تبدو هذه اللوحات بمثابة تكرار لا نهائي، مع تغير الألوان داخل المربعات. ورغم ذلك فإن المتأمل لهذه اللوحات، يلاحظ أنها تترك في كل مرة أثرا مختلفا في نفسه: ما بين دفء درجات الأصفر والبرتقالي، أو لهيب الأحمر، أو برود الأزرق والأخضر. كما أن شكل المربع نفسه يتغير بتغير اللون. كان الفنان يعكس المثل الشائع "المظاهر خداعة"، ليقول: المظهر وحده هو الصادق"، وهو الذي يترك الأثر الباقي.
انبهر الخراط بأعمال هذا الفنان، وراح يتنقل بين لوحة وأخرى مأخوذا، ثم قال لي وكأنه يكلم نفسه: ويقولون إنني أكرر نفسي. الفنان، الفنان الحقيقي، لا يكرر نفسه. كل لوحة هنا، وكل تنويعة، هي خلق جديد، رغم تشابهها مع اللوحات الأخرى. بعد انتهائنا من التجول في المتحف، سأل الخراط عن كتالوج المعرض، ورغم ارتفاع ثمنه اقتنى واحدا، وكان فرحا به كطفل تلقى هدية عيد الميلاد. وقال مؤكدا: سوف أكتب عن أعمال هذا الرجل.
لا أعرف إذا كان قد نشر مقالة عن يوزف ألبرس، لكني متأكد من أنه رأى في هذا الفنان صنوه في التجريب والتجويد.
هذا المعنى أكده الخراط في حوار مع القاصة غادة الحلواني عندما قال: "أظن أنني قرأت لكافكا، أو كاتب آخر ما، ثلاث أو أربع قصص متشابهة إلا في جملة واحدة أو جملتين، وكل قصة مختلفة عن الثانية، جملة واحدة تلقي بظلها على بقية العمل كله".
أنت محق يا إدوار، الكتابة عندك مختلفة، وتتجاوز الزمنية، والزمن.
عندما عدت لمطالعة بعض أعماله - مثل "ترابها زعفران" و"حجارة بوبيلو" و"طريق النسر" و"صخور السماء" - وجدت أنها ما زالت طازجة، لم تفقد دفئها، ولا مذاقها.
بسرعة أجد نفسي أدخل إلى عالم إدوار الخراط الحميم، ولا أحب أن أخرج منه بسرعة. نعم، على القارئ في البداية أن يعتاد بعض مفرداته المهجورة، ولكن مع الوقت تصبح لغته تحديدا هي جوهر متعة القراءة. على الأقل بالنسبة لي.
برحيل إدوار يتوارى كاتب آخر أحببتُ أعماله وشخصه، ويتوارى جزء من مصر الليبرالية
أنظرُ إلى صورتك المبتسمة، وأسمعُ ضحكتك، وأتذكر تفاؤلك الدائم بمستقبل أفضل، بقدرة مصر على تجاوز المحن، كما قلت لي في آخر حوار صحفي أجريته معك عام 2010، بأنها ستظل "بلد التسامح، والتعايش بين مختلف المعتقدات والطوائف والأفكار".
وداعا إدوار الخراط.
8888888888888888
إدوار الخراط: ضد التوريث
ومؤمن بأن مصر بلد التسامح
عندما رأيته وتحدثت معه للمرة الأولى في مهرجان برلين الدولي للأدب عام 2002 لم يتبادر إلى ذهني أبداً أنه في السادسة والسبعين من عمره. كان ذا لياقة بدنية جيدة، وحضور ذهني يقظ، وفكر شاب منفتح. هذا الانطباع ما زال يخامر المرء عندما يتحدث مع صاحب "ترابها زعفران" الذي سيبلغ في مارس (آذار) المقبل الرابعة والثمانين.
أهمية الحوار
منذ عقود طويلة يقيم الخراط في القاهرة، رغم ذلك ما زال يعتبر نفسه إسكندرانياً بالأساس. هناك ولد عام 1926 حيث كانت تلك المدينة بوتقة انصهرت فيها ثقافات عديدة، من المصرية واليونانية والرومانية، مروراً بالعربية ووصولاً إلى الثقافات الأوروبية المعاصرة. "كانت الإسكندرية بالفعل مثالاً ونموذجاً لما يسمى بالمدينة الكوزموبوليتية التي تجتمع فيها وتنصهر عدة أجناس وطوائف ولغات مختلفة في نوع من التناغم والتناسق الذي لا نشوز فيه"، يقول الخراط لي. ويضيف صاحب "طريق النسر": "نشأتي في تلك المدينة علمتني أهمية الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة بشكل لا إرادي".
- إسكندرية الثلاثينيات والأربعينيات، تلك المدينة الكوزموبوليتية، كيف أضحت الآن؟ هل حل محل ذلك الانفتاح ضيقُ أفق فكري وعصبية دينية مقيتة تسفر عن وجهها في مصادمات وحوادث كالتي حدثت في نجع حمادي أو الكشح؟
- الخراط يرى أن "الخلفية التي تعتمد الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة ما زالت قائمة وراسخة، وما زال يؤمن بأن "مصر بطبيعتها قادرة على امتصاص واستيعاب هذه الاختلافات، بل وهضمها بحيث يتكون منها نوع التناغم والانسجام في النهاية مهما بدا عكس ذلك في بعض الأحيان".
