رحلةُ بالطائرة من "الكابيتال" إلى "بلد استان"، مروية على لسان مسافر يُعرّف نفسه بأنه "صحفي". الرحلة والركاب وجهتهما بلد تحكمه اشتراكية زائفة وأحزاب شكلية وزعماء فاسدون. يقدم النص وجهًا من وجوه الهجرة المعاصرة، الحافلة بالتناقضات، أجيال جديدة من مزدوجي الجنسية، وعجائز عائدون لبلادهم بغرض الموت .

نعية فاضل

فـراس ميهـوب

 

مطار الكابيتال، أوائل شباط.

الموعد المتوقع للرحلة: الثالثة ونصف عصرا، كما في كل سفر، يلفت نظرك مواقف واشخاص، بعيدا عن المعتاد، رجل بلدستاني يعترض على موظفة بشأن الوزن المسموح، أو آخر يعتمد على توتر المسافرين ليتسول مالا بحجج شخصية، أو قومية أو دينية.

رجل بلدستاني مع زوجته البايلاندية السافرة وابنته العشرينية الشقراء المحجبة، لم يتردد بالاصطدام بموظفة المطار دون سبب واضح، نظر إلي وبلهجة وادعة:

-يا أخي، إنهم عنصريون، لا يعاملونني جيدا، رغم جنسيتي البايلاندية، منظر ابنتي المحجبة يؤذيهم، إنها طالبة طب.

أنت بلدستاني، طالب دكتوراة، طبيب، أم تاجر؟

-صحفي في مهمة؟

-تعالي يا ابتسام، إنه صحفي من عندنا، من بلدستان.

نسي الرجل صراعه المصيري والوجودي مع موظفة الجوازات البايلاندية، وبهدوء تام، طفق يحدثني عن رحلته الأولى قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، كانت من بلدستان إلى البايلاند، لم ينس ربما تفصيلا واحدا، من جلس بقربه، محتوى أحاديثهما، تصرفات المضيفات، والأهم:

-خرجت من البلد لتحسين وضعي، لدي محل تجاري في الكابيتال الآن، الحمد لله على كل حال، لا أنقطع عن زيارة البلد أبدا، مرة أو مرتين سنويا كي لا تبتعد ابنتي عن جذورنا.

زوجتي طيبة، لا تمانع أيضا بالمجيء معنا، رغم أنها لا تتقن لغتنا البلادستانية، ولكنها تفهم سياق الأحداث حولها.

لم أجد كلاما كثيرا أقوله للرجل الطارئ الذي لم أعرف حتى اسمه، ولم ينشغل هو بالتعرف عليَّ أكثر، كان محتاجا لمن يسمع لغته لا من يتحدثها، وكأغلب المهاجرين البلادستانيون في البايلاند، تجمعهم الشكوى من الغربة والعنصرية والشوق للأهل والحنين إلى الوطن وما أن تبدأ أحاديث السياسة والدين والمذاهب حتى ينكمش كل منهم، ويعود إلى باطن قوقعته التي خرج منها تحت ضغط العسف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي قبل أعوام طويلة.

نحن طيبون، بصدق، نحن طيبون، ودودون جدا عندما نلتقي ببلادستانيون آخرين في المغترب، ولكن حبنا سلبي، مأزوم، منغلق، وغير فاعل، ربما لو نظرنا إلى علاقتنا ببعض بحب أقل، ومصارحة أكثر لكان وضعنا أفضل، واستطعنا الاندماج والحصول على الاعتراف، والاحترام بدلا من التجاهل بأحسن الحالات، والصراع في أسوئها.

جفَّ الحوار بيني وبين محدثي، وعاد للانشغال بزوجته وابنته، بينما جاء دوري لوزن حقيبتي الوحيدة خفيفة الوزن.

لفت نظري رجل قصير القامة، انشغل به موظف لشركتنا البلدية للطيران، على اعتبار أن لكل مواطن حصة بها، حسب النظام الاشتراكي الشكلي الذي مازال سائدا ولو بالاسم، وبالمناسبة الرجل القصير كان معروفا وزعيما لحزب شكلي أيضا في البلد، وكانت الاشتراكية جزءا من اسم هذا الحزب.

