إذا سقطت صخرة من المقطم على سكان "الدويقة" المنحوتة فوق ربوة، لن يُعرف عدد الموتى، هكذا يقدم النص وجها آخر من وجوه القاهرة، مشيرًا بعمد لثلاثية محفوظ، فالشخصيات تناضل بدأب ودهاء لأجل متع الحياة اليومية من أنفاس الحشيش والطعام، إلى متع السرير، وسط منطقة أعطتها الكوارث شهرتها.

طلوع الدويقة

شحاته العـريان

 

ولعل تلك المنطقة اكتسبت اسمها من ضيق ذلك المطلع الذي يدور حول وهدة عميقة تقع البيوت الأشبه بالعشش على تدرجاتها والتواءاتها.. ولا عجب فمعظمها في الأصل خيام للإيواء وزعتها المحافظة على من تهدمت بيوتهم  للإقامة  بها على نحو مؤقت لحين تسليمهم احدى شقق الاسكان الشعبي.. وبطول الأمد  تحولت الخيام لبيوت ضيقة اقام بعضها حماما خاصا وبيارة صرف حفرها أمام العشة او خلفها وظل الكثير منها معتمدا على استعمال الحمامات العمومية وجلب المياه منها على ما بها  من قذارة واختلاط .

 يتصاعد الطريق متلويا كثعبان ليعبر الميكروباس المتهالك  بخبرة السائق - العجوز لحسن الحظ- وهدات ومنحدرات اخرى كثيرة  متفاديا السيارات المقابلة متبادلا معهم السباب والضحك والأحداث.. ليصل أخيرا -وبما بدا له انها معجزة ما- قمة الربوة المسطحة التي اقاموا فوقعا عددا من بلوكات الاسكان الشعبي اسموها (مساكن الحرفيين)

 .. الميكروباصات المستهلكة التي تصعد الطريق  غير مرخصة بالطبع وغالبها يقودها صبية أنصاف واعين بفعل المخدرات التى تزدهر تجارتها هنا  بعدما صارت:"الدويقة" ومن أعوام قليلة فقط.. منطقة معروفة .

ولا تشتهر تلك المناطق عادة سوى جراء الكوارث.. فقد انهارت واحدة من صخور جبل "المقطّم" المعلقة فوقهم على عددٍ -لم يعرف بدقة أبداً- من النائمين في بيوتهم فجرا كونهم دفنوا جميعا وغالب من يعرفونهم تحت الركام .. وإلى الأبد ..

خطوات.. وأكون في الشقة ذات الأولاد الكثيرين ووابور الجاز الوالع في الصالة بين فخذي السيدة مكحولة العينين التي تعمل لنا الشاي بينما أتداول وزوجها سيجارة ملفوفة وكلاماً عن كيفية الحصول علي الكيف.. وهو ما كان يقتضي أن يتركنا دقائق ليحضر طلبي من بائع الحشيش بالعمارة المقابلة :

- على ما تشرب الشاي أكون جيت..

- ماشي .. بس تكون حاجه كويسة مش زي المرة اللي فاتت!

- عيب .. وبعدين السيجارة اللي ف أيدك دي منه

- الريحة كويسة.. بس لسه مفيش أثر ف الدماغ

وتدخلت السيدة بصوتها المتثائب مختلطا بوشيش الوابور

- انته شربت حاجه!!.. دا آنا إمبارح سيجارة واحدة خلتني ألف حوالين نفسي وقعدت ييجي ساعة من الأودة للصالة للمطبخ مش عارفة أنا عاوزه أيه.. وصاحبك شرب سيجارته وراح ف سابع نومة

ابتسمت لها.. وغمغمت "حنشوف"، وقلت لنفسي "الحمار.. يشرب الحشيش وينام! ويدع أمرأة كهذه تدور في الشقة!" وقلت أستحثه ليذهب:

- ياللا بقي يا عم عشان نلحق نشرب سيجارتين مع بعض.. وبعدين أيه رأيك تعدي ع الجزّار .. كان فاتح وانا جي بس قلت انت تعرف تجيب منه حتة لحمه حلوة "أم بطة" تسلقهولنا مع شوية رز وأتعشي معاكوا

