أغمضتْ عينيها، لأنها تريد أن تحتفظ بصورة الأجواء، كما تحتفظ بها الكاميرا الفوتوغرافية، لأطول زمن ممكن، أغمضت على الصورة ربما كي تضمها. جسدها مُعدّ لتحميض اللحظات، وتسجيل الأصوات، ومَتْحَفة الناس.
وهو كان نائماً على ظهرها، وكان ناعماً وبطيئاً، كما طلبت منه أول مرة في اختبار التعارف الذي قادته، على نفس الفراش، وفي أضواء مشابهة، ربما أزيد بمصباح أو بمصباحين، وقد استسلم برقة وبابتسامة ووَضع يده على كتفها، دون نطق كلمة واحدة. لديهما بضع ساعات، قبل أن ترتفع صلاة العيد. في النهاية سيجلس على السرير عارياَ، لكن مُنغلقاً على نفسه، مُحزِناً بشعر رأسه المنكوش، واضعاً يده أسفل ذقنه غير الحليقة، في زعل كالأطفال، لأنه لا يستطيع أن يبقى معها، ولا أن يأخذها معه إلى البيت.
أغمضت عينيها، لتُحس أكثر بلمساته المُتفرّقة، على جَنبيها، وأنفاسه على رقبتها وفي منابت شعر رأسها، ومن أجل أن تدفع على نحو أعمق، دفئها كله إلى الأسفل، كأنها تلد، كي يتصلا بشكل أعمق، كما يودّان بالضبط أن يفعلا، بعيداً عن الصخب الذي سيستيقظ بعد قليل، وعن صوت الذبائح وهي تُجرّ على الأرض، احتفالاً بالأضحية. سيصرخ الأطفال، وتنظر النساء من الشبابيك، وهُن غارقات في أحجبتهن، بعد أن اطمأننّ على نظافة البيوت، على نتف شَّعر أجسادهن، وسيَرقى الدرج مَنْ يضعون اللحم الأحمر، في أطباق الغسيل. ثم سيأتي الفقراء من كل أنحاء الحيّ ويمدون أيديهم ورؤوسهم وأمانيهم إلى جسد الحيوان الغارق في الدم.
كل هذا لن يعنيهما، حتى تبدأ الصلوات، فيضطران إلى الانفصال، لكنها لا تتعجل هذا الوقت، يشوشها أحياناً عَرقه المُتقطّر على بشرتها، اضطرابه وهو يسألها إن كانت تريده أن يتوقف الآن، وضحكتها اللامبالية وهي تريد أن تقول له إنها تُحب أن تنام على بطنها، كي لا تراه، وهو حزين، وأنها هكذا تحتفظ له بصورة خيالية منزوعة من الهَمّ، من الحياة التي يخشاها، لكنها لن تقول، وستلقي نظرة على النافذة المقفولة، والستارة الخفيفة التي تهتز فوقها، مثل مَنْ ينظر من بداية حياته إلى نهايتها.
ربما لأنه يقضي الكثير من الوقت في الشارع، تشوّش سمعه بغُبار الطريق، وأُغلقتْ مسامه على عملٍ لا يُحبه؛ ربما لأنه التقى أشخاصاً علّموه أن يتحدث كما يفهموا لا كما يستطيع، وأن يُبدي تهذيباَ مُبالِغاَ أمامهم، لأنها تعرف أنه يقلق من الغد وعلى الغد، بعد أن كان يريد حياة جارية مثل نهر، لا هائجة وترميه من فوقها باستمرار، مثل ثور. في جلسة التعارف الأولى، حكى لها حكايته الطويلة، في بضع ساعات، وصف لها كيف أحس، عندما خسر حلمه الأول، والأسى الذي اعتاده عندما خسر الأحلام التالية، كان وجهه الرقيق يتحدث، بكل خلجة فيه، تهتز كتفاه، وترتجف الشعرة الشاردة في رأسه، ويميل شاربه الخفيف جنباً أطول من جنب. لم يُزعجها الحديث، لكن الجدية التي روى بها المآسي، ضايقها الألم الذي يحتفظ به، شاهداً على سيرته، كما يحتفظ بتذكارٍ عزيز. وهي منذ سكنت هذه الغرفة، هذا البيت، هذا الحيّ، وهذه الدنيا، تُريد أن تُصدق أنها ستتخلص من أحزانها أولاً بأولٍ، عن طريق النافذة، سترميها كما ترمي الحَبّ للعصافير، وحتى الأحلام ستُبدّلها كل عام، إذا أثبتت لها أنها لم تعد تناسب مقاساتها، إذا غدرت بها. وبفضل كل ما جرى، تصالحت أخيراً مع أهمية فكرة النسيان.
كيف تقول له، حتى هو ستنساه، إذا بالغ في الابتعاد، إذا طار ذات يوم ولم يعد، إذا جَفّت المودة في يديه، سيصدمه أن يعرف قِصر عُمر وفائها، برغم كل الحنان الذي في صوتها، وهي تُكلمه الآن، يتقلب مزاجها كما تتقلب الفصول في العام، وتُضطر في اللحظة الأخيرة إلى تسليم حقيبتها الزائدة.
لا يمنعها كل هذا من الشعور بالارتياح، عندما يدفن أنفه في عنقها، ويتنفس، فتشعر إلى جانب السلام بالزغزغة. لا يمكنها أن تبوح له، فالحياة نفسها تمنعها من البوح بالكلام الذي لا معنى له. لسانها مثل عازف البيانو، لن يقدم سوى الأغنية المطلوبة للمشهد، في بُخل ينبغي التصفيق له.
لكنها اليوم، فكرت أن ترسمه، وهو جالس كالمَغشي عليه من الحزن، لا يصدق أن عليه النهوض والعودة من حيث أتى، استمعت مقدماً إلى صوت قدميه، وهما تتنقلان بصعوبة فوق أسفلت الطريق، مع أن اليوم عيد، ويجب أن يبتهج، أحسّت بوقع خطواته الثقيلة تغوص في قلبها، فأغمضتْ مجدداً. تَخيّلته وهو يرتدي ثيابه، قطعةً قطعة، يودّعها بسرعة كي لا يبكي أمامها، يَهبط الدرج، ويتخطى الدم في الحارات كي لا يتلطخ حذائه. تمنّت ألا يعود لها أبداً، تركت الشباك مقفولاً والستارة الخفيفة تلعب، وكان آخر ما رأته رقم 8، علامة اللانهائية، على نتيجة الحائط، ثم ارتفعت التكبيرات، فابتسمت، وأغمضت لتستعيد المشهد من بدايته.
كاتبة من مصر