- ولكن، ألا يبدو كلام مؤلف "صخور السماء" طوباوياً ومثالياً إزاء الأحداث الطائفية التي تتفجر بين الحين والآخر، والتي لا تعالج علاجاً حقيقياً. ألا يسود في مصر خطاب يلوك بشكل آلي، بل فلكلوري، عبارات معينة عن "الوحدة الوطنية" والنسيج الوطني الواحد"، وألا تبدو تلك العبارات مستهلكة ومتناقضة تماماً مع الواقع.
- "هذا الطرح يحمل قدراً كبيراً من التشاؤم"، يرد الخراط الذي يؤكد دوماً على مصريته، ولا يقبل أبداً أن يصفه أحد بأنه كاتب قبطي، ويضيف: "ما زلت أعتقد أن مصر بلد التسامح، بلد التعايش بين مختلف المعتقدات والطوائف والأفكار. ما زلت على قدر من التفاؤل في هذا المجال".
- سألته عن توقعاته بشأن السؤال الذي يشغل بال الجميع بخصوص التوريث وانتقال السلطة في مصر، فقال: "أُفضّل باستمرار أن يكون انتقال السلطة عن طريق ديمقراطي حقيقي نزيه، أما التوريث بقرار سلطوي فأظن أنه غير مناسب وغير مطلوب على الإطلاق." هذا هو ما يراه الخراط صحيحاً، ولكن كيف يقرأ الواقع السياسي المصري الآن؟ ضحك صاحب "حيطان عالية" وقال: "والله مش عارف أقرأه كويس".
مشيد الجسور بامتياز
ينطبق على الخراط بالفعل وصف "كاتب موسوعي". إنه روائي وشاعر وقاص، كما أنه ناقد أدبي ثاقب النظر، صك تعبير "الحساسية الجديدة" الذي يعبر عن تيار أدبي يمثل قطيعة مع تراث نجيب محفوظ الروائي. بروايته "رامة والتنين" قدم المثال الأنصع على ما يقصده بذلك التعبير، فكسر التسلسل الزمني، ولم يهتم كثيراً بوصف الشخصيات من الخارج، بل بالعالم الداخلي للشخصيات. كما شمل اهتمام الخراط الفن التشكيلي أيضاً، وكتب دراسات مهمة عن أحمد مرسي وعدلي رزق الله، وساهم بالترجمة في نشر والوعي بالفن التشكيلي، ومن آخر كتبه في هذا المجال كتاب "في نور آخر" الذي صدر حديثاً عن المشروع القومي للترجمة في مصر.
في حديثه معي يرجع الخراط ذلك إلى نشأته الفكرية في "سنوات الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات التي كانت فترة انفتاح وتفتح"، كما أن نهمه إلى القراءة جعله يطالع كل ما تقع عليه يداه، كما كانت الترجمة طريقاً سار عليه مؤلف "ساعات الكبرياء" ليتعرف إلى ثقافات وآداب أخرى.
وقد يترك العمل في الترجمة أثراً إبداعياً على أعمال الأديب، مثلما حدث مع يحيى حقي الذي ترجم رواية الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ "لاعب الشطرنج" فأثرت – كما اعترف هو – في اختياره للتقنية التي كتب بها رواية "البوسطجي". هل هناك تأثير مشابه لدى الخراط؟ يقول صاحب "مضارب الأهواء" إن "هناك تأثيراً، لا شك، لكني لا أستطيع أن أضع يدي بدقة على شيء محدد".
نهم لا يشبع للقراءة
ما زال الخراط نهماً للقراءة، وما زال يتابع قراءة الجديد من الأدب العربي والعالمي. لم يرد أن يبوح لي بآخر العناوين التي قرأها، لأنه لا يريد أن يذكر عنواناً ويغفل آخر يستحق الذكر. غير أنه يؤكد حبه للشعر والفلسفة بصورة خاصة، إلى جانب عشقه للروايات البوليسية. قهقه الخراط عندما قلت له إن الروائية النمساوية إلفريده يلينك، الحائزة على جائزة نوبل عام 2004، لم تعد تقرأ سوى الروايات البوليسية ومجلات الموضة. وعندما سألته عن سبب افتقادنا في العالم العربي إلى روايات بوليسية جيدة، أطلق ضحكة مجلجلة وقال: "لأن ما عندناش مجلات موضة". ثم أضاف بعد هنيهة: "الرواية البوليسية ليست شيئاً سهلاً، ولا فناً مبذولاً كما يُعتقد أحياناً، بل فن يعتمد على الاحتراف والدقة والذكاء ومعرفة وإحاطة، هذا النوع يشوقني أنا شخصياً؛ كأنها نوع من أنواع لعبة الشطرنج العقلية الذكية".
حاوره في القاهرة: سمير جريس
(نشر في موقع "دويتشه فيله" في فبراير 2010)