انفرجت ملامح رجب لذكر اللحم والأرز، وأعطاني مشوار الجزّار علي أول الطريق دقائق إضافية بمفردي مع حسنية ، وكانت بيننا مناوشات من قبل وكدت أقبّلها مرة لولا صراخ البنت من الغرفة المجاورة.. ولكن أين الأولاد؟ منذ دخلت لم أسمع لهم حساً!.. وتفاديت بصعوبة انزلاق لساني في سؤال عنهم قد يؤخر نزول رجب المتكاسل أصلا، وكُنت متعجلا ليترك السيجارة المتبقية في الطبق ألفها وأشربها مع حسنية بطريقة تبادل نفخ الدخان في الفم، وكانت قد تحدثت في المرة الفائتة عن شربها سيجارة مع رجب بتلك الطريقة.. وأتوقع ألا تمانع نظرا لما سلف.. وعموما ساقتراح ذلك كبداية لجرّ الكلام..

ناولت رجب النقود بسخاء قائلا:

- سيب بقي السيجارة دي ولما ترجع نلف م اللي حتجيبه!!

- ماشي .. وكان قد أنهى شايه فقام واقفا .. وقالت حسنية

- هات معاك فلفل اسود عشان خلص.. وكمان كيس ملح وبصل وعلبة كليوباترا

فنظر لها ممتعضا

- كده الفلوس متكفيش !!

فناولته عشرة جنيهات إضافية .. فقالت

- كمان دفتر بفرة.. مافاضلش غير ورقتين تلاته

وتجاهلت الملاحظة الأخيرة حيث تكفي العشرة جنيهات آنذاك للفلفل والملح والكليوباترا والبفرة

وقف رجب يتأرجح قليلا قبل أن يتجه للباب وعنده استدار لي قائلا:

- مش ح أغيب..

وبمجرد انغلاق الباب خلفه تورّد وجه حسنية تحت نظراتي الجامحة ولمعت عيناها المكحولتان بنظرة تحذير عابثة، وكانت يداي تعملان في لف السيجارة بسرعة فائقة وحين وقفت متجها إليها تبينتُ أنني مسطول اتطوح .. فضحكت من تطوحي هامساً وأنا أندس بجوارها علي الأرض مادا يدي بالسيجارة فوق نار الوابور المشتعلة ووشيشه يطغي علي همستي:"مساء الورد .. ما نشرب السيجارة دي سوا" فقالت وهي تتأخر بوجهها مستنكرة بدلع: "يعني أيه (سوا)!!"

- يعني ننفخ الدخان في بق بعض .. باك فاير

- ح نضيّع السيجارة ومش ح آخد منك غير قلة الأدب..

- وهوه فيه أحسن من قلة الأدب!

- كنت جيت امبارح يا أخويا

- لمّا رجب نام!!

- زي القتيل

- طيب ما نخلّيه ينام تاني النهارده

- ازاى

- نديه منوم

- معاك ؟

- آه .. معايا قرص منوم

- يخرب بيتك .. ودا نديهوله ازاي

- دوبيه ف الشاي

- لا يا عم دا رقّم ويهرشه..

- دي فرصة.. والعيال مش هنا.. هما فين صحيح؟

- عند أمي ومنى عند سميرة جارتنا.. نامت وآنا هناك المغرب.. ح ابقي أطلع أجيبها..

- و الكبير

- !.. عند أبوه

- جوزك الأولاني؟

- آه..

كنت قد أشعلت السيجارة من الوابور وأخذت نفس عميق وقربت وجهي من وجهها فاقتربت ووضعتُ شفتيّ على شفتيها نافخا الدخان فشفتطه هي وأنا أواصل إغلاق فمهاواعتصار شفتيها عابثا بالمتاح من جسدها قبل أن تدفعني لتخرج الدخان من فمها وهي تكح ووجهها ينزرد.. وتكسّر بيننا الكلام إلى همهمات متدافعة ونحن نتبادل شفط الدخان من السيجارة ونفخه في الفم وإخراجه من الأنف والتقبيل وتبادل تحسس الجسم.. انتهت السيجارة وكان من العسير الإيغال أكثر مهددين بالعودة المتوقعة لرجب.. وقد تعالي صوته أسفل الشباك يرد تحية أحدهم فانتفضت حسنية وتراجعتُ أنا إلي الكرسي فى الركن حيث كنت أجلس وبينما تصلح ثيابها همست بلهوجة:"فين البرشامة دي" بحثت عن القرص الملفوف في ورقة السوليفان بجيبي وناولته لها فدسته في صدرها وهي تقول :

- آه.. بس تبقى تنزل انته وترجع بعد ما ينام..

