نهض السيد غروسينغر صاحب محل المشهيات، الذي اعتبر الأكثر طرافة في المجموعة، وألقى كلمة تحية في صحة صاحب الحفل منظومة في أبيات شعرية. كانت أبياتا مسجوعة بسيطة مصحوبة ببعض الدعابات، ذات الصلة بالطباع الشخصية للمحتفى به- تفضيله لأكلات معينة، وانجذابه الرقيق المزعوم لبائعة تبغ، وعن معطف مطر بلون أصفر فاتح، اعتاد ارتداءه حتى عندما يكون الطقس في غاية الجمال. وفيما قوبلت هذه الأبيات بضحكات دافئة منتشية، جلس زاكسبرغر مبتسما بود. وسأل نفسه: تُرى هل كان من الممكن أن يتجرأ أحد على قراءة هذه..."القصيدة"، لو كانوا يعرفون من أنا؟ شعر بسعادة ما، أن يستطيع حضور هذا الحفل كشخص مجهول، وعندما انتهى السيد غروسينغر من كلمته، وصفق الجميع، صفق معهم.
"رائع، رائع ... لقد أجاد ذلك- إذاً فهو يستطيع أن يكتب الشعر أيضا- شيطان هذا الغروسينغر"- هكذا اختلطت التعليقات ببعضها. صافح زاكسبرغر صاحب محل المشهيات وقال له: "جميل جدا."
"لو تسمحوا لي" قال الرائد، هذه ليست قصيدة مناسبات عادية، لا بد للمرء أن يعترف أنها قصيدة حقيقية"
نظر زاكسبرغر للرائد باستغراب. فيما وافقه بعض الآخرين الرأي
"بالإمكان طباعتها كما هي، شيء رائع. دائما ما كنت أقول، إنه غرو سينغر"
أحس زاكسبرغر بعدم الارتياح، كان يود لو قام بعمل ملاحظة نقدية، لأن القصيدة لم تعجبه. كانت القصيدة ضحلة، والسجع كان مفتعلا. كما تضايق أيضا من هذا الرضا بالذات المرتسم على وجه تاجر المشهيات، ومن المديح المبالغ فيه الذي ناله.
لكنه صمت. شعر أن كل كلمة نقد من شأنها أن تفسد الأجواء الطيبة للجلسة. كانوا سيفهمونها خطأ، ولهذا جلس ساكنا.
ثم سرعان ما نهض شخص آخر، لتحية صاحب الحفل. كان مدرسا ثانويا، وجعل بكلمات جادة من صاحب الحفل نموذجا لكل الفضائل البرجوازية. ثم قام من بعده شخص آخر، وقرع نخبا في صحة "النساء.
صفقوا من جديد، ومجددا هنأوا المتحدث، وأصبح مجد غروسينغر باهتا. لكن زاكسبرغر ظل غير هادئ. وشعر برغبة غامرة في أن يتحدث وأن يكشف عن شخصه المجهول. كان بوده لو يقفز ويصرخ في الجمع فجأة: أنا شاعر. كان بوده لو كان هناك شخص ما يحكي له قصة حياته... لم يكن ضروريا أن يقول: "أنا شاعر"، كان ثمة أسلوب للتلميح لذلك على نحو لطيف. وقف وذهب إلى ركن الغرفة، حيث يوجد معطفه. وأخذ منه سيجارة ووقف وراء غروسينغر. "كانت قصيدة جميلة! هل ينبغي لي...على سبيل التشجيع أن أهدي لك أعمالي؟"
التفت غروسينغر. "أي أعمال؟"
أشعل زاكسبرغر سيجارته دون مبالاة. "أنا أستطيع أيضا أن أكتب الشعر"
"آه هكذا؟"، قال غروسينغر وعاد والتفت للأمام مرة أخرى
لم يعجب هذا السيد زاكسبرغر على الإطلاق. رأى أنه بمثل هذه الملاحظات العمومية لن يستطيع أن يحدث تأثيرا، وقال وقد كاد أن يشعر بالحسرة، واضعا يده على كتف تاجر المشهيات
"لقد كتبت ديوانا شعريا كاملا، عندما كنت شابا، أتفهم؟"
نظر غروسينغر للرجل العجوز لبرهة وهو مندهش، ثم التفت إلى صاحب الحفل الذي جلس بجانبه وقال:
"أتسمع، ما حكاه السيد زاكسبرغر؟ لقد كتب ديوانا شعريا كاملا." ابتسم صاحب الحفل ولم يلتفت حتى وقال، "فليسامحه الله"
شعر زاكسبرغر أن ليس بإمكانه التراجع وقال: " أتفهمونني جيدا! لقد كتبت كتابا-وهو مطبوع، أتفهمونني؟""
"حسنا" صاح غروسينغر "إذاً كنت أكثر شرا من الآخرين في شبابك، طبعته أيضا"
كان زاكسبرغر غاضبا. " لم أكتب سجعا مفتعلا! بل قصائد جميلة وطويلة، أشياء جادة، أتفهم؟ علا صوت زاكسبرغر، بحيث انتبه بعض الجالسين في الجوار.
ضحك غروسينغر" وقال لزاكسبرغر: لماذا تقول لنا ذلك؟ لو لم تكتب أي قصائد، لكان ذلك أكثر غرابة!"
وقبل أن يتمكن زاكسبرغر من الرد، تدخل آخرون في الحديث، وتبين أن كلهم كتبوا في الماضي أشعارا وضحكوا، عندما تذكروا ذلك.
لم يستطع زاكسبرغر الذي ظل واقفا خلف مقعد غروسينغر أن ينصت طويلا. لقد تبخرت مرارته التي شعر بها في البداية، وأحس أكثر بالاحتقار والشفقة تجاه هؤلاء الناس... كان عليه أن يظل مجهولا-؛ لقد اعتبروا أن قناعه هو وجهه الحقيقي. وشيء ما أوعز له: حتى ولو ألقى أشعاره أمامهم، لما عرفوا شيئا عن ماضيه. في رأيهم إن أي شخص كان بينهم صدفة هو واحد منهم. ماذا كان ينبغي على المرء أن يفعل إذاً...
أخذ زاكسبرغر معطفه من فوق المشجب وذهب. لم يلحظوا شيئا. كانوا يتحدثون ويصرخون فيما بينهم. – وعندما وقف الرجل العجوز في الشارع، شعر بعدم ارتياح. لا-لم يكن يرغب في العودة إلى هنا، على الأقل في الفترة القادمة. كان حريا به أن يذهب إلى أصدقائه الشباب، لكي يسمع منهم أنه لا ينتمي لهؤلاء وأنه شاعر!" 1
*فصل من رواية "مجد متأخر" للكاتب المسرحي النمساوي أرتور شنيتسلر، وتصدير الفصل هو مقطع من مقدمة الترجمة الصادرة حديثا للمترجم "أحمد فاروق" بتصرف بسيط.