قرأت قبل أسبوعين من رحيل مريد البرغوثي (1944-2021) مقالا قيّما للكاتب المغربي المرموق كمال عبداللطيف بعنوان «الشيخوخة ومزايا البطء». يقدم فيه تأملاته الفلسفية حول زحف الشيخوخة الحثيث، وتأثيراتها على لياقة الجسد وإيقاع الحياة. ويفلسف ما اعتدت مع صديقي العزيز بهاء طاهر على السخرية منه بنعته بـ«مباهج الشيخوخة»، وهي حقا أمراض الشيخوخة المؤلمة التي ما فتئ كل منا يراكم حظه منها. وتذكرت المرة الأولى التي لقيته فيها في المغرب عام 1983 على ما أظن – حينما زرت المغرب لأول مرة للمشاركة في ندوة القصة القصيرة بمكناس ووقعت في غرام هذا البلد الجميل، ولم أبرأ من حبي له حتى اليوم – وقد جاء إلى الفندق الذي أقمت به في الرباط، شابا دمثا يطلب مني أن آخذ معي كتابا للصديق العزيز محمد برادة، حيث كنت سألتقيه بعد يوم في مكناس. فقلت لنفسي كم تمضي السنوات، وكم يغيّرنا كرّها المتسارع. ها هو كمال عبداللطيف الذي لقيته شابا، قبل ما يبدو – في مستوى من المستويات أنه وقت قصير – يكتب تأملاته عن الشيخوخة! أي شيخوخة تلك!
«مباهج» الشيخوخة وتقلص الحياة:
خاصة وقد لمستني الكثير من تأملات كمال عبداللطيف الفلسفية تلك. حيث أعاني آنا الآخر من بطء الشيخوخة، وقد راكمت حظي من أمراضها المزمنة. وتوقفت عند الفقرة الأخيرة منها – وقد جعلت أيام الحصار الطويلة هنا في لندن، وصدمة جائحة «كرونا» وتلاحق عدد الوفيات اليومي منها، الموت أقرب للكثيرين من حبل الوريد – فقد شعرت أنني شديد الحساسية لها. حيث يتناول في هذه الفقرة الأخيرة الموت فيقول: «يُصبح الموت في الشيخوخة قريبًا، ليس لأننا عشنا عقودًا من الزمن رسمت آثارها في أجسامنا، وعكستها وجوهنا وطرق حركاتنا، بل لأننا نسمع بين الحين والآخر في هذه المرحلة من العمر بموت مُجَايِلِينا، والأكبرَ والأصغرَ سِنًّا منا، فنُصبح أمام أخبار الموت المتلاحقة، ويصبح فقدان الأصدقاء والأحبة جزءًا من يومياتنا .. فنستأنس بالموت ولا نعود ننتظره .. لم يَعُد يُخيفنا، تعوَّدنا على اسمه وآثاره، على الكلمات التي تُقَال حين حصوله، لقد أصبح قريبًا، وفي الشيخوخة يتوقَّع الجميع حصوله، ويُعِدُّونَ العُدَّة المناسبة لاستقباله، وذلك بصورة تفوق ما يحصل في مراحل العمر الأخرى.»
وقد بقيت هذه الفقرة الأخيرة تناوشني لأيام متلاحقة، أتذكر معها كم خسرت من أبناء جيلي – وقد رحل كثير منهم مبكرا: يحيى الطاهر عبدالله (1981) وأمل دنقل (1983) وغالب هلسا (1989) وعبدالحكيم قاسم (1990) وسامي خشبة (2008) ومحمد عفيفي مطر (2010) وفاروق عبدالقادر (2010) ومحمد البساطي (2012) وإبراهيم أصلان (2012) وصلاح عيسى (2017) وأخيرا أنيس البيّاع (2020) – وآلمني هذا الرحيل، فقد كانوا جميعا جزءا من رحلة الوعي والتكوين والممارسة، وأهم من هذا جزءا أساسيا من معنى مصر وشوقي المستمر للعودة إليها طوال سنوات الغربة والعمل. وكان بعضهم شديد القرب إلى القلب، وإلى التجربة الحياتية التي عشتها وشكلت الكثير من عالمي القيمي والشعوري على السواء. ولكني انصرفت عن الألم ومضيت، وأنا أشعر مع كل فقد بأن العالم يتقلص من حولي، وأن عبء الغربة يزداد قسوة ووحشة، وأوجاع الحنين تتنامى وقد فقدت الكثير من أمراسها. ولكن رحيل أي ممن بقوا الآن يزداد تأثيره عليّ، وخاصة لو كانوا أصغر مني عمرا.
في هذه الحالة من شجن تذاكر هؤلاء المجايلين أتاني نبأ رحيل مريد البرغوثي (1944-2021) بعد ست سنوات من رحيل زوجته ورفيقة دربه رضوى عاشور (1946-2014) كنوع من التذكير المستمر برحيل زمن مغاير، يبدو الآن بعيدا ومتنائيا. وهو رحيل يقترب معه الموت بخطوه الدؤوب ممن بقي من أبناء هذا الجيل، جيلي، الذي كان مترعا بالحياة، مليئا بالرغبة في تغيير المستقبل، لا في مصر وحدها، أو عالمها العربي الكبير من ورائها، وإنما في جل أرجاء العالم. لكن المستقبل لم يأت له بغير الكوارث، التي بدأت مع تفجر رغبته في العطاء مع إطلالة عقد الستينيات الذي ارتبط باسمه، بنكسة عام 1967 المروّعة. وأمضى الشطر الأكبر من حياته يرفض ما جلبته تلك النكسة من هزائم متلاحقة، ويَدُعّ عن نفسه تلاحق النكسات التي تتابعت عليه على مرّ العقود، ويقاومها كلّ بطريقته. صحيح أن الطرق قد توزعت بأبناء هذا الجيل – ككل الأجيال التي سبقته منذ انشقت الحركة الثقافية عقب الثورة العرابية، إلى أحفاد عبدالله النديم في ناحية، وأبناء علي مبارك في ناحية أخرى – فكان منهم من قاوموا وحافظوا على شعلة الثقافة الحرة المستقلة حيّة ومضيئة، وكان منهم أيضا من آثروا الانخراط في مؤسسة التسلط والتدهور والهوان، وأصبح بعضهم مجرد مخبرين لها، وعيونا على من فضلوا انتهاج طريق عبدالله النديم الصعب والموحش أحيانا.
وكما هو الحال في كل جيل أيضا، كانت هناك قصة حب جديرة بالاهتمام، هي قصة حب رضوى عاشور ومريد البرغوثي في جيلنا. ومن مفارقات رحيل مريد أنه رحل يوم عيد الحب 14 فبراير وكأنه يذكرنا من جديد بأجمل قصص هذا الجيل. وهي القصة التي جسدت الكثير من القيم الإيجابية التي حرص مثقفو هذا الجيل الأنقياء منهم خاصة على الالتفاف حولها: استقلال المثقف في الرأي والاختيار، وحرصه على همه الوطني وأفقه العربي، وتمسكه بالقضية الفلسطينية كقضية لا تنفصل بأي حال عن القضية المصرية أو العربية من ورائها. وككل القيم المهمة والنبيلة كان لابد لها من ثمن باهظ في واقع رديء، وما أبهظ الثمن الذي دفعاه طوال حياة ممتدة ومحفوفة بالآلام، وبالانتصارات أيضا. لأن رضوى واجهت من البداية اعتراض أسرتها على قرارها الشخصي بالارتباط بفلسطيني. وواجهت أسرتها والواقع القديم من ورائها بالتمسك بمن قررت الارتباط به، بل وتكريس جزء كبير من حياتها الثقافية العامة للقضية الفلسطينية التي كان مريد تجسيدا ناصعا ومستقلا أيضا لمرحلة الشتات فيها. ولا بد هنا من الإشارة – في نوع من تواصل حلقات نضال المثقف المصري المستقل – إلى دور أستاذتنا الجليلة لطيفة الزيات في الوقوف بجانب رضوى الشابة، ودعمها في خيارها الفردي المستقل. رحم الله لطيفة الزيات التي شقت هي الأخرى طريقا صعبا، دعّمت به استقلال المثقف في وجه التردي والهوان، ووضعت القضية الفلسطينية – عبر اللجنة الوطنية لمناهضة التطبيع بعد اتفاق العار في كامب ديفيد – على الخريطة الثقافية والسياسية من ورائها.