ونبهتها أن طعم القرص قد يغيّر طعم الشاي فعلا فضحكت من سذاجتي

وعندما فتح رجب الباب كان كل شيء كلحظة تركنا.. ناولها ورقة اللحم وكيس اللوازم واضعا البفرة في طبق اللف بيني وبينه وأخرج بحرص سوليفانة الحشيش قائلا وهو يدسها في يدي:

- وزنها كويس المرة دي

فوزنتها في يدي وقلت "مش قوي.. المهم تكون م اللي شربناه لأنه عالي فعلا" فقال أنه منه.. وقامت حسنية إلى المطبخ لتحضير العشاء، وتولى رجب عمل دور آخر من الشاي على الوابور بينما ألف السجائر التي سنشربها مع الشاي وأنا ألومه كيف أن "غرزجي" مثله لا تكون في بيته "جوزة شغالة" فيقوم على مضض لتجهيز الجوزة مشيرا لعدم وجود فحم ولا معسل ما كان يعني عشرة جنيهات أخرى وينزل ليحضرهما، وتجيء حسنية من المطبخ بفكرة أنها ستضع له المنوم في الشوربة وتضحك وكانت قد وضعت اللحم علي نار الوابور وتنقي الأرز في صينية بيدها وأوافقها مقترحا أن لا تُكثر من الفلفل لاعتقادي أنه منبه يتعارض مع المنوّم! وتعترض بأنه الذي سيغطي على طعم البرشامة ثم بلهجة تآمرية:

- تنزل بعد العشا والحجرين .. تغيب ييجي ساعة يكون نام.. ولما ترجع ماترنّش الجرس.. تخبّط خبطة واحدة عشان مايصحاش وأنا ودني ح تبقي مع الباب.. بس لو مفتحتش يبقي لسه صاحي تنزل تاني وتغيب شوية وترجع

- ماشي

- واذا مافتحتش تاني مرة.. تبقي ما اشتغلتش .. تروّح النهارده.. ونعمل ترتيب تاني

قلت نافيا ذلك الإحتمال:

- مفيش حاجه اسمها ما اشتغلتش.. الحباية لازم تشتغل!!

- باقول إفرض.. يمكن متأثرش معاه دي !!

- صدقيني..

وكدت أشرح لها أن المنوم غير المكيفات لولا أن قطع ذلك رجوع رجب بالفحم والمعسل وانصرفت هي للمطبخ لغسل الأرز وأخذت اللحم لتتم إنضاجه علي البوتاجاز تاركة الوابور للفحم الذي جاء به رجب، وقد بدأ في تجهيز الأحجار بينما أقطّع من الحشيش أحجارا دائرية أرصها متجاورة عند حافة الطبق، وقد استجابت قطعة الحشيش لدفء يدي فصارت مرنة سهلة التقطيع بما يعكس جودتها.. بينما تدور بيننا سيجارة من التي لففتها وكلاماً عن الحشيش الذى خُلق ليُشرب على الجوزة.. وكانت فكرتي أن الذى حولنا للسجائر التي تهدر الحشيش هو انتشار "البانجو" الذميم الذي ما ظهر إلا ليغتال مملكة الحشيش، وقد كان له في كل حى غرز عامرة بالضحك والمساطيل، بعضها تعمل بالليل وبعضها بالنهار، وبعضها ليل نهار، مترّحمين على تلك الأيام البعيدة الزاهية أوخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما تعارفنا في الغرزة التي كانت له في "الدرّاسة" تحت البيت القديم الوقف الذي كانوا يسكنونه وانهدم فصار خرابة أقام بها رجب زمنا قبل أن يتزوج حسنية ويسكنا الدويقة ضمن من حصلوا على شقق الإيواء وإعانات، وذلك بعدما تراجع عمله من "معلّم صاحب غرزة قدّ الدنيا" إلي "غرزجي على قدّ حاله" في الكُشك الذي أقامه في الخرابة قبل أن تعلم به الحكومة فتزيله محولة المعلم رجب بجلالة قدره إلى قهوجي يعمل باليومية في مقهي بالأزهر يروح يوم ويغيب عشرة.. ويعتمد في حياته على الظروف الحسنة التي قد تقود واحدا مثلي من اصحابه  القدامي لقضاء سهرة معه، تتكرر مرتين أو ثلاثة في الشهر، وقد تتقاطع مع زيارات لآخرين كحسن الميكانيكي صاحب الورشة التي على أول الطريق، ويعتبر مسئول التصرف في البانجو حين يندر الحشيش وبكر بيومي موظف الأوقاف واسع الرزق الذي رضي الله عنه فوفقه لموقع وظيفي لا تنقطع خيراته، و يأتي بعلبة سجائر ملفوفة وكيلو كباب وكفته لأن الله يحب أن يرى نعمته على عبده.. وكذلك المعلّم شوقي الفكهاني الذى يُحضر الفاكهة بإفراط ويشتري رجب له الحشيش بكميات كبيرة .. ولا يحب واحداً من هؤلاء الآخر، ولا أحبُ أيا منهم، والجميع يتطلعون لضحك حسنية وتعليقاتها وعيونها المكحولة وينسطلون ويمضون.. أو هكذا أظن، فلابد أن لكل واحد منهم ترتيب معها!!

