ليست متأخرة، مرثية الشاعر الفلسطيني نمر سعدي لمحمد الماغوط، الشاعر الذي ظل خالدا في شعريتنا العربية، وفي ذاكرة محبيه. ولعل الكثير مما رآه لازالت الى اليوم يؤكد نظرة الماغوط المتقدة لإفلاس عالمنا المبكر، وحين يرثيه الشاعر الفلسطيني، فهو رثاء جماعي لتجربة شعرية لا زالت مستمرة معنا اليوم، وتظل في مخيالنا الشعري تفتح كوة الشعر على قضاياه الجوهرية.

مرثية متأخرة لمحمد الماغوط

نمر سعدي

 

لا يوجد في الدنيا شاعرٌ واحدٌ أحقُّ بالرثاءِ منكَ
يا صديقَ الغيومِ والقمرِ والظلامِ والسجونِ والندى
والأرصفةِ والتسكُّعِ والأزهارِ والجنونْ
يا ابنَ سلَميةَ الضلِّيلْ
يا صديقي الروحيَّ الذي لم أرهُ عن كثبٍ
إلاَّ من وراءِ الضبابِ
والمرايا الكافرةِ والأسوارِ المنيعةِ والغبارِ
ولم ألتقيهِ ولو مرَّةً واحدةً
أتُرى تغلَّبَتْ ملائكتُكَ على شياطينكَ ؟
أتُرى نلتَ ثأركَ من يهوذاكَ الشخصيِّ
أيُّها العصفورُ الأحدبُ الذي يحملُ وطنَهُ القتيلَ
على ظهرهِ المكسورِ منذَ ألفِ عامٍ
ويطوفُ بهِ أرجاءَ الأرضِ الشرِّيرة
في الأمسِ مصادفةً قرأتُ ديوانكَ الأوَّلَ
المختلجَ كروحِ الطفل "حزنٌ في ضوءِ القمرْ "
كانَ مرميَّاً بالقربِ منِّي فتحرَّشَ بي من دونِ قصدٍ
فأصابني مرضٌ غريبٌ
وبللَّني حزنٌ خاصٌّ جميلٌ
وأيقنتُ أنَّ لغتكَ المُتوَّحشةَ المُندفعةَ إلينا
من هالاتِ الصدق ِوالنجومِ كألفِ شمسٍ أنثويَّةٍ
أجملُ ما لدى العربِ من كنوزٍ
وتخيَّلتُ كُلَّ قصائدَ الشعرِ العربيِّ حينها
جيَفاً جوفاءَ لجمالٍ هزيلةٍ محشوَّةٍ بالريشِ الإصطناعيِّ
وغيوماً عقيمةً تتكسَّرُ على طُرقِ الصحراءِ وطرفها المتلاشي
بالأمسِ حينَ أعدتُ قراءتكَ تمخَّضتُ بالزهرِ الملعونْ
والزوابعِ الصديقةِ والمطرِ الصيفيِّ
يا أصدقَ شاعرٍ عرفتهُ الضادُّ الثاكلُ
يا آخرَ الصعاليكِ الشرفاءِ النبلاءِ
يا عُروة والشنفرى والسُلَّيكْ مجتمعينَ في واحدٍ
يا روبن هود الشعرِ العربيِّ
وجلجامشَ المأساةِ والكتابةْ
بعدكَ لن يروقَ لي المُتنبِّي
دواوينكُ كُلُّها أعمالٌ سرياليةٌ
يعجزُ عنها دالي وميرو وفريدا كالو
أعمالٌ سرياليةٌ بالغةُ الثراءِ والقيمةِ والحزنِ
هيَ ليستْ شعراً أبداً
وهذا الذي نثرتهُ على آذانِ الحضورِ في مساءِ
مجلةِ شعرٍ في بيروتَ فانبهرَ بهِ الجميعُ
خيمياءٌ صرفةٌ غريبةٌ وسحرٌ غرائبيٌ
لكائنٍ من كوكبٍ آخرَ غيرَ هذا الكوكبِ
خيمياءٌ معجونةٌ بماءٍ صلبٍ
وألوانٍ سرياليةٍ غيرَ مرئيَّةٍ
كُلُّ كلمةٍ قلتها تسري في هشيمِ القلبِ كالنارِ
وأنت تخاطبُ القدمَ الحجريَّةَ
كيْ تطأ قلبكَ المُخمليَّ البريءْ
قاموسُكَ يرتكزُ على نقطةِ ضوءٍ عملاقةٍ
وروحكُ تستندُ على موروثٍ جبَّارٍ من الرؤى
الملائكيَّةِ التي تلبسُ النارَ الحنونةْ
لا تصِّدقُ من يكرهوكَ فهم رغم أنوفهم يُحبُّونكَ
حتى جنونِ الجنونْ
فأنتَ وحدكَ من ألبسَ الشعراءَ العربَ عباءاتِ الدراويشِ
وأطلقهُم في العراءِ الخاوي كالسهامِ السائبةْ
أنتَ وحدكَ من جعلهم مهرجِّينَ على حبالِ السلطانْ
بينما أنتَ تنظرُ إليهم من علٍ وهم يتساقطونَ
الواحدَ تلوَ الآخرَ إلى الجحيمْ
وتطلقُ ضحكاتكَ كالذئابِ الجائعةِ لتنهشهُم
أنتَ وحدكَ من امتطى صهوةَ القصيدةِ الجامحةِ
من غيرِ أيِّ خوفٍ وتردُّدٍ
ولكنَّ الفرسَ المُطَّهمةَ بالعنفوانِ
ألقَت بكَ في نارِ الحزنِ والحقيقةْ
نحنُ يا صاحبَ الحضورِ والغيابِ
ويا سيِّدَ الكلمةِ المغموسةِ بالدماءِ والدموعِ والعويلْ
نلامسُ أعتابكَ الخفيَّةَ بقُدسيَّةٍ وحرِّيةٍ وخضوعٍ وذلٍّ وكبرياءْ
ولا ننبسُ بكلمةٍ واحدةٍ
لا نشرَقُ بحرفِ كذبٍ ورياءٍ واحدٍ
فقط نُخفضُ الرؤوسَ والقلوبَ أمامكَ
ونمشي كأننا في حضرةِ السماء السابعةِ
ونبكي بصمتٍ....
بصمتٍ صارخٍ عليك...