أَطَمَ *
أرادني أبي أن أمر عليه قبل ذهابي للعمل. فتحتْ الباب أختي، ووقفتُ بعتبته أرصد الصالة من أمامي. أين أمي؟ لعلها الآن في المطبخ. قلت كيف حالك يا أبي؟ رد: أيعجبك ما فعلته بالأمس؟ وأجبت: لم يحدث بالأمس شيء! لكنه سيستدرجني إلى الموضوع، هو لا يميل إلى المواجهة، سيقول: كيف حالك؟ اجلس. فأرد: لا لزوم، فأنا متأخر، وبالكاد أصل في موعدي. لن يجد مفرًا من تسديد سؤاله مباشرة: أيرضيك ما فعلته بأمك؟ وأجيب بكل تأكيد: لم يحدث بالأمس شيء.
في الصباح، ورغم أنني نائم، وهو يعلم ذلك جيدًا، اتصل بي. قال مُر عليَّ قبل ذهابك إلى العمل. كانت لهجته هادئة، تطمئن، لكنني لم أستطع العودة إلى النوم. دققت الباب، وقلت اسمع ما عندي إن كنت ترتضي الحكم بيننا، ما تعرفه نصف الحكاية فقط، وعندي النصف الآخر؛ أول من أمس نزفت زوجتي، وكنت في عملي فاتصلتُ بأمي، وقلت لها إن دمًا نزل. عنفتني قبل أي شيء –وأنت تعرف ردود أفعالها- وقالت إنها حذرتني من إفشاء خبر الحمل، لكنني لكته كالعلكة في فمي، قاطعتها -ليس ذلك وقتًا مناسبًا للعتاب- وطلبت منها أن تصعد لتطمئن على "سلمى". لم تمر غير خمس دقائق -عشر على أقصى تقدير-قبل أن تعاود الاتصال بي، قالت إنها صعدت إليها وهي بخير، تحتاج فقط إلى بعض الراحة، وقد أعطتها "جبنة قريش" وبعثت أخي "حسن" ليشتري لها عصيرًا. وعدت في المساء إلى المنزل، وبدلا من أن أجد سلمى في السرير، وجدتها واقفة في المطبخ تعد العشاء، عنفتها فذلك مجهود خطير بالنظر إلى حالتها، لكنها كانت جائعة، لم تتناول الغداء، مثلي. أبدلتُ ملابسي في دقائق، وكان المطبخ في حال يرثى لها، فشمرت عن ساعدي وبدأت في غسل المواعين. أه! فاتني أن أخبرك أنني سألت زوجتي لدى دخولي إن كان أحدًا قد زارها غير أمي فنفت، وذلك آلمني، لكنني ذهبت لأغير ملابسي ثم دخلت إلى المطبخ وشرعت أغسل الأطباق. كنت أود لو أخبرك، أنني في أثناء ذلك، أشعلت سيجارة من علبة وضعتها على رخامة الأطباق فباشت دون أن أنتبه، تلك السجائر كنت قد اشتريتها بالآجل، لكني لن أن أقص عليك قصتها، فأنا أخشى ذكر التدخين أمامك، احترامًا بالطبع. المهم انتهى اليوم، ولا داعي لذكر باقي تفاصيله، فهي ليست ذات أهمية، على الرغم من أنني أتمنى لو أذكر ما قلته لسلمى، وما قالته لي في المقابل؛ وهو باختصار، أنها حزينة لأن "إيناس" أختي لم تَعُدْها في مرضها، على الرغم من أنها تقضي ساعات مع "نشوى" زوجة ابن عمي الذي يسكن فوقنا، وساعات أخرى مع ابنة عمي "مي"، في الباب المقابل لشقتنا، وإنني حزين كذلك لأن أحدًا لم يساعدها في تنظيف الشقة، ونظفتها أنا، لذا طلبت منها إن سألتها أمي عن الذي أكلتهُ بالأمس، أن تخبرها أنني غسلت المواعين وحضرت العشاء لها ولي، وحتى إذا لم تسألها مباشرة عن حالي، فلابد أن تحشر لها تلك المعلومة في معرض حديثهما المفترض، لكني لن أقول لك ذلك، مثله مثل حادثة السجائر، فهذا يضعف موقفي!