أيا ما يكون .. عليّ أن أركز الآن علي ترتيباتي ، والتي يبدو أنها قد تثمر هذه الليلة .

كنا قد أنهينا طاقمين من أحجار الجوزة حين أتت حسنية بالطبلية إلى وسط الصالة ثم أتت بسلطانية شوربة  كبيرة واحدة وأعطت كل واحد في يده ملعقة قبل أن توالي رص الأطباق على "الطبّلية" وكنتُ أتابع شرب رجب ويعلق مشيدا بطعامة الشوربة اللاذعة بالفلفل الكثير، عكس نصيحتي لحسنية ،  ومتهيبا ان امد ملعقتي للشربة محتجا بكثرة الفلفل كنتُ أحاول التقاط عينيها لألومها لكنهما كانتا تروغان وعلي وجهها ابتسامة متخابثة.. وانتهينا من الأكل ورصّ رجب طاقما آخر من الحجارة لنشربه مع الشاي الوشيك، وقالت حسنية  ان رجب يشرب الشاي بعد الأكل بالنعناع وسألتني ان كنت أريد نعناعا في الشاي؟ فانتبهت انها قد تضع له البرشامة في الشاي ابو نعناع وقلت انني لا اريد نعناعا..  وبدأت ألاحظ بعد الشاي أنه يغالب النعاس الذي برره بثقل الأكل، وانتهز فرصة غياب حسنية بالمطبخ لغسل الأطباق ليسألني عن حبة منشطة، وكان معي اثنتان علي سبيل الإحتياط المفرط، فأعطيته واحدة تأكيدا لمبدأ التضامن الاخوي  محتفظا بالأخرى لآخذها في المقهي الذي سأنتظر علية حتي ينام.. وعلي أي حال كان من المناسب أن أنزل الآن وقد أنهيت الشاي وشددت الحجر الأخير تاركا لرجب قطعة من الحشيش .

