زائر المتحف الذي يكن له تقديرًا يقترب من القداسة، يسير متتبعًا خطوات المسئولة، ومنفذًا تعليماتها، رغم عدم التفاتها، يتتبع حركتها وإشاراتها، يمر بقاعة يميز فيها ليوناردو دافينشي، بابلو بيكاسو، فينسنت فان خوخ، وسلفادور دالي. لم يكن يدري أنه إزاء متحف حي يقطر دمًا.

أذن ڤان جـوخ

ميـمـون حـرش

 

أقف غير بعيد من الباب الخارجي للقاعة، أقترب ببطء شديد، لا بد أن المكان مقدس، من حولي الرواد منتشرون كحبات الرمل، يضج المكان بهم، ينوء بثقلهم، والوصول إلى قلب الصالة مُضنٍ أمام هذا الزحف، أتحسس طريقي كما الأعمى، الزوار متراصون كمعالق، لا أحد يكلم الآخر، بل صمت رهيب يخيم على المكان، ويجعلني أتحرك بمقاس، أنظر أسفل قدميّ، أتأمل حذائي، أحمد الله، هو من النوع الرديء، وليس له رنة القروش المعدنية النفيسة.. أنبهر لا بالتماثيل المنحوتة، ولا باللوحات الزيتية إنما بعشاقها، لا أحد يرحب بي، لستُ وجيهاً، وأسمالي لا تشجع على طلب وُدّ ما..

 اقتربتُ من تمثالٍ، حملقتُ فيه، ثم رماني بغمز من عينه اليسرى..

 يا إلهي، معقول.. !

 يضيق تنفسي، وأحس نفسي حبيسة كنبتة في قارورة، ضربات قلبي تتسارع، هل أصرخ، أم أكتم، اختلست النظر للتمثال الذي غمز لي، لمستُ محجريْه بيدي المرتعشة، كان بارداً، متحجراً، وكنتُ حاراً كجمرة.. رفع هو ذراعيْه (كأنهما ذراعاي)، ضمني إليه، اعتصرني، وهمس في أذني:

"خلصني من هنا !.."

تخلصتُ منه بمشقة، أردتُ أن أصرخ، لا صوت لي..

أفاجَأ بامرأة أمامي تلبس الأبيض كما الممرضات، وجهاً لوجه، أشارت إلى لوحة معلقة على صدر الباب، مكتوب عليها: "اللمس ممنوع رجاءً “، ثم قالت لي بحدة: اتبعني..

 وتبعتها...

 أخطِر وراءها كطفل صغير ضائع عن أبويه، بدوتُ أمامها كجرو لا ينبح، هي لم تستدر لتتأكد من وجودي، كانتْ واثقة بأني "مطيع"، دخلنا قاعة فسيحة، لا رائحة فيها، ومع ذلك حرصتِ التي تقودني أن تضع يدها على منخريها، مررنا وسط كراسٍ خاوية لا يشغلها أحد، هذا كما يبدو لي، لكن المرأة، لم تدع كرسياً إلا وربتت على كتف من يجلس عليه، لم أكن أرى أحداً. هي كانت ترى.. ومن خلال حركاتها أتخيل أنــــا.

 في آخر القاعة منصة مُتوجة، يجلس في صدر دستها فنانون كبار، عرفتُ منهم ليوناردو دافينشي ، و بابلو بيكاسو، وفينسنت فان خوخ ، وسلفادور دالي ، والشعيبية طلال، وناجي العلي ... وقبالة هؤلاء يجلس آخرون ، بعضهم أعرفه جيداً، بينما وجوه كثيرة بدت لي كما لو خرجت للتو من قمقم ، شعورها منكوشة، والعيون زائغة، وبقدر ما كانوا قريبين من بعضهم، كان هناك حيز بينهم، يتحركون فيه كما في التصوير البطيء، رأسي أنا يلتاع بسرعة نحوهم، وعيناي تتقافزان بين هذا وذاك، ولم أزل أتنقل بينهم إلى أن وقفت عند الفنان فان خوخ ، بحيث أمنت اشتباهه، تأملته ملياً، و حاذيته أكثر لأرى شكل أذنه بعد بترها الشهير، فما بدت لي الأذن بسبب شعره الطويل ، والمرسل على كتفيه، يبدو أنهم لا يحلقون هنا،بل حتى رائحتهم تشي بأنهم لا يستحمون ، فكرت في هذه الأذن العجيبة، فبسبب حكايتها صارت رؤوس الكثيرين من أهل بلدتي تنسى أنامل فان خوخ؛ أنا لستُ مثلهم..

 وفي لحظات التماهي مع الفنانين في القاعة، افتقدت مُرافقتي، لم تكن إلى جانبي، وضاع المكان، ولم يشغلني غير سؤالي: كيف دخلتُ إلى هنا ؟ !.

