بمنتهى الوجع يكتب الشاعر السوري، لروحه المنكسرة ولمرارة تسكن الكيان وتصبغ على لغة الشاعر فجائعية وسوداوية موجعة لا مناص من أن تصبح ذريعته لتشريح هذه الصورة التي أمست اليوم تهيمن على المشهد ككل، في ظل خراب الأوطان والأرواح واللايقين ووجع الغياب والمنفى، يجد الشاعر نفسه وحيدا يرمم كل شيء كي يصيغ لقصيدته كوة على المستقبل.

مرارة

طالب همّاش

 

بمرارةِ  ما قبلَ المغربِ ياروحُ

وغربةِ ما بعدَ المغربِ يا راحْ !

 

حدّقتُ مراراً في البحرِ المهجورِ

فلمْ أبصرْ غيرَ دماغٍ  تعتعهُ السّكرُ

يقلّبُ تحتَ سماءٍ حائرةٍ

أمواجَ الحسراتِ على ما ضاعَ وما راحْ !

 

ومراكبُ راجعةٌ من بحرِ فراقٍ

ومراكبُ راحلةٌ في بحرِ جراحْ

 

ورأيتُ نواعيرَ الأيامِ الرّحَّلَ

غارقةً في الأعماقِ

تدورُ كساعاتٍ ناعبةٍ

حولَ ضريحِ  كآبتنا المحتومِ

وترفعُ نحو مصيرِ الراحلِ هاماتٍ خائفةً  كالأشباحْ .

 

فإذَنْ يا ليلَ الغربةِ

كيفَ يُراحُ ضميرُ الرّاحلِ

وهوَ يجرُّ تعاستهُ السوداءَ

إلى مقبرةِ الأفقِ المقفرِ

كيفَ يُراحْ؟

 

فهنالكَ في الليلِ المظلمِ للروحِ الحيرى

يتراءى البحرُ مقابرَ مقفرةً

فارمي يا روحُ جراحَكِ في بحرِ العبراتْ!

 

أَوَكُلَ مغيبٍ تنسابُ مرارتُكَ السوداءُ

إلى روحي يا بحرُ

وأيّامُ الغربةِ مُرَّاتٌ و مريراتْ ؟

 

لو كنتُ وحيداً يا بحرُ

رحلتُ إلى حَيْدٍ صخريٍّ

لا أحد يسمعُ فيه نواحي

وجثمتُ على الحيدِ وحيداً

وبكيتُ ضياعَ السنواتْ!

وقرأتُ على الريحِ قصائدَ عمري الضائعِ

بمئاتِ الأبياتْ!

 

لو كانَ بمقدوري يا بحرُ

جررتُ على الرملِ جراحي

وتركتُ على الشاطىءِ شيخوخةَ أيّامي

ورحلتُ بعيداً في ليلِ الحسراتْ  !..

وجلستُ أراقبُ هذا المنتحبَ الأبديَّ ،

 المالىءَ شطآنَ الوحشةِ

بضجيجِ الأمواجِ ، وهمهمةِ الأشباحْ

 

... أرقبُ كالمهجورِ

مراكبَ أحبابٍ راجعةً من بحرِ فراقٍ

ومراكبَ أغرابٍ راحلةً في بحرِ جراحْ

       *              *

بمرارةِ روحِ المغربِ في روحِ الشاعرِ

والأمواجُ تلاطمُ شطآنَ الغسقِ الموحشِ

وتهزُّ طواحينَ الشطآنْ

 

أسمعُ أشعارَ رحيلٍ

تتنهَّدُهَا الأمواجُ ،

وأشعارَ وداعٍ

يتنهَّدُها البحرُ الظمآنْ .

.. بمرارةِ روحِ المغربِ

والغيمُ العابرُ في أحلامِ حزينٍ

يتلاشى  كشرائطَ للأحزانْ ..

أضّجعُ اليومَ لأبكي

ضائعَ هاتيكَ الأيّامِ

وأغسلُ بالملحِ دماغي المغتربَ ، التعبانْ !