في الطريق.. قابلني الهواء البارد بعد دفء الصالة المشوب بالوشيش.. فضممت السويتر على جسدي ولجأت لركن القهوة الداخلي متفاديا الرياح في الخارج، وشاغلاً انتظاري بالشاي والقهوة والمعسل وإمعان النظر فيما حدث وفيما قد يحدث، مقلبا في ذهني الإحتمالات كافة ومنصرفا بكامل وجودي للتفكير في حسنية .. تلك المرأة التي تابعتها علي مدار الربع قرن الأخير منذ كانت عروساً جديدة مزوقة تعبر الطريق أمام غرزة رجب في "الدرّاسة" لتصعد بيت زوجها علي الطوار المقابل.. وكانت نحيفة كطفلة لا تعرف كيف تزين وجهها فيبدو مضحكا تحت الأصباغ الفاقعة والكحل الثقيل.. ثم وهي تزداد امتلاءا وخبرة في التجمّل، واحتاجت زمناً طويلا لتصير حاملا في طفلها الأول من زوجها السابق، ومع ميلها للقصر اكتسبت مع الحمل مظهر الأنثي البدائية الولود ممتلئة الفخذين والردفين والأثداء.. مكورة البطن.. غير أنها كانت دوما جذابة التقاطيع تلمع عيناها السوداوان بما يشي بحيوية دافقة وجاذبية جنسية تشبة السحر.. عشرة أعوام هادئة من حياتها انقضت قبل أن يصبح بينها وبين رجب شيء.. وكانت أنجبت بنتين ماتتا.. بعد الولد الذى عاش بعاهة البله المنغولي، ما أفسد علاقتها بزوجها صاحب محل الخرداوات بالموسكي، وصارت في حكم العشيقة لرجب الذي تدهور حاله بعد هدم الغرزة وصار في مرحلة الكشك في الخرابة، محدود الزبائن والدخل، يمرّ عليها عندما تحل محل زوجها في الدكان حين يذهب ليتغدى وينام القيلولة في البيت، ليأخذ رجب ما قد تكون باعت به، ويصعد لها البيت عندما ينزل زوجها الدكان بعد القيلولة، حتي اكتشف الزوج خراب المحل بعد ما قد يكون استشعره من خراب البيت.. فحاسبها علي المنصرف من البضاعة فصرخت ولمّت الناس وقالت أنه: "بيخوّنها" وأنها لن تعيش معه بعد ما كان، وجرّت الولد راجعة لبيت أبيها بحارة "قرطم"، وفشلت مساعي الصلح بينهما فتطلقا على أن تترك له الولد ففعلت.. علي وعد من رجب بالزواج وهو ما كان..

لمّا أزالت الحكومة كشك رجب في الخرابة أخذا بمدخرها ومؤخرها وذهبها هذه الشقة في الدويقة، وكانت الحكومة قد أخذت رجب أيضا في ذات الحملة التي أزالت الكشك بتهمة ترويج مخدرات، نجا منها بفضل محام يمت لأبيها بصلة قرابة، اكتشف أخطاء في إجراءات الضبط، وصار رجب في الشارع قبل أن يلتقطه صاحب المقهي بالأزهر ليعمل لديه نصف وردية دون أجر تقريبا إعتمادا على كرم الزبائن، الذي اكتشف رجب أنه لم يكن كما يقدرة صاحب المقهي، فاستمر في العمل دون حماس إلى أن تتحسن الأمور التي لم تتحسن بعدها مطلقا.. بل ربما تعقدت أكثر بتوالي إنجاب حسنية للتوائم حتى صار لديه بنتين وولدين من بطنين فقط، وأنقذ نفسه من التوأم الثالث بمعجزة إجهاض غير مخططة عقب علقة ساخنة لحسنية نُصحت بعدها بمنع الحمل للحفاظ على المتبقي من صحتها الإنجابية.. وخرجت من تجربة الإجهاض ومن حياة رجب بالطلاق الاول بينهما لتشارك أبيها الأفيونجي في فرشته لبيع الشباشب بالموسكي وكان صديقا لرجب يتقاسما نفحات الكيف ويلعبان الدومنو الامريكاني.. ولتشهد حياة رجب وحسنية  بعد المصالحة  انتعاشا مؤقتاً، انتهي بكارثة ضياع رأس المال المتبقي لديهما.. ويقول رجب ان التجارة مكسب وخسارة.. وتقول هي أن أبيها نصب عليها وسرقها ورجعها الدويقة:"يا مولاى كما خلقتني" لتكافح في الحياة مع رجب، الذي يشك أنها اتفقت مع أبيها ليردها اليه بعدما كان طلقها وارتاح من الغم والعيال، هو الذى صار لا يروح الشغل الآن مكتفيا باستقبال معارفه  القدامى أصحاب المزاج وبعض المكاسب الصغيرة من تجارة الحشيش بالقطاعي "خارج البيت" -كما اشترطت حسنية- التي لم تعد تأمن غدر الزمن ولا الجيران ولا رجب نفسه ..

  وهكذا تسير الأمور..

