عاد الكاتب أحمد زغلول الشيطي بعد انقطاع لينشر روايته الثانية «صخرة هليوبوليس» عام 2019، وكان آخر عهد القراء بهذا الكاتب المُقلّ، حين كتب كتابا سرديا صغيرا بعنوان «مائة خطوة من الثورة» حكى فيه بعض وقائع ما شاهده في ميدان التحرير عام ٢٠١١م. ونقدم هنا قراءة لهذه الرواية الأخيرة.

في رواية «صخرة هليوبوليس»

المواطن يوسف العَلَمي يتذكّر وينتظر

إبراهيم منصـور

 

الشيطي المولود في دمياط عام ١٩٦١م، وتخرج في كلية الحقوق عام ١٩٨٣م، كان قد لفت انتباه الأوساط الأدبية حين كتب رواية قصيرة نشرها عام ١٩٩٠م،  بعنوان "ورود سامة لصقر" فرحّب بها الكُتّاب والنقاد. في "صخرة هليوبوليس" يعود الراوي "يوسف العلمي" إلى مدينته القديمة دمياط لكي يعاين حالة المقبرة التي دُفنت فيها أمه، ويبحث عن مقبرة أخرى كان أبوه قد دُفن فيها قبلها، هذه العودة ستأخذنا إلى السنوات التي عاش فيها البطل/ السارد في دمياط.

يقيم يوسف في ضاحية هليوبوليس، التي لم تعد ضاحية ولم يعد اسمها هليوبوليس، بل هي حي "مصر الجديدة" المزدحم جدا، حيث قصر "البارون إمبان" Baron Empain (١٨٥٢-١٩٢٩م) البلجيكي الطموح الذي أسس "المدينة الجديدة" منذ مائة عام، وقد أوصى بأن يدفن في سرداب تحت "كنيسة البازيليك" التي بناها هناك، أما يوسف فهو وافد على المكان، وجوده فيه سطحيّ، وليس متجذرا مثل وجود إمبان المؤسّس.

ينتقل يوسف من هليوبوليس بسيارته إلى دمياط، للبحث عن المقبرة، لكنه يشغلنا بما يمثله له الأب والأم، وقد غادرا الدنيا من زمن بعيد، غادر الأب مبكرا جدا، حينما كان الابن في السادسة، وأصبحت عظامه ضمن "العضّامة" التي جُمعت فيها عظام الموتى الذين دفنوا في مدافن الصدقة، وقد أزيلت لتوسعة جامع عمرو بن العاص، ربما كانت أهم ذكرى عن الأب ذكرى مرقده في المستشفى وزيارات الأم له وقد اصطحبت الصبي/ الراوي فيأخذ بلُبّه رؤيته ممرات المستشفى بما فيها من أشجار ونباتات منسّقة. وسيبقى من ذكرى الأب في ذاكرة الولد يوسف دفتر كان يقيد فيه الأب المبالغ التي اشترى بها الزبائن بضاعته القليلة من الأقمشة يجلبها من المحلة الكبرى، ومن بعض التجار في دمياط، ومن شارع الأزهر في القاهرة، ويبيعها بالتقسيط للزبائن في محلات إقامتهم.

أما الأم فقد ترك لها الأب جنينا في بطنها، وأسرة كبيرة العدد عديمة الدخل، لذلك فإنها ستدرّب ابنها الصغير على تتبُّع الزبائن لتحصيل الجنيهات التي سجلها الأب في الدفتر، وحينما تنفد تلك المديونيات، تصبح الأسرة بلا مورد رزق، فترسل الأم بولديها الكبيرين إلى ورش النجارة، ويبقى الصبي الصغير يوسف منتظما في دراسته في المدارس، سيتدرب يوسف على العمل في سن مبكرة جدا، فالأم عزمت على وصل ما انقطع من تجارة الأب، هو عمل محببٌ إليه، لذلك سوف يمتعنا الراوي بهذا الموضع من السرد إذ يقول: "حملتُ اللفّة الصغيرة، وخرجتُ من البيت، نبهتْ عليّ أمي أن أضغط على الجرس مرة واحدة، وأن أخلع حذائي قبل أن أدخل، وأن أسلّم الأبلة "أنهار" اللفة، وحين أستلم النقود أضعها في جيبي وأعود سريعا"