وكان طبيعيا أن تواصل رضوى طريق لطيفة الزيات، والنضال من أجل هذه القضية – وهي القضية التي تمسك بها أبرز مثقفي جيل الستينيات – لدرجة يمكن أن نقول معها أن إسهامها في الحفاظ عليها حيّة ومتوهجة لا يقل عن إسهام زوجها ورفيق عمرها مريد، مع أن رضوى وزعت إسهامها الأدبي بين قضايا مجتمعها المصري الملحة، وبين القضية الفلسطينية في تواشجها مع الهمّ المصري. وخاصة عبر ثلاثيتها المهمة (غرناطة)، وروايتها البديعة (الطنطورية) التي أعادت رقش القرى الفلسطينية التي دمرتها دولة الاستيطان الصهيوني في الواقع والذاكرة معا، وكتبت الممحي والمسكوت عنه، وأقامته حيا وناصعا في وجه المحتل. وكتبت معه بطولة المرأة الفلسطينية في جلدها وحفاظها على وطنها وشعبها.
فعلاقة رضوى ومريد، رغم أنها على المستوى الإنساني علاقة أسرة بسيطة وجميلة في مواجتها لما تطرحه عليها الحياة من مسرات وأوجاع، تكشف على مستوى آخر، وبسبب التزام رضوى الثقافي وقدرتها الفذة على تجسيد هذا الالتزام إبداعيا – عن علاقة مصر وفلسطين. وفي زمن عانت فيها تلك العلاقة من أبشع أشكال التدهور والتدمير. خاصة وأن التدمير المنظم لتلك العلاقة يجلب معه التردي والهوان على المجتمع العربي كله. ليس فقد للترابط الوثيق بين عملية التحرير وأي شكل حقيقي من أشكال التنمية، ولكن أيضا لأنه يغيّر بوصلة العالم العربي بعيدا عن التقدم والتطور والنهوض، برغم استخدام تلك القضايا المهمة في حرف اتجاه البوصلة نحو المسار الخاطئ. لكن العزاء عن هذا الفقد هو أنهما خلّفا – بالمعنيين الشعبي والزمني – وراءهما ابنا موهوبا «تميم البرغوثي» حرصا على أن يتيحا له أفضل أنواع التعليم، ولا شك لديّ في أنه سيحمل الراية من بعدهما: راية فلسطين، وراية المثقف المستقل معا.
لغة شعرية فريدة لعالم مغاير:
لكن دعنا الآن نلتفت إلى ما قدمه مريد البرغوثي من إبداع وإضافة إلى قضيته/ قضيتنا، وإلى جدلية العلاقة المهمة والجوهرية بين مصر وفلسطين أيضا. منذ كانت دراسته في مصر، ووقوع النكسة في العام الأخير لتلك الدراسة، سببا في حرمانه من العودة لفلسطين، إلى البقاء في مصر، ثم طرده منها حينما انتصرت الهزيمة – بفضل سياسات السادات الخرقاء، وارتفعت بها أعلام العدو في سماء مصر – وحتى العودة إليها من جديد، ومنها إلى فلسطين زائرا بعد ثلاثين عاما من رحيله، كيّ يمد جذور ابنه – الذي ولد في مصر – في تراب فلسطين. وهو الأمر الذي جعله يكتشف في داخله ناثرا لا يقل أهمية عن دور الشاعر الذي أمضى الشطر الأكبر من حياته في تحقيقه. والواقع أن من الصعب في مقال كهذا الحديث عن إنجاز مريد في مجال الشعر، الذي كتب فيه أكثر من عشرة دواوين، يستحق كل منها دراسة مستقلة.
خاصة وأنني لازلت أذكر بوضوح يوم أن صحبت مريد إلى مبنى الإذاعة في ماسبيرو – ولماسبيرو ذكريات بهيجة، وأخرى موجعة، خاصة تلك التي أعقبت ثورة يناير – للحديث عن ديوانه الأول (الطوفان وإعادة التكوين) عقب صدوره. وكيف أنني ركزت في حديثي معه عن ديوانه على نجاحه – منذ بدايات مسيرته الشعرية – في ألا يسقط تحت ظل شعراء المقاومة في الأرض المحتلة، وكانوا قد استأثروا وقتها بالمشهد الشعري وطغت أجروميتهم عليه. وأن يخلق قصيدته المغايرة، ولغته الشعرية الفريدة التي كتبت الشتات الفلسطيني من ناحية، كما أعادت تأسيس فلسطين الضائعة المنتهكة في مفردات حسية ملموسة من ناحية أخرى. وقد استطاع مريد بحق أن يحفر لنفسه مسارا متميزا، لا في لوحة الشعر الفلسطيني فحسب، وإنما في مسيرة الشعر العربي لدى جيل الستينات كله. وكوّن من خلال هذه الدواوين عالمه الشعري الخاص بزخمه الإنساني، ولغته الشعرية الفريدة ذات القاموس البسيط الآسر معا، ومفرداته الخاصة من الصور والاستعارات والرؤى المتميزة.
وسوف أتوقف هنا عند واحد من دواوينه لأكشف من خلال صحبة القارئ إليه عن بعض تلك الإضافات المهمة. وقد اخترت هنا ديوانه (زهر الرمان) الذي يمكن اعتباره أقرب ما يكون إلى نقطة منتصف مسيرته الشعرية. حيث يدعونا هذا الديوان لا إلى التوقف عنده وتأمل مفردات التجربة ومنهج الأداء الشعري الشيق فيه فحسب، وإنما إلى العودة إلى الديوان السابق عليه (الناس في ليلهم) وهو الديوان العاشر في مسيرة مريد البرغوثي الشعرية التي تجاوزت ثلاثين عاما من العطاء الشعري الخلاق وقت صدوره. لأن هذا الديوان لا يستمد عنوانه من إحدى القصائد فيه، وإنما من عنوان القسم الأول في الديوان السابق عليه، وثيق الصلة بهذا الديوان السابق، وبعالمه الشعري ومنطق التجربة التعبيرية فيه. وكأن الديوانين يتناديان. فيحثنا الديوان الجديد على العودة للديوان السابق عليه، ويرهص الديوان السابق بعالم الديوان الجديد، ويحدد لنا قواعد تلقيه. فنحن هنا بإزاء شاعر متمرس غامر في بحار الشعر لأمد طويل.
فقد بدأ مريد البرغوثي مسيرته الشعرية الحافلة منذ أكثر من خمسين عاما. إذ نعرف من كتابه البديع (رأيت رام الله) أنه نشر قصيدته الأولى في يوم النكسة الشهير عام 1967. ونعرف من مؤلفاته أنه نشر ديوانه الأول (الطوفان وإعادة التكوين) عام 1972. وتبعه بديوان (فلسطيني في الشمس) 1974، و(نشيد للفقر المسلح) 1977، و(الأرض تنشر أسرارها) 1978، و(قصائد الرصيف) 1980، و(طال الشتات) 1987، و(رنة الإبرة) 1993، و(ليلة مجنونة) 1995، و(منطق الكائنات) 1995، و(الناس في ليلهم) 1999، وحتى ديوانه هذا (زهر الرمان) 2002. وهي مسيرة متميزة لا في لوحة الشعر الفلسطيني فحسب، وإنما في مسيرة الشعر العربي لدى جيل الستينات العربي كله. وكون من خلال هذه الدواوين عالمه الشعري الخاص بزخمه الإنساني، ولغته الشعرية الفريدة ذات القاموس البسيط الآسر معا، ومفرداته الخاصة من الصور والاستعارات والرؤى المتميزة.