في اليوم التالي، وكان الوقت ظهرا، سمعت أختي تحدث ابن عمي، الذي دق بابي ليخبرني أن القطّ هرب إلى الخارج دون أن أنتبه، كان من الممكن أن أفتح له الباب لآخذ القط، لكنني لم أفعل، أتحاشى الدخول في أي حوار معه هو السمج، وهذا أيضا لن أخبرك به؛ أن ابن عمي سمج، كما لن أخبرك أيضًا، أنني بعد أن خرجت إلى العمل، تخيلت، طوال الطريق، ابني وقد مات في بطن سلمى، وأن أمي أهملت السؤال عنها وكذلك إخوتي، فلم يغثها أحد وكادت تموت، وأنني قضيت النهار كله أتصل بها المرة تلو الأخرى دون أن ترد، فهاتفت أمي كي تصعد وتتفقدها، لتجدها وقد أغمى عليها وابني الذي في بطنها قد مات، وبعد أن يهزم أمي الندم، أكون قد انتصرت -لأول مرة منذ تزوجت- عليها، وبددت ادعاءها المتكرر بأن زوجتي–على خلاف كل زوجات الأبناء- لا تساعدها في البيت، لكن ذلك لم يحدث، لأنني قررت بيني وبين نفسي -وهذا لن أخبرك به أيضًا- أنني أريد لأبني أن يعيش، وبناء عليه سأكتفي أن أبادر أمي إن هي اتصلت لتسأل عن زوجتي، بأن أقول لها، إنها في شقتها فوقك، أما أنا ففي عملي من يسأل من عن من؟
بعد أن دق ابن عمي بابي في الظهيرة وتجاهلته، خرجت إلى عملي. وفي حدود الرابعة اتصلت بزوجتي، آثرت أن أترك فرصة لأمي -لأنني أشفق عليها رغم ذلك، بالتأكيد أحبها- لعلها تصعد إلى زوجتي وتكذب ظنوني، لكن سلمى أخبرتني أن النزيف عاد مجددًا، وأنها لابد أن تذهب للطبيب، قلت لها أنني سأتصل بكَ كي تأخذها وأمي للطبيب، فرفضت، كانت حزينة، لأنك لم تسأل عنها، وذهبت –بدلا من ذلك- كي تحضر "هدير" ابنة عمي من مسكنها البعيد، البعيد جدًا، لتزور أمها التي تسكن أمامي، ولم تكلف خاطرك للصعود بضعة سلالم لتسأل عن صحة زوجتي. هنا قررت أن أتصل بأمي، قلت:
- كيف حالك؟
- جيدة.
- ما الأخبار؟
- الأخبار عندك أنت.
- سلمى في شقتها فوقك أما أنا ففي عملي. من يسأل من عن من؟
- ولاه! أنا متعبةً لا تحملني فوق طاقتي.
- زوجتي جاءها النزيف مجددًا اليوم!
في الحقيقة لم أتصل بأمي في البداية، ولكن اتصلت بأخي، سألته بشكل محدد إن كان معه مال، قال خمسون أو مائة جنيه، فطلبت منه أن يؤجر تاكسي ويصحب سلمى إلى الطبيب، فقال حاضر، ثم اتصلت بأمي.
قلت لها:
- زوجتي جاءها النزيف مجددًا اليوم، وحسن سيؤجر تاكسي ويأخذها إلى الطبيب!
- لماذا؟ سأتصل بأبيك حالا ونذهب بسيارته.
- أبي ليس موجودًا لعله لم يأت بعد من عند هدير.
- أبوك ذهب ليزور عمه في البلد.
- أولم يصطحب ابنة عمي البعيدة إلى البيت في طريق عودته، فيما لم يكلف خاطره ليصعد بضع درجات ليزور زوجتي!