كانت الساعة قد انقضت فحاسبتُ القهوجي وكنتُ أحس أن الحبة المنشطة تعمل بكفاءة وأنا أدق الباب تلك الدقة الوحيدة المتفق عليها ولمّا لم أسمع شيئا من الداخل وقفتُ قليلا أُنصت.. ثم انصرفت ثانية إلى المقهى الوحيد الساهر وقد بدا علي وشك الإغلاق حيث أفرغته برودة الليلة من الزبائن عداي وأربعة يلعبون الورق في الركن المقابل وبائع صعيدي يبيع "الكلسونات" يبدو أن السُبل تقطعت به هنا، ويريد أن يفاوض صاحب المقهي على المبيت للصباح، ووجدتني طرفا أقحماني كشاهد علي المفاوضات الدائرة بينهما حيث يري الصعيدي أن جنيه واحد يدفعه وما يُعده من وجهة نظره حراسة مجانية يعتبرأجراً كافيا للمبيت، ولا يرضى صاحب المقهى بأقل من ثلاث  جنيهات مع الاحتفاظ ببطاقة الصعيدي ليأمن غدره، وأنتهيا إلي جنيهان واحتاط صاحب المقهي بأخذ التلفزيون معه لأن: "تلفزيون البيت مخروب" علي أن يغلق الباب الصاج بالأقفال من الخارج بعد أن أتاح للصعيدي فرصة قضاء حاجته في ناحية معتمة من الجبل.. واستغرقت تلك المفاوضات وانصراف المقامرين وتشطيب القهوة نصف ساعة أخري كنت خلالها أشعر بالحرج والضيق حيث لم يعد هناك داع لوجودي بعد أن شهدت علي اتفاقهما ولو لأكمل حجر المعسل، وقد صار صاحب القهوة حاملا التليفزيون علي الرصيف وأنزل صبيه الباب الصاج للنصف، واستعد الصعيدي للتمدد، ودفعت الحساب وأنا أراوغ القهوجى  لأفلت من استفسارات بشأني، من أين وإلي أين وماذا أفعل هنا إلى تلك الساعة، ولم لم يراني قبل ولو عابرا !! أفلتُ من استجوابه مدّعيا التعجل.. وصرت أسير علي غير هدى في شوارع "مساكن الحرفيين" الفارغة، والهواء البارد يسفع وجهي، وبجيبي حشيش قد يعرضني لمشكلة إذا استوقفتني إحدي الدوريات الراكبة أو الماشية ..صعدت لشقة رجب مقررا أن أطرق الباب حتي تفتح حسنية .. وإذا أيقظت رجب يمكنني أن أقول أنني نسيت المفاتيح وعدت للبحث عنها بعد أن كنت وصلت حتى "السيدة عائشة"..

دققت الباب وانتظرت ودققت ثانية بقوة وانتظرت ثم ضغطت على زر الجرس بإصرار .. بعد لحظات فتح رجب مشعثا بملابس النوم واندهش لمرآي فبادرته:

- أنا منسيتش المفاتيح بتاعتي هنا؟؟ ..

وقف حائرا لا يجد ما يقوله ولا يبدو أنه يريد دعوتي للدخول، ولكنني كنت قد دخلت فعلا إلى الكرسي الذي كنت أجلس عليه طالبا منه إضاءة النور للبحث عن المفاتيح ولما لم أجدها على الكرسي ولا الكنبة ولا تحتهما طلبت أن يوقظ حسنية فقد تكون وجدتها بعد نومه، ودخل وخرج ليقول أن حسنية "مش هنا" شارحا أنها لما وجدته رايح في النوم صعدت لسميرة لتأتي بالبنت النائمة هناك، وربما بقت لبعض الوقت فبينهما دائما ما يثرثرانه، وطلبت منه أن "يطسّ وشه بشوية مية ويطلع لسميرة ليسأل حسنية عن المفاتيح" وزام محتجاً بأن سميرة تعيش بمفردها بعد طلاقها ولا يجوز أن يدق عليها الباب رجل في هذا الوقت، وأنه أيضا لا يعرف الشقة بالضبط ويخشي أن يدق باب الجيران، طالبا أن أجلس وننتظر حسنية التي لن تتأخر .. وبدوت محتارا لا أعرف كيف أتصرف وقد نسيت تماماً أن مفاتيحي بجيبي واندمجت في حالة من ضاعت  مفاتيحة بالفعل مرددا أنني لو لم أجدها سأكسر باب شقتي، فلا توجد نسخة أخرى من هذه المفاتيح في أي مكان..

وذهب رجب وقد استفاق قليلا ليأتي بالوابور من المطبخ ليعمل لنا الشاي حتي تجيء حسنية ..