لن تدوم نعمة العمل اللين في كنف الأم والستات، فالصبي سوف يكبر قليلا، وسوف يُطلب منه أن يعمل أيضا أثناء العام الدراسي وفي الصيف، فيعرف حرفا عديدة أهمها الحفر على الخشب (الأويما) وأعمالا أخرى، حتى ينهي دراسته في الجامعة فيعمل بمهنة المحاماة، في وقت أصبحت "مهنة مهانة" فيظل يعاني الفقر.  

الراوي في صخرة هليوبوليس، لم ينس تفصيلة من تفاصيل طفولته التي كانت تبشر بحياة "مقبولة" في ظل أبٍ مجتهد، وأمٍ واعية، وفاة الأب كانت نقطة تحول، أما وفاة الأم فكانت أشد فتكا بالأسرة، لأنها جعلت الفقر يعضّ الأسرة عضّا، والولد الصغير لا ينسى بؤس تلك الحياة. فبعد وفاة الأم سوف يباع البيت الذي كان يؤوي الأسرة وخاصة الراوي الذي أصبح شابا يعيش وحده بعد زواج إخوته، لكن الرأي السائد في الأسرة كان مُجْمعا على التخلص من البيت بصرف النظر عن ظروف الراوي، فيذهب مع سمسار لمعاينة شقة كي يسكن فيها وحيدا، فيرى خرابة تعيث فيها الفئران، وعند هذه النقطة تنتهي حياته في دمياط. وسوف نعرف من تفاصيل حياته في القاهرة، حسب زمن القصة، أنه كان وقت الدراسة بجامعة القاهرة يقيم في منطقة عشوائية جنوب حلوان بجوار خط المترو تسمى "العيسوية" أما في زمن السَّرد فالراوي في القاهرة ولم يخبرنا سوى أنه كان يعمل في شركة مستشارا قانونيا، وأنه كان متزوجا، ولديه طفلتان، ثم نعلم أنه قد طلّق زوجته بعد خلافات معه جعلتها تتبّعْهُ في مكان عمله في المحكمة فتناديه بالشيوعي المفتقد للرجولة.

بناء الزمن في رواية "صخرة هليوبوليس" بناء دائري، والكاتب المولع بفن السينما يعرف جيدا تكنيك "الاستباق" و"الاسترجاع" ولأن الكاتب قد جعل الراوي/البطل ينشغل بمطاردة فأر في شقته منذ بداية السرد ثم عاد إليه ليختم به الرواية، فإن مصيدة الفئران في الرواية تذكرنا بفيلم أورسون ويلز "المواطن كين" Citizen Kane  ( ١٩٤١م)  الذي يبدأ فيه السرد بترديد كلمة  "روزبد" Rosebud الغامضة، وينتهي الفيلم بظهور زلّاجة الطفل وقد كُتبت عليها كلمة "روزبد".

يعود المواطن يوسف العلمي إلى مدينته دمياط لا لكي يسترجع ملاعب الصبا وذكريات الشباب، بل لكي يختبر ما كان متأكدا من حدوثه وهو انهيار القيم في مجتمع كان يوما ينمو اقتصاديا على قاعدة شبه صناعية هي ما نسميه "الصناعة التحويلية" حيث تستورد الأخشاب من روسيا وبلغاريا والسويد ورومانيا، وتقوم الورش الصغيرة المقسمة إلى تخصصات عديدة بتصنيع الأخشاب وتحويلها إلى أثاث متنوع، نستطيع أن نسميه "فنّا جماعيا" ويسمى في دمياط "الموبيليا" وقد ذكر البطل / الراوي مظاهر التفسخ الأخلاقي في ذلك المجتمع من خلال أمثلة فيها عدوان على الفطرة الطبيعية، فالأطفال لا يراعى سنهم الغض ولا براءتهم وعظامهم اللينة، فيعملون في الورش وقد يتعرضون للتعذيب، أما مجتمع الأعمال – تجار الخشب وأصحاب معارض الأثاث وأصحاب مراكب الصيد- ففيه من موبقات السلوك "زنا المحارم" و"الخيانات الزوجية" وكلها مظاهر اجتماعية يريد السرد أن يعادل بينها وبين الظلم الاقتصادي الذي يمارسه التجار على الصنّاع المهرة الذين يبيعون منتجهم بالخسارة.