والواقع أن هذه العناصر الثلاث هي أول ما يلفت نظر القارئ في (زهر الرمان) لأن التجربة الشعرية في هذا الديوان استطاعت أن تخلق لها مفرداتها الشعرية المتميزة، وموقفها الفريد من التجربة الفلسطينية والعربية على السواء، وخصوصية منهجها في الأداء الشعري الذي يعي أهمية بناء القصيدة، وينأى عن منهج التتابع التقليدي والتطريب الغنائي. ويعتبر الوضوح إلى حد النصاعة والتألق غاية شعرية تستلزم منه، عملا دؤوبا على ما يدعوه مريد البرغوثي «تبريد اللغة» أي تخليصها من سخونتها العاطفية – التي تحول عادة دون وضوح الرؤية والقصد، وتساهم في تضبيب التعبير الشعري وتعميته، وتؤدي إلى اخفاء نواقصه ونقاط الوهن فيه.
منهج الأداء، وبنية القصيدة:
وحتى نتعرف على خصوصية منهج الأداء الشعري في هذا الديوان، وتميز بنية القصيدة فيه، ومنطق التعامل مع اللغة وتبريدها، علينا العودة كما أشرت إلى القسم الذي يحمل عنوان الديوان في الديوان السابق عليه (الناس في ليلهم). و(الناس في ليلهم) عنوان ينطلق من وعي الشاعر بأن الناس سادرون في ليل كثيف على أكثر من مستوى. ويكشف عن ولعه بإماطة لثام الليل عن الناس، وعن مفردات عالمهم معا، وتعرية هذا كله للضوء، ضوء المعالجة الشعرية الكاشفة. ويتكون هذا الديوان في بنية أقرب إلى البنية الأبسيودية من خمسة أقسام لكل منها عنوانه المستقل. وأول هذه الأقسام الخمسة هو الذي يحمل عنوان الديوان الجديد «زهر الرمان» ويتكون من سبع قصائد تحمل إحداها عنوان «زهر الرمان»، بينما لا توجد في الديوان الجديد قصيدة بهذا العنوان.
وإذا ما تأملنا هذه القصائد السبع سنجد أنها جميعا قصائد تصطدم بالمألوف والمكرر والسائد؛ وتواجهه بالمفارقة الكاشفة عن فجاجته، أو سخف الاستنامة إلى دعة استمراريته. إنها تمحص التفاصيل الصغيرة، وتُسائِلها، وتكشف لنا عن أن الكثير مما نتداوله حولها من رؤى ومفردات وتصورات أصبحت في مسيس الحاجة إلى التأمل والتمحيص. إنها تتحول تحت وقع المعالجة الشعرية الحاذقة إلى ما كان يدعوه أستاذنا الراحل الكبير يحيى حقي بـ«العملة الماسحة» وهي العملة المعدنية التي لم يعد عليها أي كتابة أو معالم واضحة، ومع ذلك لايزال الناس يتداولونها دون الوعي بأنها فقدت كل ما لها من قيمة. تأمل القصيدة الأولى في هذا القسم «إتقان» ، وهي قصيدة قصيرة مركزة ومكثفة معا. حيث ترسم لنا القصيدة لوحة بالغة الدقة والجمال للعصافير الملونة والمحنطة، والتي وضعت على خلفية من سماء فاتنة، وحافظ المحنطون على سياق تكوين اللوحة:
«ومن أجل الصدق البري/ وزعوها على أرفف ذكية مرتجلة/ كأفرع الأشجار/ احتفظوا بالملمس السمح للريش/ بانفرادة الأذيال/ بدوائر الأطواق/ بالأجنحة/ الموشكة على الرفيف/ بلمعان المناقير/ الموشكة على الانفراج/ لكن الغناء الوحيد/ في دكان العصافير المحنطة/ كان ينبعث/ من الإذاعة.»
بهذه الضربة النهائية في القصيدة ــــ والتي تقترب من حيث البناء والوظيفة من «لحظة التنوير» في القصة القصيرة، والتي تتطلب منا تأمل كل ما دار قبلها، وإعادة اكتشافه من جديد ـــــ يتحول الوصف الشعري الدقيق للعصافير المحنطة في دكانها إلى استعارة كاملة لعالمنا ووضعه الشائه الغريب. لأن هذه النهاية تتطلب منا أن نعيد قراءة القصيدة من جديد وأن نكتشف أن الأنا الجمعية الفاعلة في القصيدة منذ البداية، وهي أنا يجسدها ضمير الغائب، «احتفظوا بألوانها» ترسم لنا صورة خامدة ميتة لعالم محنط يريد أن يكون حقيقيا. وتدعو القارئ إلى التساؤل عن هؤلاء الذين يضمرهم الفعل «احتفظوا» وهي من فعل يستدعي المحافظة والتحنيط معا. وعن أسبابهم ودوافعهم.
إن وظيفة الشاعر هنا – كطفل هانز كريستيان أندرسون – أن يقول بصوت مرتفع، إن الإمبراطور عارٍ. وأن هذه الأنا الجمعية التي تقوم بكل شيء في القصيدة، أو في دكان العصافير المحنطة/ العالم العربي في هذا الزمن الرديء/ هي مؤسسة كاملة من الأفعال والإجراءات الجمعية المحسوبة التي تريد إيهامنا بأن هذه عصافير حقيقية تزقزق وتطير، وأن السماء الاصطناعية التي تحيط بها أفق مفتوح هي بالحق سماء مفتوحة على حرية ما، لعلها حرية الاستنامة للموت والتحنيط. وأن حركاتها البهلوانية الميتة حياة، خالية من الحياة بصورة لا تفوت عين الشاعر الرائية والقادرة على النفاذ إلى حقيقة الموقف.
بهذا المنطق يكتب الشاعر بقية القصائد. لأن القصيدة التالية «رحلة عادية» تكشف لنا من خلال استخدامها للمفارقة في الأداء الشعري مدى سخف التصورات الفجائعية للدم الفلسطيني إذ يبدأ سطرها الأول «لم أصادف أي هول» وكأنه سخرية مبدأية من التهويل اللغوي، وينتهي سطرها الأخير «أبنكم مازال في القبر، قتيلا، وبخير» حتى يعيدنا التجاور بين قتيلا وبخير إلى تأمل القصيدة من جديد، وإلى رفض كل التصورات المطروحة والمستهلكة للدم الفلسطيني. وتكمل القصيدة التالية «لا بأس» هذا الموضوع حينما تبدأ «لابأس أن نموت في فراشنا» وكأنها ترسم بلغة هادئة صورة الموت العادي الذي حُرِم الفلسطيني منه، بدلا من استخدام اللغة الساخنة المثقلة بالكليشيهات والمبالغات في رفض الموت المترع بالعنف والظلم، والذي يواجهه الفلسطيني كل يوم.
وهذا أمر تواصله القصيدة التالية «أسماؤهم» التي تتناول تساقط الأصدقاء من الشهداء الفلسطينيين واحدا بعد الآخر، ولكن الموت لا ينهي وجودهم بالنسبة للأنا في القصيدة، وهي هنا أنا الشاعر لا أنا المؤسسة الجمعية في القصيدة الأولى. فهو لا يشطب أسماءهم من دفتر الهاتف: «رعشة تنسى/ ولا أشطبهم من دفتر الهاتف/ في صدر قميصي/ سوف أبقيهم/ تماما حيث كانوا مثلما كانوا/ على صفحاته/ وبترتيب الحروف الأبجدية/ كلما جددته جددتهم فيه/ كما لو لم يموتوا من سنين/ أصدقائي الراحلين.»