أنارت النار العالية المشبعة برائحة الكيروسين والتي انطلقت تمهيدا لاشتعال الوابور ظلمة عقلي وقلت لنفسي "لابد أن لهذه المرأة رفيقا وأنها استغلت حيلتي لإنامة زوجها واللحاق برفيقها، مراهنة علي خجلي وترددي الذي قدّرت أنه سيمنعني من أيقاظ زوجها"

ولكن ما بال رجب غير منزعج لغيابها !!

وقلت له أن يرص لنا حجرين مع الشاي فوضع قطعتي فحم بجوار براد الشاي وأخرجت سوليفانة الحشيش وقد أشاع الوابور الذي بدأ وشيشه يرتفع الدفء داخلي وجعلني مستعدا للبقاء حتى الصباح أو رجوع تلك المرأة لأعرف سرها..

كنا قد أتينا علي طاقم الأحجار وذهب رجب لتغيير ماء الجوزة حين وجدت الباب ينفتح وحسنية داخلة تحمل طفلتها النائمة مغطاة بشال على كتفها، وفوجئت هي بوجودى فشرحته لها بصوت مرتفع ليستمع رجب الذى في المطبخ، وقالت إنها لم ترى أى مفاتيح، ذاهبة لتنيم البنت بالداخل، والتقت عيناها وعيناي سؤالان كبيران.. ما دفعها لتقول بصوت مرتفع موجهة كلامها لرجب أنها "راحت تجيب البت من عند سميرة"

وكنت محتارا لا أفهم لماذا رتبت معى كل هذا الترتيب !! ولكن صار لدي الآن حجة للبقاء حتى الصباح وقد تأخر الوقت ولن أجد من يساعدني لفتح الباب، ولا أستطيع إزعاج جيراني في مثل هذا الوقت و"الصباح رباح"..

ووضع رجب الجوزة المغسولة بيننا وهو يغمغم " ماشي تنور يا بيه" وبدا متخازلا ينتظر رأى حسنية وانصرف للداخل وسمعت همهمة مكتومة بينهما أتى على إثرها منبسط الأسارير شارحا انه يمكنني حين اشاء أن أتمدد علي الكنبة بالصالة ورددت:

- ولا نوم ولا بتاع نسهر لما النهار يشقشق وأنزل أنا

ممهدا للسهرة التي ستطول بدس "سنة الأفيون" التي معى تحت لساني ورجب منشغل بصب الشاى وتحليته، وثمة أمل بعيد يخايلني أن ينام رجب بمعجزة ما استجابة للمنوم، إن كانت حسنية قد وضعته له حقا في الشاي بالنعناع !!

آه ..

هذه المرأة بنت الكلب عادت من الخارج أجمل كثيرا مما كانت عليه أول الليل..

ولعنت البرد الذى طرد الزبائن وأغلق المقهى والخوف من الحكومة بسبب الحشيش الذي في جيبي.. والعجلة التى هى من الشيطان، ولو أنني أطلت انتظارى قليلا بالخارج لسارت الأمور كما خططت !!

وانتبهت على صوت رجب "سرحان ف ايه يا بيه .. محلولة بإذن الله .. تلاقيك نسيتهم ف المجلة .. عدي عليهم الاول بكرة يجوز تلاقيهم" ويطلب أن أشد الحجر وقد صارت البوصة بين شفتيّ فشددت بقوة أشعلت النار بفرقعة أتت بحسنية ضاحكة من الداخل :

- مالك.. بتشد كده زي اللي اتخرب بيته.. حاسب الحصوة تييجى ف زورك

كانت تعني الحصوة التي توضع في الحجر أسفل المعسل وان قوة الشد ستجذبها عبر قلب الجوزة مرورا بالمياه وصعودا في البوصة حتى "تييجي في زورك" وهو خيال فانتازي يليق بالحشيش تماما .. انفجرتُ في الضحك مناولا البوصة لها.. وطالبت هى رجب بحجر جديد لها منوهة أن من يشرب مثلي "محدش يشرب وراه""،

ساعة أو ساعتين والجوزة تدور وأدوار الشاي تتلاحق حتى بدءا يتثاءبان ومضت حسنية أولاً وناولت لرجب غطاء لي إذا قررت التمدد علي الكنبة، ووجدتها فكرة وجيهة خاصة ومازال علي النهار ساعتين أو اكثر، وشجعني رجب وأطفأ الوابور وترك لي النور لأطفأه عندما أريد وذهب.