 

فأنا لست سوى رجلٍ ضجرانَ

يردّدُ شكواهُ على البحرِ الضجرانْ .

 

يا بحرُ لماذا ترحلُ مجروحاً

وتكرُّ جريحاً وأمامَ مراكبكَ المكسورةِ

يصطفُ الناسُ الرُّحَّلُ

فوقَ صخورِ الجرفِ المنصوبةِ كالصلبانْ ؟

 

.. يترقرقُ ريُّ مدامعنا في عينيكَ

وتُسمعُنَا إيقاعَ العطشِ المالحَ

في أغنيةِ الماءِ العطشانْ  !

 

آهٍ يا بحرَ الغربةِ

ما بعدَ جراح الرّاحلِ

 من غيرِ إيابٍ يا بحرُ جراحْ !

     *        *

بمرارةِ قلبِ الرّاحلِ يا روحُ

وغصّةِ صدرِ النادمِ يا صاحْ

ومراكبُ أحبابكَ راجعةٌ من بحرِ فراقٍ

ومراكبُ أغرابكَ راحلةٌ في بحرِ جراحْ

 

ستلوحُ لكَ الأرضُ طواحينَ نواحٍ ساكنةً

تحتَ غيومٍ طحلاءْ ...

 

ويطالعُكَ الموتُ بشيخوختهِ الجبَّارةِ

يدفعُ زورقَهُ المرهقَ

في وجهِ الريحِ

ويملأُ كالناعورةِ دلوَ دموعٍ

ويفرِّغُ  دلوَ دماءْ !

 

سيلوحُ لكَ البحرُ بوحشتهِ الصحراويةِ

مقلوباً فوقَ ضريحِ المنفى كسماءٍ زرقاءْ ..

 

ويلوحُ لك َالموجُ ضريحَ

همومٍ ضجرانَ ،

يوزعُ أوراقَ النعي على الغرباءْ

موجٌ يتقلَّبُ في قلقِ الأرياحِ القُلَّبِ

من غيرِ رجاءٍ

وبغير عزاءْ .

 

وستسمعُ في ريحِ البحرِ

قصائدَ أطلالٍ ضائعةً

وقوافيها كالأمواجِ تلاطمُ شطآنَ الظلماءْ .

 

يا بحراً أبديَّ الحسراتِ

يهدهدُ بالآهاتِ شقاءَ المهجورينَ

شقاءً بعد شقاءْ !

 

اليومَ يطولُ وقوفي الطلليُّ

على قبرِ همومكَ

مغترباً كالريحِ ..  ضريراً كالخوفِ

خفيّاً كالسرِّ .. وحيداً كالأشباحْ !

 

واليومَ أقرُّ ببطلانِ الأيّامِ

وأرنو مجروحاً

لمراكبَ راجعةٍ من بحرِ فراقٍ

ومراكبَ راحلةٍ في بحرِ جراحْ !

 

آهٍ يا صاحْ !

صوتُ البحرِ يذكّرني بفراقِ صديقٍ ضاعْ !

ونحيبُ الأمواجِ بأشعارِ رحيلٍ وأناشيدِ وداعْ !

 

صوتُ البحرِ يذكّرني

بقصائدِ أطلالٍ مرهقةٍ

ترقدُ في قلبي

وتدقُّ قوافيها بالندمِ الأضلاعْ !

 

فاملأْ بملوحةِ هذا الماءِ

كؤوسي الظمآى

وأملأها بمرارةِ هذي الراحْ !

 

لا طاقةَ للقلبِ ليحتملَ الظعنَ

وما عادَ يخفّفُ من وطأةِ هذ اليأسِ

نديمٌ

ما عادَ يخفّفُ من وطأةِ هذي الوحشةِ

صاحْ !

 

حسبُ النفسِ تعاسة هذا اليأسِ

وحسبُ الروحِ جسامة هذي الغربةِ والأتراحْ !

 

ومراكبُ أغرابكَ راجعةٌ من بحرِ فراقٍ

ومراكبُ

        أحبابكَ

              راحلةٌ

                   في بحرِ

                         جراحْ  .