يفقد "كوفاليوف" في قصة "الأنف "لجوجول أنفه، والنص هو محاولته لاستعادة الأنف من أجل مغامراته النسائية، خلافا لذلك فالنص هنا هو محاولة الراوي للتخلص من أنفه بسبب خاصية تخيل الروائح دون شم، فهو يخترق الدواخل المخفية كاشفا عن أحوال وأسرار من يلتقيهم، ثم تدور الدوائر على صاحب الأنف.

أنفي المزعج

وجـدي الأهـدل

 

"لو سمحت ضع يدك على أنفك وأنت تقرأ هذه القصة" آخ لو تعلمون مقدار انزعاجي من أنفي المنتشر عرضاً! فقد خلق الله للعالمين أنوفاً طبيعية ما عداي. نعم فأنا أمتلك أنفاً غير طبيعي.. فجميع الأنوف العادية تشم الروائح التي تصل إلى شعيرات الأنف الداخلية، وأما أنفي الغريب الأطوار فهو يتخيل الروائح من غير أن يشم شيئاً. ولعل أحداً لن يصدق أنني أُعاشرُ أنفاً ذا خيال واسع! فعندما أشاهد معركة حربية في التلفاز أحس برائحة البارود تملأ خياشيم أنفي. ومرة شم أنفي رائحة فساء كريهة تنبعث من التلفاز عندما كانت المذيعة السمراء تعيد قراءة كلمة أخطأت في نطقها عدة مرات! ومرة كنت أستمع للمذياع وهو يُذيع برنامجاً مسجلاً عن ميناء الحديدة، وفجأة سكت المذيع عدة ثوان، ولم يعرف أحد في العالم كله أن المذيع قد تجشأ سوى أنفي الذي خمّن أنه أكل الفجل مع السمك، الأمر الذي أثار غثياني، فظللتُ طوال اليوم محموماً حتى تقيأت! لست أدري كيف أتخلص من هذا الأنف المزعج الخبيث؟ فهو لا يشم الروائح الحقيقية إلا في النادر، فمثلاً كنت مرة أقف بجوار حفرة مجاري عتيقة مملوءة بالأذى فُتحت لتوها، وسيارة خاصة تشفط ما فيها، وكان جميع الجيران والمشاة يهربون ويُكممون أنوفهم انزعاجاً عداي أنا والأحدب صاحب السيارة الذي ابتسم لي بامتنان مُحيياً شجاعة أنفي الذي قهر ألعن الروائح في الوجود!

أحياناً يشم أنفي روائح لا يقدر على إدراكها إلا أنف كلب شرطي متمرس.. فحدث مرة أن شممتُ رائحة دم حيض وأنا في منتصف المحاضرة، وظل أنفي يبحث بين الزميلات حتى اهتدى إلى الزميلة المسكينة، التي ما إن رأت وجهي المُقشعر وأنفي الموجه نحوها كسبابة الاتهام حتى نكستْ رأسها ووجهها شديد الاحمرار والخجل! وعند عودتي لمنزلي ضربت أنفي بحذائي ليكف عن حركاته الشقية.

أحياناً أقضي ساعات من الليل وأنا أتشاجرُ معه وأصفه بأنه مزاجي ومصاب بانفصام في الشخصية الأنفية! وكان هو يردّ عليّ بسلسلة من الروائح الوهمية التي تصيب رأسي بالصداع، وخصوصاً عندما يُشممني روائح شبيهة بروائح سيئة جداً كنت أشمها في كوابيسي.

ثم دخل أنفي مرحلة بالغة الخطورة، فصار يشم نوايا أصدقائي نحوي.. أحدهم كان يبحث بين زملائي عمّن يُعيرهُ قلماً، فلما نظر نحوي شممتُ رائحة مزبلة قذرة تنبعثُ من فمه! ومرة كنت أمشي في رواق الكلية والطلبة يملئون نهره جيئة وذهابا، فشممتُ رائحة عطرية حالمة قوية تنبعثُ من خلفي، ظللت أمشي والرائحة الزكية تطاردني حتى هبطت الدرج، وعند المنعطف، شاهدت إحدى الطالبات تمشي خلفي، وأكّد لي أنفي المغوار أن تلك الرائحة تنبعثُ من إبطيها بالذات! توقفت عن النزول، وحدّقتُ فيها ملياً، فتذكرتُ أنها زميلة سابقة اسمها (خيزران) في القسم السابق الذي كنت أتخبط فيه. مرّتْ بجواري وهي تُغالبُ ابتسامتها، وعندما استفسرتُ من أنفي عن سر هذه الهلوسة الشَميّة التي أوقعني فيها؟ أجاب بأنها تُحبني من أعماق قلبها! ولذلك ظل الزملاء يتساءلون طوال اليوم عن سر احمرار أنفي! في ذلك اليوم وددتُ لو آخذ سكيناً وأجدع أنفي المتطفل الذي راح يتدخل في شؤوني العاطفية! ويحاول لعب دور الوسيط الأبله، حيث وأنني لم أكن أُبادلها ذات الشعور.

ساءت حالة أنفي المَرضية أكثر فأكثر لدرجة فظيعة مرهقة.. فصرت أمشي في الشارع وأنفي يتشمم كل مارق وعابر.. "هذا عفن ارتكب جريمة أخلاقية قبل قليل.. وذاك نتن خدع فتاة قبل ستة أشهر تقريباً فقد خفّت رائحته قليلاً.. وتلك امرأة مُنفرة تركت أبناءها اليتامى وتزوجت بشاب أصغر منها.. وأخرى عديمة الرائحة أفتى أنفي بأنها لم تعرف رجلاً منذ خُلقت".

وهكذا أصبحت أعتمد على أنفي في اختيار أصدقائي، ولذا هم يستغربون لماذا أبدأ أولاً كعادة الكلاب بتشمم أي صديق جديد أتعرف عليه. والآن لكم أن تُقدّروا حجم مأساة إنسان يعيش حياة فرضها عليه أنفه، وصار عليه أن يتقبّل بهدوء مُصادقة أصدقاء أنفه، ومحبة حبيبات أنفه، ويتصرف وفقاً لمشيئته! ببساطة مُخلة بالعقل لقد صرت أعيش مع أنفي بدلاً من أن يعيش أنفي معي! لم يعد بإمكاني التمرد على تسيده لي.. بل إني لأشم رائحة كريهة تنبعث من أنفاسي الآن وأنا أكتب هذه السطور.. ولكنني لن أستسلم لديكتاتورية أنفي وسأكتب عنه ما أشاء.. نعم سأفضحه، فلقد دمر حياتي بلا شفقة وأحالها جحيماً من الشكوك السيئة، والاحتمالات الخبيثة، والافتراضات المتوجسة.

إنه أنف كاذب مُضلل، جعل الجميع لا يجرؤون على الاقتراب مني، وجعلني أعيش مُنفرداً وحيداً.. إنني أختنقُ برائحتي العفنة.. إنني أتسمم.. لم يعد بمقدوري أن أواصل ال.

 

كاتب من اليمن