كنتُ أشعلت سيجارة فأكملتها وذهبت لأبول استعداداً للنوم

وبينما أعبر الطرقة راجعا للصالة جمدتني الصرخة الغنجة المنفلتة من قبضة الكتمان وراء الباب المغلق، فأطفأت نور الصالة وتمددت منصتا بكل جوارحي، فتكررت الصرخة المرتجفة الخافتة أولا ثم أخذت تعلو أكثر فأكثر وبالطبع صرت أعي بوضوح رغم السطل الثقيل أنهما يتضاجعان بالداخل

استمر ذلك عدة دقائق قبل أن تخفت الأصوات وقد بلغتُ ذروة الاستثارة.. لأسمع بابهما ينفتح وأقدام -رجب غالبا لأنني سمعت ما حدست أنه أنفاس حسنية مازالت متسارعة داخل الغرفة- والأقدام التي اتجهت للحمام عادت وانغلق الباب ثانية ليسود السكون ويستطيل هذه المرة، حتى يخبو أملي الشحيح المتبقي أن ينام رجب وتأتي حسنية وأنام أنا أيضاً في النهاية علي كدر..

كانت الشمس تغمر مربعا من أرض الصالة بحجم الشباك المفتوح الشيش مغلق الزجاج تفاديا لبرد صباح أمشير عندما أيقظني رجب، وكان بحاجة لنقود ليأتي بإفطار وسجائر، وقمت للحمام لأغسل وجهي وحسنية  بالمطبخ تعمل الشاي فقلت لها ضاحكا:

- أيه بقى اللي حصل ده؟

- حصل ايه!

- احنا مش متفقين؟

- طيب .. مش كنت تصبر شويه.. دا آنا كت باستعد لك عند سميرة..

- يا سلام..!!

- والله.. أصل عندها بانيو وميه سخنة .. وكمان البت كات نايمه هناك ولازم أجيبها..

- ورجب .. يعني طلع مابينمش ولا حاجه والراجل عشرة على عشرة آهه؟

- انت سمعت..

وضحكت قبل أن تقول:

- آه .. دانا كت نسيت.. تصدق معدش غير كده .. تك تك .. دقيقتين تلاته وخلاص.. حلّني بقي لغاية الجمعة الجاية..

- معقولة !!

- طب دا امبارح كمان كان شادد حيله ..

ثم بأسف:

- ماكانش كده ف الأول..

وتذكرت أنني أعطيته قرصا فأخبرتها، وكيف أنني نادم على ذلك الآن .. وكانت تضحك.. وأحاول احتوائها وتتفلت مني وقد لفّت شعرها بإيشارب وتبدو شهية للغاية في ملابس البيت .. و تنهرني بأن رجب قد يعود في أي لحظة و"الجيّات أكتر"

فقلت لها:

- أمتى؟

- الخميس الجاى .. عندهم فرح ابن عمته، وانا مش حاروح عشان متخانقه مع أهل العروسة، وبعدين ح ياخد العيال معاه، يعني تييجي تلاقيني لوحدى

ودفعتني للصالة.. وجاءت خلفي لتطلب عشرين جنيه "سلف .. أرجعهملك يوم الخميس"

فأعطيتها النقود وأنا أقول لنفسي بصوت خفيض "بضاعة أتلفها الهوا" ولكن السيد "أحمد عبد الجواد" نال ذبيدة في النهاية ولا يبدو أن حالى يشبهه، ولا أطمع في مشابهة "كمال" فقد كان مثلي خائبا في الحب، فلم يتبقى لي سوى "ياسين" ولا يعيبه سوى الإندفاع والإفراط والتورط..

فتحت حسنية فمها مندهشة وهى تسمع الكلام العجيب، ولكنها اعتادت أن أقول أحيانا كلاما لا تفهمه، وكان رجب قد عاد بالفول والعيش فبادرته ضاحكة:

- صاحبك بيرطن ع الصبح..

- سيبك منه وسيبيه ف أحواله

وبعد الإفطار كانا نازلين الأزهر فنزلت معهما لأول الطريق

 

*كاتب من مصر