فمن منا من أبناء جيل الستينيات المنكوب الذي تخطف الموت أبناءه وهم في شرخ الشباب، لم يمر بهذه التجربة. ولم يبق على أسماء أصدقاء العمر الراحلين في دفتر الهاتف، كلما جددته جددتهم فيه. فهم جزء من حياتنا برغم رحيلهم، ولازالوا فينا بشكل من الأشكال، لا نملك ترف إسقاطهم من الدفتر الذي نحتفظ به قرب القلب في صدر القميص.
أما قصيدة «الساحر مرتبكا» في هذا القسم فإنها توشك أن تكون تكملة للقصيدة الأولى «إتقان» حيث مهما بلغ إتقان اللعبة، فلابد أن يأتي يوم وتنفضح، ولابد أن يأتي يوم وينقلب السحر على الساحر. ويا ويل الساحر من هذا اليوم الموعود. وقبل أن ننهي هذا المدخل إلى الديوان الجديد من خلال الديوان السابق، لابد من الحديث عن القصيدة التي تحمل عنوان الديوان الجديد «زهر الرمان» وهي قصيدة قصيرة ومركزة للغاية لذلك سأوردها بأكملها هنا:
«أبعدوا عني الربيع/ لا أستطيع أن أرى شجر الرمان/ أبعدوا عني شجر الرمان/ لا أستطيع أن أرى زهره/ أبعدوا عني زهر الرمان/ لا أستطيع أن أرى مصيرنا/ أبعدوا عني الزهور كلها/ لا أستطيع أن أتنافس مع المقابر.»
هذه هي القصيدة بأكملها، وهي قصيدة يتصاعد فيها الإيقاع في كريشندو متتابع ينوب فيه الجزئي عن الكلي، ويجسده. ثم يرتد الكلي على الكلي في نهاية القصيدة أو في خاتمتها التنويرية. فالقصيدة تبدأ بفعل الأمر «أبعدوا عني الربيع» المناقض للذائقة التقليدية التي تحتفي بالربيع وتتغنى بمقدمه. ثم تقدم في البيت التالي تبريرها لهذا الطلب، وهو أن الأنا الشعرية في القصيدة لا تستطيع أن ترى شجر الرمان، وهو أحد الأشجار التي تتفتق زهرا وجمالا في الربيع، ولا أن تتحمل جماله الفادح الذي يلخص الربيع كله. فشجر الرمان هنا هو التجسيد الشعري لما في الربيع من جمال فادح، وهو في الوقت نفسه إرهاص بأن تفتح هذا الربيع يؤذن بموته الوشيك كذلك، تحت لفح لهيب الصيف. فحينما يصرخ الشاعر قرب الخاتمة «أبعدوا عني زهر الرمان، لا أستطيع أن أرى مصيرنا» يوحّد هنا بين المصير الإنساني ومصير زهر الرمان بعمره القصير. ثم يتصاعد الإيقاع فيطالب بإبعاد كل الأزهار لأنه «لا أستطيع أن أتنافس مع المقابر» التي ينتهي إليها مآل كل الزهور البشرية منها وغير البشرية.
نحن إذن بإزاء منهج في الأداء الشعري يقتنص ذؤابات الأشياء، ويستخدمها وقد أثقلها بالدلالات المركبة كمفردات بسيطة في التعبير الشعري. وهذا المنهج هو الذي علينا أيضا أن نقرأ به قصائد الديوان الجديد (زهر الرمان) في وعيه الحاد بالموت الثاوي في قلب جمال الزهر الفادح. وليس غريبا وقد تعرفنا على منهج الأداء الشعري عند مريد البرغوثي أن تكون قصيدة الديوان الأولى هي «باتساع السماء» قصيدة تتعمد البداية الهادئة «هادئا/ كالخزامى التي انغمرت بالرذاذ/ عائدا من غروب زماني إلى أوله». وتتلمس طريق العودة إلى أول الزمان، أو إلى ماقبل مرارة التجربة، ولكن هل يمكن حقا العودة إلى ما مضى؟
عقم البحث عن زمن ضائع:
لقد برهن لنا مارسيل بروست على عقم «البحث عن الزمن الضائع» واستحالة استعادته. أما مريد البرغوثي فإنه يريد أن يكشف لنا في هذه القصيدة التي تنتهي بتلك الخاتمة التنويرية الصادمة «كأن الطيور التي/ غادرت، هكذا، ليل أقفاصها/ كلما خبطت/ في جهات الهواء/ أبصرت حولها/ قفصا/ باتساع السماء!» يكشف عن أنه مهما عاد اللاجئ إلى منزله المستباح، فإنه لن يجد المنزل الذي تركه أو أجبروه على مغادرته. فمهما أُطلق سراح السجين، فستظل تجربة السجن عالقة بروحه، وستحيل العالم كله بالنسبة إليه، حتى بعد الإفراج عنه، إلى سجن «باتساع السماء». وكأن الشاعر يحذر من ارتكاب الخطأ الأول؛ لأنه لا أمل في تصحيح مثل هذه الأخطاء الفادحة في حياة الإنسان وحياة الشعوب. فهو يدعونا بتلك الضربة الشعرية في «كأن الطيور التي غادرت هكذا!» ويترك هذه الهكذا مفتوحة على احتمالات وقراءات لا تنتهي، عن طبيعة إطلاق السراح، وعن الثمن، وعن كثير من الأسئلة الأخرى! فحتى ولو «كان واضحا» أن باستطاعة الأمل أن يدفع الأسير بعد الإفراج عنه إلى رقصة الحياة العارمة التي تخلقت في غيابه، والتي تسعى لتبديد أشباح الليل السادر من حوله، لأنه حتى لو استطاع الأمل ذلك، فإن الشاعر لا ينسى أن قبلته هي في الوقت نفسه صفعة.(ص72)
فنحن هنا بإزاء شاعر يسعى لرؤية ما وراء المشهد الظاهر، أو التجلي الخادع للأشياء. لأن القصيدة التالية «السروات الثلاث» برغم محاولتها العذبة لأسر جمال السروات الثلاث الباذخ، وتساوق ارتفاعها الشامخ، وألق خضرتها اليانعة، وتحويلها إلى مركز للمشهد الشعري كله. تدور حوله الغيوم والطيور وخط أسطح البيوت القرميدية. يدرك أنه في سروره المباغت يرى خلودها العالي. ولكنه لا ينسى أبدا أنه في حزنه المباغت يرى «الفأس» التي يمكن أن تنهال على الجذع وتجتث الحياة منه. فالفلسطيني – ولا يمكن لنا ونحن نقرأ ديوان مريد البرغوثي أن ننسى أننا بإزاء شعر ترشح من كل مسامه الحالة الفلسطينية، برغم قدرته على إخفاء هذه الحالة في تضاعيف المفردات، والارتقاء بها إلى أفق التجربة الإنسانية العامة – يرى العالم كله عبر مرشح المأساة الفلسطينية التي يحملها مثل «الصندوق» على ظهره. في هذا الوضع الوجودي الحاد الذي تجسده لنا القصيدة التي ذكرتني برائعة يوسف إدريس (حمال الكراسي)، فندرك أن الفلسطيني مقيد إلى صندوقه هذا منذ لحظة الميلاد.
«على ظهري طوال الوقت/ لم تقل أمي/ ولم يخبرني زمني/ أن خفته ستكذب علي/ كيف، فجأة، ثقل الصندوق؟» وهو سؤال يشحن القصيدة بطاقة تعبيرية ودلالية عارمة؛ لا تنفع معها كل الاقتراحات: «ضعه، لو برهة. جانبا/ دحرجه عن التل!/ دع غيرك يحمله!/ تتلازمان حتى الحفرة الأخيرة؟/ ثم أيها السيد ماذا تحمل في صندوقك هذا؟» فصندوق الفلسطيني في هذا القصيدة هو قدره أو صليبه. لأن البيت الأخير في القصيدة يؤكد «حياتي لا تحملني على ظهرها/ بل أحملها» كالصليب حتى الحفرة الأخيرة. هكذا بهدوء وفي لغة باردة، ولكنها حادة كالمشرط.
