في آخر أعمالها تبدو الكاتبة ساخرة من العالم حولها، ولكنها مكترثة به، في الوقت نفسه. تريد أن تقول لهذا العالم الذي يتمزّق في الدّاخل وفي الخارج مرة واحدة، فتأتي الكتابة مثل فعل تلقائي. وبينما نتنقل بين قصص أغوتا نتذكر شخصيات رواياتها، فكلها شخصيات قلقة تتساءل عن الموت، وعن الحب.

«سيّان» .. العالمُ في حالة التباس

قراءة لرواية أغوتا كريستوف

تغريد عبد العال

 

وأنا أقرأ أغوتا كريستوف، الكاتبة المجريّة التي تكتب باللّغة الفرنسية، أشعر أن العالم في خصام مع كلّ شيء، حتّى مع الأسماء والأشياء. فالكاتبة التي أجبرت على ترك بلدها في عمر الواحدة والعشرين، بعد الثّورة الهنغارية، جعلت المكان ثيمة أساسيّة في عالمها الروائي والقصصي، وكأن رواياتها هي سيرة ذاك التشظّي والاغتراب الدّاخلي، وقراءة لحياة المنفى وما حوله قراءة أخرى، هي أشبه بالنّظر من داخله إلى الخارج الذي يتفكّك هو أيضًا ويتداعى.
فمنذ روايتيها (الكذبة الثالثة)، و(أمس)، التي ترجمهما الشّاعر اللّبناني، بسّام حجار، وروايتي (البرهان)، و(الدفتر الكبير)، التي ترجمهما محمد آيت حنا، تبدو تلك العلاقة الملتبسة مع المكان والمنفى بمعناها الإنساني، وما يحدث داخل الذات من ألم وهزيمة. ويتضح ذلك أكثر في مجموعتها القصصية الجديدة (سيّان)، الصادرة ترجمتها حديثًا عن منشورات الجمل، بترجمة محمد آيت حنا، وهي آخر أعمال أغوتا كريستوف المنشورة. تبدو الكاتبة التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة ساخرة من العالم حولها، ولكنها مكترثة به، في الوقت نفسه. تريد أن تقول (سيّان) لهذا العالم الذي يتمزّق في الدّاخل وفي الخارج مرة واحدة، فتأتي الكتابة مثل فعل تلقائي، مثل ذلك الحادث الذي اكتشفته بينما هي مستمتعة بالصّباح في قصّة لها داخل المجموعة بعنوان السّاطور.
وهكذا يمكننا حين نقرأ القصص قراءة رؤية أغوتا كريستوف للكتابة، من خلال تفاصيل القصص. ففي قصة معنونة باسم (الكاتب)، تكتب أغوتا عن كاتب يريد كتابة كل شيء حتى 

يجيبه صوت متهكم في نهاية المطاف، حسنًا بني، أكتب كل شيء، لكن لا تكتب أكثر من ذلك. فهل تسخر من الكتابة؟ وهل هي فعلًا بالنسبة لها هي الكتابة عن كل شيء، وفي الوقت نفسه، عن أشياء محددة؟ لعلها تجيب هذا السؤال في قصة (سيان)، حين تقول: سيان، في جميع الأحوال، لا نكون بخير في أي مكان.
وبهذا، تكتب أغوتا عن نهاية غير مهمة، على عكس رواياتها التي تختمها بمفاجآت درامية. ففي كل قصة، أرى ذلك الخيط الذي لا يودي إلى مكان، لكن معنى ما يشع كأنه البداية من جديد، حيث تقول إن الأزقة هي طموح ذلك الموسيقي، الذي يراه الأطفال ولا يأبهون إن كان حيًا، أو ميتًا. تنظر أغوتا إلى الحياة وكأنها لصة، فأشعر أنها كانت تنهل منها الحكايا لتكتب نصًا مختلفًا، هكذا تقول في قصة بعنوان (اللص): “صباحً، حين تستيقظون، أحصوا أموالكم، وتفقدوا مجوهراتكم، لن تجدوا شيئًا ناقصًا، لا شيء سوى يوم من أيام حياتكم”.
نتنقل بين قصص أغوتا، ونتذكر شخصيات رواياتها أيضًا، فكلها شخصيات قلقة تتساءل عن كل شيء، عن المكان الذي يزعج، ولا يزعج، في الوقت نفسه، عن الموت، وعن الحب، والأرقام الخاطئة. ففي قصة (الأرقام الخاطئة)، نصادف لقاء بالغلط بين امرأة ورجل عن طريق الأرقام الخاطئة، الأمر الذي يجعلنا نسأل: هل الحياة فعلًا حدث عابر مرَّ مصادفة. ففي النهاية تجد المرأة الشخص الحقيقي الذي تجلس معه، وليس ذاك الذي تعثر عليه عن طريق الأرقام الخاطئة. الخطأ ليس حقيقيًا أحيانًا، تقول أغوتا بلغتها الخاصة وهي تتركنا نراقب الحياة وكأنها تحدث في الحقيقة والكذبة معًا.
في (الكذبة الثالثة)، ألمس ذلك الإلتباس بين التوأم كلاوس ولوكاس، وتشابه الاسمين أيضًا الذي يوحي بتشظي الهويات والانزياح عنها، فأقع في نهاية الرواية على مفاجأة أن من يحكي 