 كل ما أعرفه، اللحظة، هو أني في مواجهة فنانين كبار، من لحم ودم، ومع ذلك لم يحسوا بي، لا أحد منهم شغله حضوري...

أو لم أكن بعضاً من إلهامهم ؟، ألم أكن يوماً لوناً من صباغتهم؟ فكيف أفسر هذا التجاهل، وأنا نزيل دارهم، ورائحتي، كيف لم تترك أثرها ؟ !

 أنا أحلم !.. لكن لحظة، "فان خوخ يشير "إلىّ أنِ اقترب..

كنتُ قربه فعلاً وما درى..

 هو الوحيد الذي أحسّ بوجودي إذاً، حاولتُ أن أتململ حتى يعرف أني قبالته تماماً، كانت يداه تنشان في الفراغ، كنتُ ألاصقه تقريباً، تحركتُ دون أن أحدث صوتاً حتى يعرف أني على مقربة منه فعلاً، كانت يداه مرفوعتين بشكل غريب، اليمنى أطول من اليسرى فِتراً، هكذا بدت لي، ومثل معول أنزلَها برفق، ثم دس في جيبي شيئاً ما، ولما أردت أن أستبينه شغلني صوت جهوري ، نظرتُ نحوه ، كان صاحبه سميناً، رأسه صغير، مثل براد الدراويش ، وله أنف صغير لا يناسبه وجهه الدائري، إنه هتشكوك ، لم أكن لأخطئه، أشار إليّ وقال :

"هو هنا أخيراً، إنه بيننا يتحرك كما يشاء، ويرمينا بنظرات غريبة كما لا نشاء ..

أضاف كمن يتلو وصية (كان لا يزال يشير إليّ) :

" نحن هنا في هذه القاعة نلملم قلقَنا المقدس لنحفظ دفء الفن، بينما أنتم، هناك، ضالون".
 لا أحد علق، أو أبدى اهتماماً لما قاله، وفجأة يفرع منْ وسطهم فنان قصير، أول مرة أنتبه لحضوره بينهم رغم أني مسحت ملامحهم كافة حين دخلت القاعة، قفز كأرنب ونطق:

 "دعوه يرحل ليقول عنا بأن الفن هو اللؤلؤة المفقودة في الأرض"..
 كلمة "الأرض" نطقها بألم واضح، ولست أدري لماذا بدت لي الكلمة بحروفها القليلة أطول من قامته، وكان لها وقع خاص وهو يرددها بلحن شاذ، كانت أشبه بلازمة رنانة في قصيدة شعر لم ينظمها أحد، وحين راح يكررها انتبهتُ لنفسي، لم أكن أقف على الأرض، بل جالس على كرسي وثير داخل قاعة سينما، لكني كنتُ مرفوعاً على نحو ما بين الحلم واليقظة.

 انتصبتْ عبارة "الفن هو اللؤلؤة المفقودة في الأرض" أمامي ثم اشتعلت الأضواء في القاعة، كانت تنساب بدعة في الجنيريك على الشاشة الكبيرة رفقة أسماء نجوم فيلم الليلة، على إيقاع موسيقى "البيتلز".. حملت نفسي وخرجتُ.

 في الخارج اشتعل عالمي بالأنوار بعد ساعتين من الفرجة في ظلاميْن داخلي وخارجي، السماء صافية، لكن البرد قارس، كانت هناك نجمة تشع كزمردة فوقي، بدتْ قريبة مني ، إن الوقت متأخر ، وصخب ليل المدينة بدأ يهدأ، وعلى مقربة مني، في الشارع العام ،عاشقان يسيران متعانقين، يخرج من فيهما البخار وهما يتحدثان ، تمر بهما سيارة فارهة، سوداء اللون، نظر إليهما سائقُها، ابتسم لهما، لعله يعرف أحدهما، هما كانا مفتونين، و لم يكترثا له، التصقا أكثر بسبب البرد ثم غرقا في قبلة، وحين اقتربتْ مني السيارة رازني صاحبُها ملياً، ثم أوصد في وجهي باب النافدة وهو يبصق تجاهي. لم أستغرب هذا الأمر في مدينتي أبداً..

 برودة الجو تلسعني، يداي تتنملان، وبدأت أرتجف، أسناني تصطك، وبذلتي الرخيصة لا تقني هذا القر، سلكتُ يدي في الجيب أنشد حرارة ما، داخل جيبي سائل لزج، خضبت به أصابعي، حركتُها بعصبية لافتة حين استقرت مادة طرية بين السبابة والوسطى.. يا إلهي، ما هذا؟ ! ، خلصت يدي بسرعة من الجيب، رفعتها أمام عمود إنارة في الشارع، فصعقتني المفاجأة مما رأيت، كنت أمسك في يدي قطعة لحم عبارة عن بقايا أذن مقطوعة باحترافية، وكانت لا تزال تنزف دماً.

 

كاتب من المغرب