الأماكن التي يرد ذكرها في الرواية هي أماكن حقيقية: دمياط ورأس البر وقرية الأم "ميت الشيوخ" جنوبي دمياط، و" دار السلام" جنوبي القاهرة، كذلك الشوارع والمباني: مستشفى الحميات في دمياط، سوق السمك، وشارع الجلاء، وقسم الشرطة الذي كان بيت أسرة الراوي مجاورا له ويسمى "البندر"، ومضرب الأرز، وحارة "معرّي" وشارع بورسعيد في رأس البر،  كل هذه التفاصيل جعلت الكاتب الذي يحترف المحاماة يضع نصا احترازيا في أول الرواية يقول "أي تشابه مع أي أشخاص، أو أزمنة، أو أماكن، محضُ وهمٍ و لا يعولُ عليه" وقد يقول قارئ أو ناقد وما قيمة مثل هذا الاحتراز إذا كنا نطالع نص رواية أدبية تقوم على التّخْييل، لكني وجدت في الرواية موضعين قد يبرران لجوء الكاتب لهذا الاحتراز الأول فصل صغير بعنوان  "عوض "  كنت أتمنى لو حذفه الكاتب، فهو يذكر فيه محاميا شهيرا كان يحترف السياسة وسُجن، ثم خرج من السجن في آخر عهد السادات، وإن رغبتي في حذف الفصل ليس لسبب أخلاقي ولا قانوني جنائي، لكن لسبب فنّيّ بحت، حيث جاءت شخصية المحامي على لسان الراوي للتعريض به ولا قيمة لوجوده في السرد. أما الموضع الثاني الذي ربما يكون للكاتب الحق في الاحتراز من أجله فهو الموضع الذي ذُكِرَت فيه مطلقة الراوي /البطل فهي تسبّه في رُدهة المحكمة أمام الموظفين والمحامين والجمهور: "انت فاكر نفسك راجل يا شيوعي يا ابن الكلب"

هو يعترف بالتصرف في شهوته الجنسية خارج جسدها غير عابئ برغبتها وحقوقها الزوجية. لكن السرد لا يفلت الفرصة لكي يعلق ساخرا على الاتهام بالشيوعية في زمن الرأسمالية المتوحشة: "اخترت الانسحاب دون رد، ودون دراية إن كنت شيوعيا أم لا ؟ وما أثر هذا الاتهام على المشاهد في زمن زالت فيه الدول الشيوعية وتحولت إلى الرأسمالية ؟ أنا نفسي كنت أبتهج لرؤية "جيمي كارتر" الوسيم الذي يشبه نجوم السينما بما لا يقارن مع الزعيم الروسي "بريجنيف" الذي يشبه اصطلاح الستار الحديدي"

في رواية "صخرة هليوبوليس" للكاتب أحمد زغلول الشيطي، جاء السرد في كثير من صفحات الرواية على لسان الصبي يوسف في صحبته لأمه، ولخاله، وفي لعبه، وفي معاناته، وقد ذكرنا بالروايات الشهيرة التي اعتمد كتابها رؤية الصبي الراوي، وكلها روايات تعتمد على جانب من السيرة الذاتية لكتابها، مثل "الأيام" لطه حسين (١٨٨٩-١٩٧٣م) الجزء الأول، حيث الصبي يرى ويسمع أخطاء الكبار ويسجّلها، ثم يصوّر مأساته هو، وكذلك رواية "أيام الإنسان السبعة " لعبد الحكيم قاسم (١٩٣٥- ١٩٩٠م) حيث يقوم الصبي عبد العزيز بتقديم عالم الفلاحين بمزاياه وعيوبه من خلال عينه هو.

