إلى روح محمد بصطاوي وهو في السماء
وإلى محمد خيي وهو في الأرض
تحت الأمطار تنمو الأحاسيس، تنتفض وترفع رأسها ويعلو صوتها عاليا لتتنفس الحياة كما هي. مشاعرنا ليست مستعارة، فنحن نمتلك روحا تشكلت من الشجر والطير والفراشات ومن الظلال المتحولة وشعاعات الشمس، ومن الفن جوهر الإبداع، والحياة قمة هذا الإبداع، وما كل الفنون، اليوم، إلا تجلٍّ لسيرورة الحياة.. الإنسان فيها في بحث مستمر عن صيغة فنية للعيش.
في كل حكاية تُروى، تختبئ خلفها، بعناية، حكايات غير مروية، دون أن يستطيع أحد معرفة أيهما الأول.
هكذا هو صديقي امْحمّد العزوزي والذي سيستكمل الأربعين من عمره بعد ثلاث سنوات، فلاح خبير بالأرض وتجارة المواشي. لكن خبرته مع المرأة تعرضت لضربات تراجيدية أوجعته؛ لذلك حينما أبدى إعجابه بفن الفنانة نورا الصقلي دون غيرها أدركتُ أن مشاعره النبيلة ما زالت حيّة متوثبة، كأنه يريد أن يقول لي، وهذا ما أحسستُ به، أن امرأة صادقة وجميلة مثل نورا بفنها استطاعت أن تنتشله من ضربات القدر العمياء إلى النور الحالم. لهذا السبب تبنّيتُ حكايته مختصرةً على مجاز خفيف، لكن صديقا لي، قال لي بعد شرح طويل للكلمات والفقرات والتعابير والأوصاف والتعليقات: اسمع أيها الكاتب، أنتَ لا تكتبُ لله في سبيل الله. كل حرف وكلمة تُخفي خلفها ألف معنى، فما دلالة غرق سيارتك وعطبها إلا تعبير عن مأزق ما تحمله من أفكار ومشاريع ، ثم سيأتي الميكانيكي الذي سيداوي عطبك (نورا الصقلي) وهي رمز الفن البورجوازي الذي ترى أنه يمكن أن يمنحك جرعة أخرى للاستمرار أو العبور. وإلا لماذا قلتَ أنكم لا تعرفون كيف تُدارون مشاعركم، وقلت وأنت تصفها بأن في "عينيها ماء الفن وفي حركة يديها بيداغوجيا الحياة كما يجب أن تُعاش" ثم عدت لنفس الجملة وصُغتها بمكر مُضاعف قائلا:" بل في عينيها عسل الحياة وفي تموُّج يديها تميمة الفن الجميل"؛ وفي الأخير ترمي بكل الستائر التي كنتَ تُخفي خلفها معانيك، وتقول بأنها في قلوب أهل الشاوية وبأنك ستكتبُ لها رسالته ورسالتك.
تأويل يُنصف الخيال وبراءة البيداغوجيا ويلومني حينما تخونني العبارات، وما أكثر ما تخونني، لكنني لم أخُنها أبدا. وأمام هذا، كان لا بد أن أعترفَ له بأن الأرض التي قرر امحمّد إهداءَها للفنانة المقتدرة ليست أرضه بل هي في ملكيتي ويقوم باستغلالها مناصفة.
لم يعد أمامي شيئا أخفيه، فقد تعبتُ والكتابة مجال التطهر، وليس ذنبي أن أكتب ظل المعنى أو بروقه السريعة، واجبي الدقة لا الوضوح، فالشرح لباس العاجز. حكاية صديقي امحمّد العزوزي في وجهها الظاهر عادية جدا لا إدهاش فيها، لكن الوجه الذي خلفها يُخفي جُرحين لا يبرآن من بين خدوش كثيرة، الجرحُ الأول يُداريه ويُنكره من حياته تماما، رواه لي واحد من عائلته وشهوده المقربين، وقد جرى قبل إحدى عشرة سنة حينما تزوج من دوار غير بعيد من موالين الواد، من فتاة دون العشرين، قضت معه ببيتهم ثلاثة أسابيع، وذات صباح رغبت في الاستحمام بالمدينة، فرافقتها والدته، وفي غفلة مدبرة، اختفت وشاع بسرعة خبر فرارها مع حبيبها القديم إلى مدينة أخرى.وبعد سنتين طلقها غيابيا وكتم كيّته في قلبه، ونسيها كما نسي دُخلته الصامتة بها.