لذلك كان طبيعيا ألا يكون مثل هذا الفلسطيني الذي لا يستجيب لكل اقتراحات عقلاء الزمن العربي الرديء، من نجوم هذا الزمان كما تقول قصيدته الجميلة «لست نجما». وهي قصيدة تعبر عن حالة عربية شاملة في زمن التردي والتبعية والهوان، وهي حالة تمنح القارئ الأمل. «لست نجما لهذا الزمان/ وكأسك/ لايشتهيها نجوم الندامى/ في زمان كهذا/ توهج قليلا/ ولا تتوهج تماما/ لست نجما لهذا الزمان/ ولاتشبه النجم/ في الفرق بين تضاريسه/ والمجاز البعيد/ تعمدت أن تتناءى/ بأوصاف قلبك/ عن ضوئهم؟ ليكن!/ لست، يا شاعرا، نجمهم».
فالشاعر الحق لا يمكن أن يكون نجم زمن التردي والتبعية والهوان هذا. لأن نجوم هذا الزمن الرديء، كما تقول لنا القصيدة، «أولئك بحارة يسرعون إلى/ صخرة الارتطام/ ربما تهلك الآن كالهالكين/ فخل الهلاك اضطرارا/ وليس انسجاما» ولأن بحارة الشؤم هؤلاء هم الذين يسيطرون الآن على المشهد العربي، ويقودون سفينته إلى الهلاك الحتمي، فإن أعداء التردي ومقاوميه قد يهلكون أيضا، ولكن لابد أن يكون هلاكهم اضطراريا، وليس مساهمة طوعية في جوقة التردي الجمعي. وبرغم تشاؤم الشاعر ووعيه بآليات التردي والدمار في واقعنا العربي، فإنه يدرك أن خلاصه الوحيد في إخلاصه للفن: «أتقن الشعر حتى تغار اللغة/ أتقن الحب/ حتى يغار الخيال/ أتقن العمر/ حتى يقال/ لقد شابهت نفسه نفسه/ أتقن الموت حتى يفز احتراما». فليس أمام الشاعر الحق والمثقف الحق في هذا الزمان الرديء غير احترام نفسه والإخلاص لفنه، وتقديس شرف الكلمة التي امتهنها «نجوم هذا الزمان».
لكنني لا أستطيع بسبب ضيق المساحة مواصلة التعامل مع قصائد الديوان القصيرة الجميلة والتريث عند كشوفها الشعرية المدهشة. فلابد من التوقف في نهاية هذا المقال عند واحدة من قصائد الديوان الأخيرة، والطويلة نسبيا عن الحاضر الفلسطيني بعد الانتفاضة الثانية، وتحت الحصار الصهيوني الوحشي القاتل، وقد استحال الاحتلال الصهيوني الفظ لفلسطين – وهو أطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث – إلى كابوس يطلق يد الموت لتعصف بكل حياة. وعاث المحتلون في الشعب الفلسطيني، وفي فتيته وأطفاله ذبحا وتقتيلا. ومع هذا لايزال الشاعر يحتفي بالحياة تحت القصف المتواصل في «ليلة لاتشبه الليل»؛ لأن التضحيات الفلسطينية لا يمكن أن تنتمي إلى عالم الواقع، وإنما إلي عالم الحلم الذي ينأى عن سخونتها وحرارة ما تجيش به من انفعالات. ويقدمها في نسق شعري «بارد» حاد ومؤثر معا، في نوع من التصوير بالحركة البطيئة ودونما صوت. حيث يعود الصبي الذي قتله الرصاص الصهيوني الغادر إلى بيته فتنفتح أمامه الأبواب دون أن يدق الجرس، ويجد بيته وأوراقه لاتزال هناك كما تركها، ويتحلق حوله الأهل بلا صوت. وكأننا بإزاء لمسة من (طفولة إيان) الشهير لتاركوفيسكي حيث يُعبّر الصمت عن الموت، ويعبر الصخب والصوت عن الحياة. فيكون هذا التعبير الصامت بالمفارقة أقوى كثيرا من كل صراخ القصائد التي تتأسى على شهداء الانتفاضة.
لكن القصيدة التي استطاعت برغم طولها النسبي أن تجسد في بنيتها ذاتها الحيرة والتخبط أمام سطوة الموت وأقداره العبثية في زمن الانتفاضة والعجز العربي المحيط بها معا هي قصيدة «إلى أين تذهب في مثل ليل كهذا!» وهي قصيدة تلجأ إلى ضمير المخاطب والنداء في التعبير الشعري، وهي تتوجه إلى الموت بخجل من ينأى دائما عن الصراخ والصياح:
«أكاد أصيح/ تعرّف إلى غيرنا أيها الموت/ أبحث، على الفور/ عمن يجود عليك بمأوى سوانا». فقد دفع الفلسطيني أكثر من حظه من ضريبة الموت الفادحة.» وتتخذ القصيدة من «أكاد أصيح» الاستهلالية تلك نغمة القرار في القسم الأول من القصيدة. ثم بنوع من الالتفات البلاغي تتغير فيها النغمة ويتبدل الصوت والإيقاع. فبعد أن يتردد شعر ضمير المخاطب بين النداء والترجي، بين التوسل والغضب، بين الحزن والغيظ، بين السخط والتعلل. ننتقل إلى ضمير المتكلم الجمع تعرب فيه الجماعة عن تشوفها لحياة عادية لا غير. «نريد البلاد بأطفالها/ يسرقون المربى من الرف/ يستفسرون من الأمهات الصغيرات/ كيف خُلقنا؟/ وتحمر وجناتهن/ فيستسخفون الجواب الملفق/ يأوون للنوم كُرها/ ويستيقظون كَسالى/ يلحّون كالنحل/ لايستجيبون للنصح/ يقلقنا لهوهم بعد مترين من بابنا/ يحفظون الأناشيد للامتحان/ وينسونها في الإجازة».
حياة عادية فحسب يعيشها الأطفال كما يعيش كل الأطفال دون أن يترصدهم رصاص القناصة البربري، أو تطيح ببيوتهم الجرافات الغبية، أو ينهمر على شوارعهم حمم الراجمات الصهيونية. ثم تُغيّر القصيدة الصوت من جديد، وتواصل مخاطبتها للموت الذي يصبه الصهيوني يوميا على كل تفاصيل الحياة اليومية الفلسطينية. ولكنها تفعل ذلك كله دون أن تذكر مرة واحدة كلمة فلسطيني أو صهيوني. ودون أن تشير إلى صاروخ أو دبابة. فلا يقتصر هدف مريد البرغوثي في هذا الديوان على تبريد اللغة وتجريدها من حرارتها التقليدية، وإنما يسعى إلى الارتقاء بالتجربة اليومية الفلسطينية إلى أفق الشعر الإنساني، الذي يتسم بالعذوبة والبساطة والقدرة على النفاذ إلى قلب القارئ في كل مكان. وهذا ما حققه في ديوانه الجميل (زهر الرمان).[1]
«رأيت رام الله» ورحلة تأسيس الحق:
وإذا كان هذا التوقف السريع إزاء أحد دواوين مريد البرغوثي يقدم لنا ملامح عالمه الشعري وبنية القصيدة الشعرية عنده وطبيعة لغتها وتصورها، فإن من الضروري أن نتريث قليلا إزاء واحد من عمليه النثريين المهمين. ذلك لأن مريد استطاع أن يجلب الكثير مما أنجزه في عالمه الشعري إلى النثر السردي الشعري إن جاز التعبير. فقد كان نشره لأول عمل نثري مفاجأة للواقع الثقافي الذي اعتاد على التعامل معه شاعرا. فإذا كتابه النثري الأول (رأيت رام الله) 1997 يفتح بابا جديدا في التعبير عمّا انتاب القضية الفلسطينية من متغيرات. فهو نص شيّق بحق، يوشك أن يكون نوعا متفردا من الكتابة الشعرية السردية، أو الكتابة السردية الشعرية التي لم يعرفها الأدب العربي كثيرا، من قبل، اللهم إلا في حفنة من النصوص النادرة، أذكر منها (خليها على الله) لكاتبا الكبير وأستاذنا الذي يذكره جيلنا كله بالخير والعرفان، يحيى حقي.