في مفتتح الرواية هو كلاوس. فهذا الغموض الذي ترافقه السّلاسة والبساطة ما هو الا دعوة لمعرفة كيف يتباعد الإنسان مع نفسه، وكيف يبتعد عنها، فلوكاس تهمّه العودة إلى تفاصيل حياته الماضية، وعندما لا يستطيع ذلك ينتحر. إنها الغربة عن الذات حين تصبح غربة أيضًا عن المكان، وغربة كأنها تشبه إلى حد كبير تشظي الاسمين: لوكاس وكلاوس. وهنا لا بد أن أذكر تشابه اسم أغوتا كريستوف مع أغاتا كريستي، رغم بعد عوالمهما الأدبية والحياتية.
(
الكذبة الثالثة) هي الجزء الثالث من ثلاثية التوأم، التي تتألف من (البرهان)، و(الدفتر الكبير)، و(الكذبة الثالثة). وكأنها في الكذبة الثالثة تريد أن تقول شيئًا عن أوروبا القرن العشرين، حيث الكذبة لا تختلف عن الحقيقة، والتاريخ يعتمد على من يسرده ومن يحكيه ويرويه. لقد جعلت الكاتبة لكل جزء من الثلاثية عالمًا مستقلًا بذاته، رغم الخيط الذي يجمعها سويًا.
وأما “أمس”، التي ترجمها أيضا، بسام حجار، فهي أيضًا تتمحور حول شخص يترك بلده، وهكذا نشعر كم تتقاطع حياتها مع رواياتها، ولكنها في الوقت نفسه ليست سيرة ذاتية، وليست وصفًا للحرب، انها قصص نشعر معها أننا معنيون في هذا التفكك، وكأنه نتيجة للحرب في لغة منسابة وسلسة، وبإيجاز وعمق في الوقت نفسه، في عالم غير مكترث للفرد والإنسان.
وبالعودة إلى إحدى قصصها في مجموعتها الجديدة (سيان)، المعنونة بـ(المنزل)، يمكننا أن نشعر كم تطغى فكرة الرحيل على رواياتها وقصصها. فها هي تسرد قصة الرجل الذي أراد إعادة بناء منزله الأول، وكأنها إشارة من هذه الروائية التي تطمح أن ترسم ملامح الماضي، وكأن الانسان يحاول دائمًا أن يبني منزلهالأول، كما كان يحاول ذلك لوكاس في (الكذبة الثالثة  
قراءة أغوتا كريستوف تعيدنا دائمًا إلى السؤال عن أدب الحرب، وكأن الحرب تحدث في داخلنا، وها هي في مجموعتها التي كتبتها مؤخرًا “سيان”، تقول في جملة ربما توجز فيها رؤيتها: سأعود إلى بيتي، بيتي الذي لم يكن لي يومًا، أو كان لي في زمن أبعد من أن أتذكره، لأنه لم يكن أبدًا، أو ما كان حقًا بيتي. إنها نظرة الروائية التي تجيد النحت داخل الذات، لترى أن بيتها ومكانها هو ربما لم يكن مكانها يومًا. وهذا هو الخيط الرفيع الذي تحيك فيه أغوتا رواياتها من غرابة أن تكون دائمًا في مكان آخر، ويكون العالم دائمًا في حالة التباس.

 

عن ضفة ثالثة