الجرحُ الثاني،كنتُ شاهدا عليه وشريكا في أحداثه، جرت وقائعهقبل أقل من ثلاث سنوات في فصل الشتاء، حينما شرع يحدثني عن فاطمة التي سلبت عقله، وروى لي أنها في الثلاثين من عمرها، يراها مرتين في الأسبوع حينما يكون بالمدينة، ينتظرها بين منتصف النهار والظهيرة قرب الفُرن وهي تسحب الخبز،يقترب منها ويهمس لها بكلمة أوكلمتين ، فتبتسم باحتشام وهي تمشي بغُنج، ومتى تصل إلى مدخل زنقة ضيقة ومغلقة حيث بيتهم، تلتفتُ وتلوِّحُ له بيدها ثم تختفي وقد هزّته هزا فتتساقط أشواقه، وهو يعضُّ على شفتيه مُحركا رأسه يمينا ويسارا، فيقفل راجعابلا أشواقفي انتظار أنتنمو من جديد فوق مشاعر سمادها الجروح، تنمو وهي تدرك، من التعود الأليم، أنها ستندلق برنين السيمفونية السادسة لتشايكوفسكيلحظة تلتفتُ فاطمة وتلوح بيدها وهي على باب زنقة ضيقة بلا مَخرج.
فاتحني أن أخطبها له رفقة والده وأخواته، فوافقت حبّا فيه ومن أجلانعتاقه من الماضي إلى عالم جديد، غير أني اقترحتُ عليه الذهاب نحن الاثنين في البداية،لإخبار عائلتها قبل القدوم الرسمي عندهم. وفعلا ضربتُله موعدايوم السبت الموالي وقد فكرت في سلوك احترازي. ذهبتُ معه أمام الفرن وبقينا في السيارة وقد أوصيته ، أن يخبرها حينما تأتي بأننا سنزورهم مساءً في الساعة الخامسة.
ونحن نتحدث، ارتبك وأشار إلىعبورها بنفس الغُنج الذي حدثني عنه، وجهها الأسمر والدائري المألوف، بابتسامة دائمة، وجسمها المكتنز في لباس بسيط ولكنه للإغراء المتعجل. اقتربتْ منا ورمت ببصرها نحونا فارتبكتْ وفرتْ عنها الابتسامة، وأسرعتْ نحو الفُرن مكفهرة ( ولعلني ارتبكتُ دون أن أدري). اعترضها امْحمَّد وهي تحمل الخبز بوجهعبوس. تحدث إليها فردت عليه سريعا بنفس التجهم وهي تنظر إليّ بعينين امتلأتا حزنا بلا لون أو ربما بتأنيب وعتاب لم أفهمهما، ثم تركَته منكسرا ومتهدما وحزينا ومندهشا ومصدوما.
- (قال لي بصوت لا روح فيه) قالت لي إنها متزوجة.
أخرسني الموقف الذي لم أكن أنتظره بهذه الصيغة المتوحشة، والذي آثر صديقي عدم البحث في تفاصيله خوف رؤية ما خلف ضربة القدر الموجعة،فاختار مثل كل الأبطال التراجيديين نسيان الفرن الذي أحرق النور المتبقي في قلبه المكلوم.
حينما لمحتني وبجواري عاشقها، تحولتْ إلى إنسانة أخرى ففكرتُ أنها اعتقدتني شخصا آخر تعرفه أو يعرفها.
لم تكن فاطم متزوجة، كما قالت لصديقي بهدف إبعاده عن طريقها. تقطن مع خالتها رحيمو التي هي فنانة شعبية وفاطم أيضا،تعيشان عالما ليليا صعبا ومعقدا، أما النهار فمتروك للنوايا والمصادفات. وفي هذا الفصل الممطر تقل الأفراح والمناسبات والسهرات، وباتت رحيمو وابنة أختها فاطم والفرقة التي تشتغلان معها في بيات شتوي إلا من مناسبات مسروقة في سبوت ضائعة بقعر الزمن.
آه يا صاحبي لقد فطرتَ قلبي. ليس ضروريا أن تجدَ الأجوبة عن كل الأسئلة المرتبطة بمصيرك، أنا لست ملاكا يقرأ كفوف الغيب في أرض الخطيئة، فالزمن هو الخائن الأكبر. والسعيد من كان أعمى لا يرى القدر حين يلوّحُ له بيديه الآثمتين.