والواقع أن سر سحر هذا النص الفريد هو في شعريته. إنه ليس كتاب ناثر، بل كتاب شاعر يكتب بالصورة، ويفكر بها. ثم يحيل الصور في كثير من الأحيان إلى أسئلة مدببة، تخزّ القارئ وتوقظ خياله باستمرار. وهو لذلك كتاب سردي فريد، لأن السرد فيه ليس من النوع الوصفي الذي يهتم برصد التفاصيل واصطحاب القارئ إلى بقاع جديدة، وإن كان يفعل ذلك. ولا من نوع السرد التتابعي الذي يهتم بتطور الأحداث واللهاث وراء تصاريفها، وإن امتلأ النص بأحداث شيقة ومفاجآت كثيرة مثيرة. ولكنه من النوع التحليلي والتأملي الذي يسعى لبلورة صورة كاملة ومؤثرة لما جرى، ويتحرك بحرية في الزمن. يستدعي حدثا مضت عليه ثلاثين سنة، ثم يرتد لحدث مرت عليه عدة ساعات، وينتقل منه لحدث جرى قبل شهور أو عدة أعوام. ولكنه يكشف لنا من خلال صياغة الصور فيه مدى تعدد الوشائج بين هذه الأحداث جميعا، ومدى تشابك المصير الفلسطيني بالمصائر العربية والتصرفات العربية المتباينة والعبثية في كثير من ا لأحيان، ومدى تجلى القديم في الجديد بصورة مغايرة، ولكنها تكشف عن الثابت بقدر كشفها عن المتحول.
ويقدم لنا الكتاب في حقيقة الأمر رحلة الشاعر إلى رام الله بعدما حُرِم من دخولها منذ خرج منها للدراسة في جامعة القاهرة، وحدثت أثناء سنوات الطلب واقعة 1967 التي وقع بها النصف الثاني من فلسطين في قبضة الاحتلال الصهيوني، الذي لازالت تعاني من بربريته الوحشية حتى اليوم. وهي رحلة للمّ الشمل، وليست نوعا من العودة الحقيقية لوطن تم تحريره من ربقة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني القبيح، الذي لايزال يقضم كل يوم قطعة عزيزة من أرض فلسطين، والعرب ساكتون، أو بالأحرى خانعون. وإنما رحلة للتعرف على الشتات في الوطن، وعلى ما فعلته الغربة فيه، وما فعله العدو الصهيوني به. وأهم من هذا كله على آليات عمليات الخداع المراوغة التي تلفّ الوضع الفلسطيني والعربي كله. بعدما وقع العالم العربي من جديد في قبضة الاستعمار الأمريكي القبيح، وهو الاستعمار الذي رعى المشروع الصهيوني، وموله، وكان بمثابة المركز الأصلي «المتروبوليتان» له على مد السبعين عاما الماضية.
كما يقدم لنا في الوقت نفسه رحلة الفلسطيني الصعبة للتشبث بوطنه وهو في المنفى، ولتأسيس حق ابنه «تميم» في هذا الوطن. فشاغل مريد في هذه الرحلة هو أن يحصل لابنه الذي ولد في المنفى، من أب فلسطيني وأم مصرية، على حق العودة لوطنه الذي لم يضع قدما على ترابه بعد. وعندما قرأت هذه الصفحات التي يَجري فيها «مريد» وراء الأوراق التي تَمنح ابنه حق العودة، بعدما ألقت السلطات المصرية بـ«تميم» خارج الحدود لمشاركته في المظاهرات العارمة التي اندلعت في القاهرة عشية الحرب الأمريكية الاستعمارية على العراق، قبل شهور من تلك الرحلة التي يكتب عنها مريد، أدركت كم كان «مريد» على حق في الغوص في متاهة البيروقراطية الفلسطينية الوليدة ليحصل لابنه على حقه في وطنه، الذي لن يظل سليبا مادام هناك من يتشبث به، ويضحي من أجله.
لكن دعنا نبدأ تلك الرحلة الصعبة من أولها، كي نتعرف على الآليات السردية والاستراتيجيات النصية التي استطاعت بها المعالجة الشعرية ،أن تحيل هذه الرحلة المحددة، إلى استعارة فنية لرحلة الفلسطيني في الشتات منذ أن ضاع وطنه على مرحلتين. لأن النص وإن تمركز حول رحلة كاتبه، إلى الحد الذي يمكن اعتباره نوعا من نصوص السيرة الذاتية، إلا أنه يقدم لنا اشتباك مصير هذا الكاتب الفرد، بمصير وطنه فلسطين، وبمصائر العديد من الفلسطينيين من أبناء جيله. من أخيه الأكبر «منيف» الذي يكبره بثلاث سنوات، وإن فرضت عليه التجربة وهو لايزال في شرخ الشباب أن يكون أبا رؤوما، لا لأسرته وحدها، ولكن لكثيرين من الفلسطينيين أيضا، إلى ناجي العلي الرسام الفلسطيني الشهيد الذي شارك «مريد» في جنازته في لندن، برغم ما في هذه المشاركة من تمرد جسور على المؤسسة الفلسطينية، التي لايزال الكثيرون يوجهون لها أصابع الاتهام بالنسبة لمصرع هذا الرسام الموهوب.
رحلة عبور الجسر واستعاراتها:
أقول دعنا نبدأ هذه الرحلة من أولها، وهل هناك أكثر من الجسر ملاءمة لهذه البداية؟ فالجسر هو عنوان الفصل الأول في هذا الكتاب. «فيروز» تسميه «جسر العودة». الأردنيون يسمونه «جسر الملك حسين». السلطة الفلسطينية تسميه «معبر الكرامة». عامة الناس وسائقو الباصات والتاكسي يسمونه «جسر اللنبي». أمي وقبلها جدتي وأبي وامرأة عمي أم طلال يسمونه ببساطة الجسر».(ص 15) ويبدأ النص «ها أنا أقطع نهر الأردن. أسمع طقطقة الخشب تحت قدمي … أمشي باتجاه الغرب مشية عادية، ورائي العالم، وأمامي عالمي. آخر ما أتذكره من هذا الجسر أنني عبرته في طريقي من رام الله إلى عمان قبل ثلاثين سنه، ومنها إلى مصر، لاستئناف دراستي في جامعة القاهرة. إنه العام الدراسي الرابع والأخير عام تخرجي المنتظر»(ص 5) وياله من عام سيظل محفورا في الوعي العربي، فعام التخرج هذا كتب سفر خروج هذا الفلسطيني الشاب وهو لايزال يسعى لامتلاك أدوات المعرفة.
يقول لنا الكاتب بمرارة تهكمية ستسم السرد كله «حصلت على ليسانس من قسم اللغة الانجليزية وآدابها، وفشلت في العثور على جدار أعلق عليه شهادتي«(ص7). لأن غياب «مريد» في القاهرة – أثناء وقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال الصهيوني البغيض – منعه من حق العودة، وكتب عليه شتاتا لا يقل ألما ومرارة عن شتات الفلسطينيين تحت الاحتلال العسكري الصهيوني الكريه. ويجسد لنا الشاعر هذا الشتات، «حيث كل شيء مؤقت إلى أن تتضح الأمور». (ص32) فهل ستتضح الأمور أبدا؟!