- ولاه! أنت تردد كالببغاء التقرير الذي يتلى عليك.
عايرتني أنها اشترت العصير لزوجتي، وأنني لمّا أخبرتكم أن أجرة متابعة الحمل خلال شهوره القادمة ستتكلف مائتي جنيها، أعطيتموني إياها دون أن أطلب. في كل مرة، وفي كل شجار بيننا، تسمعني تلك الوصلة، أنت تعي أنني لم أكن في حاجة للمال، وأنت الذي أعطيته لزوجتي ولم أشأ رفضه حتى لا تغضب. بعد تلك الوصلة أغلقت الهاتف، وأنت عدت من مشوارك، وبدلا من أن تصطحبهما بسيارتك للطبيب، أرسلت أخي بدلا منك.
قال الطبيب، إن زوجتي بحاجة للراحة، ومنعها من مغادرة الفراش حتى تتم شهرها الرابع، فذهبتْ إلى بيت أبيها، ولأني أعلم مسبقًا تأويلكم، ولأن حماتي كانت تنتظر في عيادة الطبيب، خشيت أن تفسرا الأمر على أن زوجتي غضبت فذهبت إلى بيت أبيها، فاتصلت بحسن بعد أن عادت أمي، غير أنه وبدلا من أن يطمئنني على الأحوال، قال لي وبالحرف الواحد، "بقى بت تخليك تأسى على أهلك".
بعد أن هاتفتني صباحًا، وبعد أن طلبت مني أن أمر عليك قبل الذهاب إلى عملي، قررت أن أسرد عليك كل ما حدث، وأزيد عليه مختصرًا، أنه من العيب أن تحكي أمي لكل من هب ودب عن مشاكلها معي، هل يرضيك أن يقول لي أخي الأصغر "بقى بت تخليك تأسى على أهلك". من العيب أيضًا أن تكرر أمي وصفي بببغاء يردد ما تلقيه عليه زوجته، سلمى لا تلقنني شيئًا كي أردده، أما عن الكيفية التي عرفت بها أن أمي لم تجلس مع زوجتي سوى عشر دقائق في اليوم الأول للنزيف، فهي التي هاتفتني فور نزولها، ولن أقول لك إن زوجتي هي التي أخبرتني بموضوع توصيل ابنة عمي، بل عندي قصة أفضل، أن زوجها هاتفني في صباح اليوم التالي لأول نزيف، للاطمئنان على صحة سلمى، وذلك بعد أن أذاعت أمي الخبر حتى تدرأ حسد زوجة عمي وبناتها عنّا، وعندما سألته عن أحواله، وإن كانا سيأتيان لزيارة عمي في المساء، أخبرني أنك ستمر على زوجته وتصطحبها إلى البيت. وأخيرًا، سألقيها في وجهك أنت وأمي قنبلةً، أنا مصاب بالسكري، وهاهي التحاليل أخرجها من حقيبتي لأضعها -في عصبية- بين يديك، وذلك كفيل لإخراسكم، لولا أن ذلك لن يرجح كفتي، لأنني–للأسف- غير مصاب بالمرض، وليس معي تحليل دم، لذا لن أستطيع فعل ذلك، فقط سأدق الباب. تفتح لي أختي. أقف بعتبته أرصد الصالة من أمامي. أين أمي؟
- كيف حالك يا أبي.
- أيعجبك ما فعلته بالأمس؟
- لم يحدث بالأمس شيء!
* الكلمة يبحث عنها في المعجم، في مادة: (أَ، طَ، مَ/ باب الألف فصل الطاء)، وأَطَمَ: سكت على ما في نفسه، وأطم بيده أطمًا: عض عليها.
البَثُّ *
هل رأيتم أمي؟
سيدة خمسينية، سمراء تشبهني، سقطت في الشارع فحملوها إلى صيدلية، أهذه الصيدلية المقصودة؟
الولد الذي كان وحيدًا على ثلاث بنات، ويسير في الشارع ليسأل عن أمه، لم يكن يشعر بالقلق ولا الخوف، كان يشعر بالمسؤولية، عليه أن يسير بحثًا عنها، لأنه لا يمكن له أن يقف تحت المنزل في انتظار أن تعود.