نورا على خشبة المسرح
مرّ الأسبوع سريعا كأنما يخاف افتضاح أمر الفجر الذي يبقى نائما على أعتاب الصباح، وجاء يوم مساءُ السبت، موعدُ السهرة بالقناة التلفزية الأولى،والتي تضمُّ نورا الصقلي مُحكمة في المسابقة الكوميدية. تهيأتُ للمشاهدة منذ التاسعة مساءً مع بدء الأخبار الرئيسية، وقد ارتديتُ جلبابي الصوفي وطاقية سوداء وجلستُ انتظر، ومع بداية البرنامج تحلقتْ عائلتي الصغيرة للمتابعة، وقد رأيتُ اندهاشا صامتا في عيونهم، ثم وشوشَتِ الصغيرة مريم في أذن أمها وهي تسرق النظر نحوي، ولعلهاتهمسُ كيف تحولتُ إلى مُهتم بالبرنامج بعدما كنتُ ألتفتُ إلى كتبي مع نهاية النشرة الإخبارية. عدتُ إلى البرنامج الذي أتممته، ومباشرة آويتُ إلى فراشي وقد اعتقدتُ، متوهما، أن هذه الحكاية قد انتهت بنهاية البرنامج الذي صادف حلقته الأخيرة، لكن الحكاية تحب أن تُلاعبني فقد رأيتُ حلما سأرويه، كما تذكرته، دون زيادة أو نقصان:
رأيتُ أجواء صاخبة في الهواء الطلق وسط أشجار العرعار والصفصاف، يوجد مسرح شعبي عبارة عن بناية قديمة بسقوف عالية بوسط بهوه خيمة كبيرة من ثوب بخطوط زرقاء ورمادية. أمام باب الخيمة ملصق يُنبئ عن عرض مسرحية هاملت بصورة كبيرةلنورا الصقلي ترتدي قفطانا محلولا بعقده الذهبية ولونه الأزرق بورود حمراء وأخرى صفراء تفوح منها رائحة القرنفل. تسللتُ في الزحام مع صديقي امحمد، غير مهتم بالوجوه التي تتزاحم مثلي للدخول إلى الخيمة وكراسيها الخشبية. جلسنا في الصفوف الأمامية بالقرب من خشبة المسرح التي تعلو بنصف متر. انطلقت المسرحية وسط صمت تُسمع له دقات القلوب في تناغم، ولما دخلت نورا علت التصفيقات والصفير والمناداة باسمها بلا توقف، ولم أنتبه إلا وصاحبي يقفز خطوة واحدة فوق الركح ويهديها هدهدا، كان يخفيه عني،وعاد سريعا إلى مكانه. ابتسمتْ وجلجلتْ ضحكتها "الخرافية" ثم رفعت يدها اليسرى في حركتها الساحرة فسار فوقها الهدهد مختالا وتعمّد أن يميل قليلا على صدرها وتنهد(ومال الجمهور معه) ثم دنا من أذنها كأنه يحدثها بحديث وهي تضحك وقد احمرّت وجتناها وبدت غمزة الزين، واختلط الكحل في عينيها بعسل الروح الصاعد من قلبها.
ابتدأ العرض ونورا الصقلي في دور أوفيليا، أمام الممثل محمد خيي في دور هاملت، في مشهد رومانسي أجاد هاملت إتقانه، لكن صاحبي امحمد العزّوزي فاجأني بوقوفه غاضبا وصعد الخشبة في قفزة واحدة ، دفع محمد خيي الذي اندهش، ولعله اعتقد الفعل من صميم المسرحية، فتراجع وتابع ما يجري.
دنا امحمد من نورا التي لم تتفاجأ آخذا بيديها وسط صخب الجمهور والذي سرعان ما عاد إلى صمته. ثم جثا على ركبتيه:
أوفيليا أيتها النبية القادمة من خزائن الغيب، اسفحي دمي على أرض الخطيئة لتطهريني من جروحي وآثامي. أوفيليا..امسحي عن كاهل يغدر الغادرين وخيانة الخائنين. أنتَ إكليل الزمن.
(ثم التفت نحوي ينظر إليّ بنفس دهشاته، وكأنه الشاعر كُثيّرعزة، قال:)
وَلَقَد لَقيتَ عَلى الدُريجَةِ لَيلَةً** كانَت عَليكَ أَيامِنًا وَسُعودا
لا تَغدرَنَّ بِوَصلِ " نورا" بَعدَما** أَخَذَت عَلَيكَ مواثِقًا وَعُهودا
إِنَّ المُحِبَّ إِذا أَحَبَّ حَبيبَهُ** صَدَقَ الصَفاءَ وَأَنجَزَ الموعودا
الله يَعلَمُ لو أَرَدتُ زِيادَةً** في حُبِّ نورةَ ما وَجَدتُ مَزيدا
رُهبانُ "الرباط" وَالَّذينَ عَهِدتُهُم** يَبكونَ مِن حَذَرِ العَذابِ قُعودا
لو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها** خَرُّوا لِنورا رُكَّعًا وَسُجودا
انطفأت الأضواء فاستفقتُ من نومي وأنا أبتسمُمن حلمي الذي لن يصدقه الفقهاء والمفسرون للأحلام والحكايات والمنظرون. وبدوري لا أصدق أن تحدث الهدهد بحديثه ثم يقوم صديقي امْحمّد الذي لا يعرف القراءة والكتابة فيقول جهرا ما قاله الهدهد همسا، كلام عجيب يشبه كلامي بل إنه اختار صوتي وطريقتي ومحفوظي من أشعار العرب، والأغرب أن أوفيليا صدّقته، أو أنها كانت تعرف أسرار اللعبة أو هي من كتبها وأخرجها. أما محمد خيي وأنا فلسنا سوى ممثلين لا دراية لنا بالحبكة وخفاياها.
انتهت الحكاية
الأحد 24 يناير