كما يكتب هذه الغربة المرة عن أرضه القريبة البعيدة معا في مشهدين: مشهد لقاء الأسرة عندما التم شملها في فندق في عمان في صيف عام 1968 ومشهد شعري يستدعيه من ذاكرته قبل أكثر من عشرين عاما عندما شارك في أواخر عام 1979 في أحد مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب في دمشق؛ وأخذه المضيفون لزيارة مدينة القنيطرة، وشاهدوا التدمير الفظيع الذي تعرضت له المدينة. ووقف الزائرون بجوار الأسلاك الشائكة التي يرتفع وراءها علم الاحتلال الصهيوني الكريه. «مددت يدي من فوق السلك، وأمسكت بالأفرع العلوية من إحدى الشجيرات البرية في الجانب المحتل من الجولان. أخذت أهز الشجيرة المضمومة في يدي، وقلت للدكتور حسين مروة وكان يقف بجواري مباشرة: هذه هي الأرض المحتلة يا أبو نزار. إنني أستطيع أن أمسكها باليد … هل ترى كم هي قريبة ملموسة، موجودة بحق. إنني أستطيع الإمساك بها باليد كالمنديل. وفي عيني حسين مروة تكوّن الجواب كله، وكان الجواب صامتا مبلولا.» (ص10)
فالأرض المحتلة واقع مرّ قريب وبعيد معا، يجلب الدموع إلى المآقي. وهي واقع يبلور «الإهانة المتجسدة في انتزاعها منا. فالإهانة تنغص دوما حياة المهانين. نشيدنا ليس للقداسة السابقة، بل لجدارتنا الراهنة. فاستمرار الاحتلال يشكل تكذيبا يوميا لهذه الجدارة» (ص11). والنص مشغول بتجسيد فقداننا للجدارة وبتجليات هذا الفقدان التي تتغلغل في نسيج الحياة اليومية فتجعل الجميع يحسون بفداحة الهوان، وبفقدانهم للجدارة بطريقة تنخر الروح وتسري في الدم، فتصيب الجميع بشلل جمعي مقيت لا هو موت ولا هو حياة.
والواقع أن فقدان الجدارة هذا هو الذي يغذي هذا الشلل ويحيل الجسد العربي كله إلى جثة هامدة. لأن الأرض المحتلة يرفرف عليها علم صهيوني بغيض، يلخص الشعار الاستيطاني الأبغض من النيل إلى الفرات، فالخطين الأزرقين فيه هما النيل والفرات، وبينهما نجمة داود. ولم يفكر أحد زعمائنا الذين وقعوا مع العدو الصهيوني «سلام الشجعان» أو بالأحرى سلام المتخاذلين المهزومين والمهانين معا، في أن يطالب بتغييره؛ بينما يطالب العدو باستمرار بتغير خرائطنا ومناهج تعليمنا، ومسح هويتنا القومية والثقافية، وحتى الدينية بالتدخل في نصوص كتبنا المقدسة وقرآننا ذاته.
ويتجسد هذا الهوان واقعا في الفصل الثاني من الكتاب «هنا رام الله» عندما يفتح نافذته في الصباح الأول في رام الله، ويسأل: «شو ها البيوت الأنيقة يا أبو حازم؟ سألت وأنا أشير بيدي إلى جبل الطويل المطل على رام الله والبيرة». (ص43) وجاءه الجواب الصادم «مستوطنة!» فندرك كم أن هذه الكلمة البسيطة البغيضة هي تلخيص لعمليات نهب واسعة بشعة للأراضي، وإقامة مدن بأكملها للصهاينة الذين يجيؤن من كل فجاج الأرض لينهبوا وطن الفلسطيني. وبدلا من أن يقف العالم العربي في وجه الناهبين، ينقلب على من نُهبت أرضَهم وتشردوا «في لبنان هناك قرار حكومي الآن بمنع الفلسطينيين المقيمين في المخيمات من العمل في 87 مهنة. أيّ أن بوسعهم جمع القمامة، وتلميع الأحذية فقط. ومن يُسمح له بالسفر من لبنان، لا يُسمح له بالعودة إليه». (ص167) لذلك ينفرد بهم العدو الصهيوني، وينكل بمن يعودون منهم إلى أرضهم، وفقا لاتفاقات أوسلو المتخاذلة، ويسومهم صنوف التنكيل والعذاب. «يمنعون حتى القيادات من السفر إذا أرادوا!» (ص169) بل لقد فرضوا عليها الإقامة الجبرية منذ شهور ولا أحد يحرك ساكنا، ومصالح العدو الصهيوني لا تمس وعلمه البغيض يرفرف في عدد من العواصم العربية، أولها قاهرة المعز بفضل السادات وسلامه الكئيب.
دور المرأة والأخ الأكبر:
ويكشف لنا الكتاب عن تناقضات ما بعد أوسلو، وعن الوضع الفلسطيني التعيس حيث السلطة الفلسطينية بلا سلطة. وكان هذا قبل أن يجردها شارون من ورقة التوت، ويعصف بكل ما توهمت أنها حققته من انتصارات. وقبل أن تتحقق نبوءة الكتاب «علمنا التاريخ درسين اثنين: أولهما أن تصوير الفواجع والخسارات بوصفها انتصارا هو أمر ممكن. والدرس الثاني هو أن ذلك لايدوم.» (ص148) ومع ذلك، فإنه عندما يقول الكاتب لأبي محمد جاره القديم «كان مجيئي غلطة إذن؟» يرد عليه هذا الفلسطيني البسيط، «بالعكس. كل من يستطيع أن يرجع وأن يقيم فليرجع على الفور. يعني نتركها للفلاشا واليهود الروس وزعران بروكلين؟ هل نتركها للمستوطنين؟ ليعد من يستطيع العودة من الخارج. بتصريح لمّ شمل. بوظيفة، بالجن الأزرق. إبنوا في قراكم إذا قدرتم. ابنوا مستوطنات فلسطينية في فلسطين يا أخي! قال غلطة قال. ياعمي تعالوا.» (ص169)
هذا الحدس الشعبي البسيط الصادق هو حدس الانتفاضة الذي يجعل كل امرأة فلسطينية تصرخ في أي جندي من جنود الاحتلال الصهيوني، حينما يقبض على شاب فلسطيني: أبني، أبني! أتركوا ابني! وقد «صرخ الجندي في وجهها وهو يجرجر الشاب: روخي كذابة. كم أم لولد واحد؟ مئة أم لولد واحد! أمشي من هون! صرخت في وجهه: أيوه أحنا هيك. الولد عندنا له مئة أم. مش أولادكم. كل ولد له مئة أب. ظاهرة المرأة الفلسطينية في الانتفاضة تستحق التمجيد بلا تردد. لكن قصتها الكاملة لم تكتب بعد». (ص 142).
والواقع أن هذا الكتاب الجميل هو كتابة الكثير مما لم يكتب في هذا المجال وبطريقة تتسم بالسيولة والسلاسة معا. هو كتابة لدور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة، ولدور الأخ الأكبر في العائلة الفلسطينية من خلال كتابته لدور أخيه الأكبر «منيف» الذي مات في ظروف غامضة في محطة الشمال «جار دي نور» في باريس. حيث يقول «إن كتبا كثيرة يجب أن تكتب حول دور الشقيق الأكبر في العائلة الفلسطينية. منذ مراهقته، يصاب بدور الأخ والأب والأم ورب الأسرة. وواهب النصائح والطفل الذي يبتلى بإيثار الأخرين وعدم الاستئثار بأي شيء. الطفل الذي يُعطي ولا يقتني. الطفل الذي يتفقد رعية تكبره سنا وتصغره سنا فيتعلم الانتباه.»(ص 45)
وقد تعلم «منيف عبدالرزاق البرغوثي» الانتباه منذ شب عن الطوق، وقرر العمل بعد وفاة الأب كي يتيح لأخوته الأصغر التعليم الذي لم يتح له. فقد كتب لأخيه «مريد» في رسالته الأولى له بعد التحاقه بجامعة القاهرة أنه يشترط أن لا أحول الدولارات التي تصلني منه إلا في البنوك الرسمية المصرية. إذا علمت يوما أنك تحول نقودك في السوق السوداء فستعود إلى رام الله فورا. إنك الآن في أول شبابك. وإذا بدأت حياتك بالالتواء فلن تستقيم أبدا.» (ص133)
وقد يظن القارئ أن هذه حكمة رجل عركته الحياة، وخاض تجاربها. وهي بالفعل كذلك. ولكن «منيفا» كان في الثانية والعشرين من عمره حينما كتب لأخيه الأصغر – الذي لا يصغره بأكثر من ثلاث سنوات – هذه الرسالة. لذلك ليس غريبا أن النص مترع بالحب والاحترام الكبير لهذا الأخ الذي رحل قبل الأوان. ويكشف لنا النص عن مفارقة إعجاب الأخ الأصغر بأخيه الأكبر، وصغر سن هذا الأخ الأكبر، حينما اطلعت رضوى لأول مرة على صورته فكان تعليقها المباشر «ألله، بس ده ولد. وانت تقول أخوي الكبير! أخوي الكبير! افتكرته راجل عجوز. وهو قدّك وشكله أصغر منك.» (ص134). لكن ما فات رضوى أنه بالفعل رجل عجوز، برغم أنه في مقتبل الشباب، وهل ثمة أقوى من فقدان الأب والوطن عاملا يقذف بالإنسان من الصبا إلى الكهولة مرة واحدة! لذلك يسعد «مريد» حينما يصدر ديوانه الأول وقد حمل تحت اسمه «بخطأ» غير مقصود ولكنه دال، اسم أخيه الأكبر منيف، ثاويا تحت اسم الأخ الأصغر الشاعر «مريد» وكأن امتزاجهما يؤكد أنه لولا «منيف» ما كان مريد «شاعرا» (ص194).