جاءه الخبر في الشارع، أمام بيتهم بالضبط. ربما كان واقفًا في البقعة نفسها التي سقطت فيها أمه قبل قليل. قالوا إنهم حملوها إلى الصيدلية، ودون أن يعرف وجهته، سار، بينما يسأل الذين يقابلهم في طريقه، عن سيدة خمسينية سمراء، طولها هكذا، ليست سمينة وإن بدت كذلك، ترتدي خمارًا لا يهم لونه، لكنها بالتأكيد كانت محمولة على الأعناق.
أمرَّت أمي من هنا؟ قالوا بلى، خذ هذا الكيس كان معها تقبض عليه، لكنه سقط منها بينما نحاول إسعافها. إن امرأة دخلت علينا فاقدة وعيها، أسعفناها فأفاقت وقبل أن تدرك الشارع سقطت من جديد، فحملها من جاؤوا بها إلى المستشفى القريب.
في نصف الطريق -ربما اجتاز أكثر من نصفه- جلس على الرصيف ذاهلا، أحس أن أمه قد ماتت، وأحس أيضًا بالرغبة في البكاء، لكنه لم يستطع؛ لم تمنعه دموع محتبسة، لكنه في هذه اللحظة بالذات، شعر وكأنه لا يعرف البكاء. بكى أباه طفلًا، ومن بعد أبيه بكى جده وربما بكى ميتين آخرين، ويحب أمه أكثر من كل السابقين، فلماذا لا يبكي؟... هل البحث عن الموت أصعب من انتظار خبره؟ هل يواسيه الأمل؟ أليس مجرد جزعه على تدهور صحتها كفيل بالبكاء عليها؟
امتدت يده إلى الكيس البلاستيكي الذي سقط عن أمه في الصيدلية، فقلَّبَ في محتوياته ليجد ما قدَّره بثمن كيلو لب "سوبر" وربع "سوري" وكيس حمص، والتقط حبة منه وكسرها بضروسه، فندت عن عينيه دمعة... "ربما كانت غيبوبة سكر عادية"، حدَّث نفسه، ثم قام لاستكمال الطريق.
كأن الطريق أمامه أشجار فقط، أو كأن هذا المستشفى –الشاخص أمام عينيه- قريب، لكن العربة الكارو -السائرة إلى جواره- ثابتة لا تتحرك، المسافة ليست بهذا الطول، لكن الوقت الذي قطعه ليصل إلى المستشفى كان كذلك، أو أن هذا ما شعر به، وكأن قزقزة محتويات الكيس الذي يحمله، دليله الوحيد على الحركة.
لما نظر إلى وجهها، تفل ما تبقى في فمه من قشر اللب، كانت أمه غائبة في حلقة بين ثلاثة رجال ورابعهم طبيبٌ يخبرهم بضرورة العودة بجثتها إلى المنزل.
لم يصرخ، لم يشعر بالجزع، لم يبك، وإنما راح يتحرك خلف الرجال الواقفين، ينظر إلى وجهها كمن يستعرضه من الجهات كافة؛ أزرق يميل إلى السواد، لا يحمل أي تعبيرات، والريم يسيل من فمها حتى لطخ صدر جلبابها. كان الرجال الثلاثة يعرفون أنه ابنها، لكنه كان يمر بينهم كالغريب، ينظر إلى وجهها أزرق والريم ينز من فمها المفتوح، ريم يراه مرة أخضر، وأخرى أصفر، وثالثة يبدو فيها الزبد بلا لون، ساعتها شعر بالفزع وتسمر في مكانه.
تقدم رجل من الثلاثة فحمل الجثة ليتبعه الاثنان الآخران، لم ينظر الولد إلى أي منهم ولم يبادلوه النظر في المقابل، فقط أخذوا الجثة وانصرفوا، ولما هبط إلى الشارع بطيئًا في أثرهم، كانت أمه قد رحلت في تاكسي، فجر رجليه عائدًا وراءهم.