لكن قسما آخر من السرد يرويه يوسف الرجل المحامي المقيم في "هليوبوليس" وهنا لا تكون الأحداث المروية إلا إعادة بناء لما تهدم من تاريخ الأسرة، هو لا يريد لأبيه الذي مات شابا أن يضيع في زحام المباني والفلوس، فقد كان الأب – وهو البائع السّرِّيح-  يتصرف كأبناء الطبقة الوسطى: "نزهة رأس البر، زهرات الفل معقودة ومعلقة خلف أذنه، العطر النادر الذي يأسر قلوب النساء، جلب فطائر "دعدور" المحلاة بالعسل العامرة بالمكسرات والزبيب.. اقتناء نظارات الشمس الفاخرة  ... أناقة الملبس بمقترحات واضحة من "فاروق صابون" صديقه الأثير ترزي الجاكت والبنطلون بجوار سوق السمك الصغير، الجرأة في أن يشتري جهاز تليفزيون سنة ١٩٦٦"

والسارد الواعي جدا لا تغويه الحكايات، فما أسرع ما يوقف السرد، و"الوقفة" Pause

عنده ليست إلا انتقالا في الزمن للأمام أو للخلف، هو الآن في زمن السرد: "لقد دفن في مقبرة لا تحمل شاهدا مدونا عليها اسمه، لقد كانت مقبرة أهل "نادية" زوجة أخيه خليل" لا يصح أن نطالب الروائي بالحيادية في السرد إذا كان في منطقة غير بعيد من السيرة الذاتية، لكننا نحبذ لو استطاع أن ينجو من الأحكام وإطلاق الشعارات وأن يلتزم بأن "يصوّر ولا يقرّر" والكاتب هنا أستاذ في هذا النمط من السرد، فهو يملك قدرة فذة على تنويع أنماط الساردين والانتقال من السرد بضمير المتكلم "أنا"  إلى ضمير الراوي العليم "هو"، ثم العودة في يسر وبراعة لا مزيد عليها.  

من عجائب القدر أن "يوسف " يسكن في شقة أمام قصر" البارون إمبان" في مصر الجديدة، وأن بيتهم القديم الذي فرّطت فيه الأسرة كان بالقرب من نهاية خط السكة الحديد التي أنشأها إمبان بين المنصورة ودمياط باسم "قطار الدلتا" فهل كان ذلك مدعاة لتسمية الرواية باسم "صخرة هليوبوليس" فكأنها الصخرة التي تتحطم عليها آمال "الشقيانين" من المصريين، وكأن المقابلة بين مصير جثة إمبان المعلوم لكافة الخلق، ومصير جثة والد يوسف التي ضاعت بين عظام جموع الخلق، فصارت "المقبرة"  ثم "مصيدة الفئران" هما العلامتان السرديتان الأهم شأنا في فهم معنى هذه الرواية القصيرة الممتعة.

   إن الصراع في "صخرة هليوبوليس" صراع إرادات بين الرجل والفأر، بين صاحب المعرض أي التاجر وصاحب الورشة أي الصّانع، وهو صراع بين نساء ضعيفات ورجال لا يعافون لحوم النساء المحرّمات، وهو صراع بين التقاليد والحداثة المحبَطة، لكنه في النهاية صراع طبقات وقوىً يحكمها سوق التجارة، من دون أن تكون بها مقومات الرأسمالية، وهي مأساة المجتمع المصري منذ عقود من الزمن، إنه صراع غير محسوم، لذلك نسمع "يوسف العلمي" بعد أن نصَبَ المصيدة، قد جلس في انتظار الفأر، وهو يقول في آخر سطر من سطور الرواية  "وبقيتُ أنتظر".

أستاذ الأدب العربى بجامعة دمياط