ولذلك فإن ذروة هذا الكتاب الجميل تمزج بين عدة ميتات فلسطينية: موت الأخ الأكبر «منيف» في الشتات الفرنسي. وموت المبدع الفنان «ناجي العلي» في الشتات الانجليزي، وموت الفلسطيني العادي «لؤي» في الشتات المجري. في الموت الأول لم يستطع «مريد» الحضور، فقد استحال عليه أن يحصل على تأشيرة لفرنسا من القاهرة التي بلغه النبأ فيها، بينما استطاع في الموت الثاني أن يكون في لندن مع أسرة ناجي العلي عندما اغتالوه في يوم عيد زواج «مريد» و«رضوى» 22 يوليو 1987، وأن يحضر مراسم الدفن في ضاحية «ساري» قرب لندن. بينما لم يستطع أن يحضر مراسم دفن «لؤي» الذي قتلته زوجته غيلة في ضاحية جبل «فيشجراد» التي تبعد عن مركز بودابست، بعد «ساري» عن مركز لندن.
لكن الربط بين عيد زواج الكاتب واغتيال «ناجي العلي» يرده إلى ربط آخر بين عيد ميلاده واغتيال الموساد الصهيوني لـ«غسان كنفاني» في بيروت في 8 يوليو 1972، والجنازة البطولية التي قادها يوسف إدريس لتتزامن مع جنازة كنفاني في بيروت، وموقفه البطولي حينما طالبه الأمن بأن يذكر أسماء من شاركوا معه في الجنازة الرمزية، فقال له: «أنا حا أقولك أسامي الخمسين شخص كلهم. أكتب عندك يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف إدريس، يوسف … وهنا أوقفه الضابط عن الكلام. أنهى اللقاء ومضى في سبيله.» (ص205). لكن هذا الموقف البطولي ليس هو موقف شعب مهان. إنه الاستثناء!
أما القاعدة الأليمة المرة فهي كما يقول الأمير (هاملت) «إن ثمة شيء عفن في الدنمارك!» أو ما يسميه الكاتب في نهاية كتابه بـ«التأقلم مع النقلة الخاسرة في الشطرنج العربي. نقلة إلى الوراء. نقلة سلبية تنتكس بالنتائج مهما كانت المقدمات إيجابية. بعد معركة الكرامة التي خاضها الفلسطينيون والأردنيون معا ضد العدو، ذهبنا إلى أيلول ضد أنفسنا. بعد حرب الـ73 وعبور القناة، ذهبنا إلى كامب ديفيد. بعد مناهضتنا لكامب ديفيد عربناها، في وادي عربة، وعممناها وقبلنا ما هو أقل منها فائدة، وأكثر منها فضيحة. بعد اجتياح لبنان خرجت منظمة التحرير من الصمود البطولي إلى الاقتتال والاعتدال والتكيف مع شروط أعدائها. بعد الانتفاضة الشعبية على أرض فلسطين ذهبنا إلى أوسلو. دائما نتكيف مع شروط الأعداء. منذ الـ67 ونحن نتأقلم ونتكيف.» (ص209)
ويبلغ هذا التكيف منتهاه في اتفاق أوسلو، وفي خطاب رابين الذي سلب الفلسطينيين حق الضحية؛ وجعل المعتدي الغاصب هو ضحية الحرب والعنف، ضحية جريمة اقترفها الفلسطيني الذي بنيت دولة الاستيطان الصهيوني على أرضه، ودفع ثمنها من دمه. لكن الغاصب دائما ما يقلب الحقائق. ونحن نتأقلم ونتكيف! فهل ثمة أمل في الخروج من هذا الهوان الرازح الذي ازداد ثقلا وفداحة منذ انتهاء الكتاب، وحتى اليوم. أمل الكتاب الوحيد هو عودة الابن «تميم» ليرى رام الله مع أبيه في الصيف التالي لكتابته! وينتهي الكتاب على هذا السؤال المفتوح: هل ستتم هذه العودة. وكأن الشاعر يفتح السؤال على السؤال الفلسطيني الأكبر. لأنه لم يغير تلك النهاية في الطبعات التالية من كتابه، حتى بعدما عاد الأبن إلى فلسطين. ولكنها ظلت عودة أو عودات مؤقته، ليست هي ما تعنيه نهاية الكتاب المفتوحة على أمل يكتسب دلالاته من بنية الكتاب الفنية، وترك النهاية مفتوحة. وهي بنية تنطوي على ضرورة أن تكون عودة الابن مغايرة لعودة الأب المؤقتة والقصيرة. وإلا فلن نبرح دائرة الشلل والهوان.
* * *
هذه ليست إلا لمحة عما قدمه مريد في الشعر والنثر معا من إضافات فنية وموقفية، تكتب استقلال المثقف، وتشبثه بأرضه من ناحية، وتضيف إلى إنجاز جيله في الأدب من ناحية أخرى. أقول بها وداعا يا مريد.
قائمة بأعماله:
ألشعر
- الطوفان وإعادة التكوين: 1972..... دار العودة – بيروت
- فلسطيني في الشمس: 1974..... دار العودة – بيروت
- نشيد للفقر المسلح: 1977..... الإعلام الموحد – بيروت
- الأرض تنشر أسرارها: 1978..... دار الآداب – بيروت
- قصائد الرصيف: 1980..... المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت
- طال الشتات: 1987..... دار الكلمة - بيروت، نيقوسيا قبرص
- رنة الإبرة: 1993..... المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت
- منطق الكائنات: 1996..... دار المدى – عمان
- ليلة مجنونة: 1996..... الهيئة العامة للكتاب – القاهرة
- الناس في ليلهم 1999..... المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت
- زهر الرمان: 2000..... دار الآداب – بيروت
- منتصف الليل 2005..... دار رياض الريّس – بيروت
- مجلد الأعمال الشعرية 1997..... المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت
- الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الأول 2013....دار الشروق – القاهرة
- الأعمال الشعرية الكاملة، الجزء الثاني 2013....دار الشروق – القاهرة
- استيقِظ كي تحلُم 2018 دار رياض الريس للكتب والنشر - بيروت
النثر
(رأيت رام الله) 1007...دار الهلال - القاهرة
(ولدت هناك ولدت هنا) 2009 دار رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، لبنان، (الجزء الثاني من "رأيت رام الله")
[1] . صدرت الطبعة الأولى من الديوان عن دار الآداب، بيروت، 2000.