في نصف الطريق -ربما اجتاز أكثر من نصفه- توقف، تذكر أن عليه إخبار أي من أخواته الثلاث - الساكنات مع أزواجهن في أحياء بعيدة- أن أمهم قد ماتت، لكن رصيد هاتفه كان نافدًا، ولا يملك في جيبه نصف جنيه ثمنًا لدقيقة الموبايل في أي من محلات الاتصالات، فجلس ذاهلا إلى الرصيف -لا يعرف كيف يتصرف- بينما يجز بأسنانه على حبة لب أخرى.
* هامش: الكلمة يُبحث عنها في المعجم في مادة: (بَ، ثْ، ثٌ/ باب الباء فصل الثاء)، والبَثُّ: أشد الحزن الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه.
ثَأثَأْةُ*
قال وقد ملأ كفيه من ردفيها- تسرح أنامله من القبة للقبة- "الفرح أناني والحزن يسع الجميع".
وجمت.
فأردف:"والله ما دخنت الحشيش".
إذا حشش
يفضحه لسانه، وهي لا تحب الحشيش. يحب ردفيها. تحب أن يعبث بهما، لكن تخاف إن وضع نفسه بين القبتين. ربما تمنت أن يفعل ذلك، ويود أيضًا لو فعل، ربما سيكرهانه لو جربا، وربما تحب الحشيش إن جربته، لكن أي بلاهة أفلتت تلك الجملة من لسانه الآن، "الفرح أناني والحزن يسع الجميع".
آخر مرة حشش فيها كان الجو شتاءً. جلس وحيدًا في حوض الاستحمام فيما غلَّق النوافذ كلها من حوله، ولأنه يعاني حساسية الصدر خنقه بخار الماء. تمنى لو يدير الشفاط، لكنه خاف أن يختل توازنه إن قام فتنزلق قدمه فيموت، نادى حبيبته، غير أن صوته انحشر خلف أسنانه، ظن أنه ميت لا محالة؛ إما صريعًا مكسور العنق إذا حاول إدارة الشفاط، أو مخنوقًا بالدخان لو مكث في وضعيته في البانيو. ولكن أي الحالتين هي التي كتب الله فيها نهايته؟ هل إذا آثر البقاء في موضعه ينجو؟ ربما تكون جلسته بتلك الوضعية -في ظل البخار والدخان- هي موته، لا انزلاق قدميه والسقوط مكسور العنق؟ هل الموت إذنْ قدر أم أن صلاحية الجسد للحياة تنتهي فيفنى الإنسان؟ ربما تتفق الفرضيتان: القدر مع نهاية الصلاحية؟ طيب إذا قام الآن من جلسته ليدير "الشفاط"، هل بذلك يعاند المكتوب أم ينصاع إليه؟
في طفولته عرف أن ملاك الموت يقبض الأرواح عن طريق إفزاع البشر. وفي المرة الأولى التي ذاق فيها الحشيش، شربه ذائبًا في القهوة، فأخبره صديقٌ أنه قد يموت بسبب ذلك، وعندما عاد إلى منزله، شعر بحموضة شديدة تحرق صدره، فجلس على سريره، ينتظر عزرائيل أسفل الغطاء، حتى إذا جاء محاولًا إفزاعه بادره هو بالفزع فيقضي عليه قبل أن يقبض روحه، ومن ساعتها ولديه قرار بادخار اللحظة الأخيرة من حياته للعناد، أما تلك المرة وهو مسجى في حوض الاستحمام، تضبب عقله فلم يعد يعرف في أي خطوة يكمن العند! لكنه –أخيرًا- قرر المقاومة. استند بكفه على الصنبور ومن ثم لاصق الحائط حتى وصل إلى زر الشفاط فأداره، ونجح، ولما عاد إلى وضعه السابق حزن حزنًا شديدًا حين أيقن أنها لم تكن ساعة موته، ثم غادر الحمام إلى السرير، فجلس إلى جوار حبيبته وأخبرها بما كان من أمره، وزاد عليه ثرثرة طويلة عن العدل والقدر، وعندما استفاق في الصباح وجد على وجهها سمت "قاتلة"، فحلف لها بحبهما أنه لن يقرب الحشيش مرة أخرى.
الآن، وبينما يقول لها إن "الفرح أناني والحزن يسع الجميع"، كان قد انتهى لتوه من احتساء فنجان قهوة أذاب فيه حجم ظفره حشيشًا، حتى يتجنب فضيحة الدخان.
إذا أخبر حبيبته بالحقيقة يسودُّ ليله، وإذا استمر بالكلام يفضحه خياله. لم يكن يسعفه سوى مخرج، أي مخرج، وإن كان سبيلا يفضي إلى شارع سد. قال، بينما هو مستمر في تقليب ردفيها، "تعرفين قدر حبي لهاتين"، ردت :"أجل"، فأضاف :"في الثقب بينهما يكمن الفرح، لكن يبدو أنه لا يرضى بغير نفسه شريكًا، وكنت أحب لو احتل مكانه"، فغابت في وجه غير مألوف، ليس لقاتلة أو وليف، ثم ردت: "إن كان بتلك الأنانية، فيجب عليك تأديبه وطرده"!
* الكلمة يبحث عنها في المعجم، في مادة: (ث، أ، ث، أ / باب الثاء فصل الألف)، والثَّأْثأَةُ: الحبس، وثأثأ الغضب: سكن ، هدأ . وثأثأ النار: أطفأها. وثَأْثَأَ الإِبلَ : أرْواها ، وعَطَّشَها (ضد).
حَبِرٌ*
ذلك الشاب الذي أوقفته وأخته، عندما تعطل المترو، من بعد مشوار طويل، سألته كصديق قديم، بعد أن احتضنته وشددت على كفه طويلا، أين تذهب؟ فأجابني، ممتثلا، ومدهوشا، أنه ذاهب إلى مكان لم أكن أعلم أن له مشاوير يقضيها هناك، كان حيا أغرب من أي حكايات يمكن نسجها حول شخصه، فسألته، لماذا تذهب؟ لم يجبني، أو قال سأشتري حاجيات، أو دهش فنظر إلى أخته متعجبا، ثم لم يجبني، أو قال سنتسوق، المهم أنني، في تلك اللحظة، انتبهت -بالطريقة نفسها التي انتبهت بها إلى وجوده فجأة، بعد أن تعطل المترو، ونزلنا ننتظر الذي بعده- أنني لم أكن أعرف اسم ذلك الصديق القديم، وأن لقاءاتنا لم تتجاوز المرتين بين أصدقاء مشتركين، في مباراة كرة قدم، أو زوغان من المدرسة لممارسة ألعاب الفيديو، وأن ذلك الشاب الواقف أمامي لا يشبهه بالمرة، على كل حال، إنني في زمن قديم، سرقت كتابًا من المكتبة المدرسية، عن تيمورلنك، في أي مرحلة تعليمية لا أذكر جيدًا، الأمر صعب، لأن الكتاب كان بطله قطًّا يتنقل من غلافه إلى صفحاته التالية كلها، ساردًا قصة القائد الأوزبكي العظيم، أو هكذا كان يحكيها كقصة بطل عظيم، كان القط يشبه "مشاكس" من كارتون "كعبول وعبقرينو"، وإن كان لونه مشمشيًا وليس أسودًا، وقط بهذه الأوصاف، يناسب أطفال الابتدائي، هل كنت في الابتدائي عندما اختلست ذلك الكتاب؟ مدرستي ذات البناء القديم، المتهالك، التي تضم دورا كامًلا، علويًا، شيدت فصوله من الأخشاب، لا يمكن أن تحتوي على مكتبة مدرسية، أين سيضعونها؟ كان هناك رف كتب في الجامع الصغير، وكنت أؤذن للصلاة، وأتلو القرآن في طابور الصباح، ومن الممكن أن أكون قد اختلسته من هناك، وتيمورلنك كقائد مسلم، يصفه القط الراوي بالبطل العظيم، كتابًا عنه مكانه الجامع! لكن في مدرستي الإعدادية كان ثمة مكتبة أخرى، ضخمة، بحيث اتسعت لتكون، إضافة إلى وظيفتها، مرسمًا، وكنت فاشلا في الرسم، لا أجيده، وخطي سيئ أكرهه، وفي هذه الأثناء كنت أفضل لعب الكرة على الانزواء وحيدًا في المكتبة... بالتأكيد لم أختلس الكتاب من مدرستي الإعدادية، لأنني أيضًا، عندما عدت به إلى المنزل، لم أقرأه، خبأته أسفل الوسادة، وأسفل مرتبة السرير أحيانًا، وما أكنت أخرجه من مخبئه إلا لأطمئن على وجوده، وأن أحدًا لم يكتشف سرقتي له، في يدي علامة تذكرني بعواقب السرقة: كنت أصغر، في السادسة من العمر أو أقل، وفي غرفة الصالون تملك أمي دولابًا للصيني، كان فيه، ذات يوم، بضع جنيهات، وبعض الفكة، أخذت مائة وخمسة وسبعين قرشًا، وذهبت إلى جدتي، بعد أن اشتريت في الطريق، أيس كريم ولوليتا وزجاجة مياه غازية وبسكويت محشو بالكريمة، ربما لأغيظ بهم خالي الذي كان يصغرني بعام واحد، كانت المائة وخمسة وسبعون قرشًا تشتري الكثير في ذلك الوقت، سألتني جدتي كيف لي بكل هذه الحلوى، فقلت عمي، وكان عمي يجزل لي العطاء كثيرًا، فلم يرزقه الله من البنين غير واحد وثلاث بنات، لكن حجتي لم تقنعها، وشكَّت في مصدر الفلوس، أو ربما لأن خالي غاظه فعلا أن أملك تلك الحلوى كلها وحدي، فنادت جدتي أمي من شرفة بيتها، ربما لتطيب خاطر ابنها، أو ربما لأنني كنت مكشوفًا جدًا، وبيتنا وبيت جدتي متلاصقان، ولا أعرف بم ردت أمي على تساؤلات سِتي، لكنها نادتني وأعادت السؤال عن مصدر شرائي للحلوى، فقلت عمي، فقالت عد إذن للبيت، عدت خائفًا ومترددًا في دخول المنزل، لكنها على الباب طمأنتني، فدخلت، وكانت على طاولة بعيدة، في غرفة الصالون ذاتها التي تحتوي على دولاب الصيني، قد سخنت المكواة، ثم لسعتني بها في يدي، التي لم يعد ثمة أثرًا باق للحرق فيها، لذلك لا أتذكر الآن، أي يد فيهما التي لسعتها المكواة، اليمنى أم اليسرى، ربما حرقت أمي اليسرى لأنها اليد التي يأكل بها الشيطان، ولهذا السبب خبأت كتاب تيمورلنك، ولم أستطع إعادته للمكتبة مرة أخرى خوفًا من عاقبة اختلاسه دون إذن، تحت الوسادة وضعته مرة، ومرة وضعته أسفل المرتبة، أخرجه فقط للاطمئنان على وجوده، حتى جاء يوم لم أعثر فيه عليه، بالتأكيد كان ثمة يوم لم أجد فيه ذلك الكتاب، لأنني لا أتذكر صورة أخرى له سوى في مخبئه، هل أعدته لمكتبة المدرسة؟ هل نسيته حتى ضاع؟ هل أعيد إلى ذلك الشاب خاتمه؟
* الكلمة يبحث عنها في المعجم، في مادة: (ح، ب، ر/ باب الحاء فصل الباء)، وحَبِر: ابتهج ونضر، وحَبِر الجرح: برِئَّ وبقى به أَثَر، فهو حَبِرٌ.
كاتب من مصر