لا أحبُّ الحكم على الأشخاص من مظهرهم الخارجي، ولكن بلادة ملامح الرجل كان ملفتة، وأنا آسف سلفا على ما ستقرؤونه لاحقا، كان بصحبة زعيم الحزب هذا زوجته، أما كيف عرفت، ببساطة كانت تشبهه، ولا أشك للحظة أنه لا يحبها وأنه تزوجها بتوصية من والدته، هذه الأشياء لا تخفى، الحبُّ والاهتمام يبدوا جليا للغرباء.

كانت التعاسة تشع منهما، واليأس الذي يجمعهما لم يكن أقل عجزا من الحزب الذي ورثه الزعيم عن أبيه، ولو كان للأب عنزات بدلا من حزب ثوري سابق لورث العنزات ولما وطأت قدماه مطار الكابيتال أبدا.

لا تبحث عن تكافؤ الفرص، ولا تعترض على القضاء في بلاد تسوقها الأقدار...

الطريف أكثر أنَّ هذا الزعيم جاء إلى الكابيتال في مهمة حضور ذات المؤتمر الذي غطيت أحداثه وانتهى صباح اليوم، لكنني لم أره أبدا، اسمه كان مكتوبا في سجل الحاضرين، وكان غائبا لم يفتقده أحد.

تأخير الساعة الاعتيادي انقضى، ودخلنا في التأخير الغامض ومجهول السبب، طاقم الطائرة ينتظر محظيا أو محظية تأخرت، حقيبة مشبوهة، مضيفة تعرضت للسرقة في مترو الضواحي فاضطرت للاستنجاد بالشرطة، طرود وزير أسبق محملة رسميا بالتمر لم يتم إخراجها بعد من رحلة الذهاب، خلاف مع سلطات المطار على حمولة الطائرة الزائدة التي تصيب جميعنا بالرعب خوفا من سقوط الطائرة، ولكنها لا تحرك ساكنا فينا عندما تمر أمتعتنا الثقيلة عبر نقطة المراقبة ولا تزرع وجلا فينا يمنعنا من ترجي المراقب ليغض الطرف.

أفكار ساخرة، وكلمات طائرة تخفف عبء الانتظار الطويل، تعارف أسرع من لمح البصر، ونسيان لأسماء أشخاص صادفناهم في رحلة سابقة.

الساعة تقارب الخامسة، ومكبر الصوت يعلن للركاب ضرورة التجمع في المدخل المؤدي إلى القاعة الأرضية الأخيرة قبل الصعود إلى الطائرة، حماس غريب يبدو على بعض الوجوه، صمت ووجوم على أخرى، اتصال هاتفي أخير قبل الصعود إلى السماء، وداعات حارة، ورجاءات بالوصول السالم الغانم، بدءا من هذه النقطة تصبح السلامة المطلب الأساس، الطوائف والأديان والأحزاب وحتى الأوطان، الأموال والأحباب والأعداء، يتهمش الجميع ويتعلق الصاعدون إلى السماء بأمل النجاة معا وفرادى.

عينا صبية عسليتين تخطفني وهي تمر إلى قاعة السفر الأخيرة، انشغل عنها بصراخ أب على ولده الذي يتفلت من أي سيطرة، ويفعل حرفيا ما يشاء.

الملفت في رحلات السفر بالطائرة، ويشعرني شخصيا باطمئنان غريب، تلك الدعة التي تعتنق الأطفال، لا خوف من ركوب الهواء، ولا تفكير بخطر الموت الرابض ولو نظريا بكل من يتجرأ على قوانين الجاذبية العتيقة.

يبقى ركوب الطائرة للإنسان البالغ أمرا جللا مهما تكرر، ليس الأمر كذلك بالنسبة لطفل في الرابعة أو الخامسة من عمره، إنه يهزأ بكل هذا منصرفا إلى لعب ولهو.

طالما ذاك الطفل لا يخاف، فأن خوف الكبير غير مبرر ولا منطقي، توصلت بعدها أن الإنسان الحقيقي والمحقق لشروط الإنسانية الحقة ما هو إلا طفل وما عداه انحراف.

في الطائرة، زحام حميم، تلاقي المعارف، تعارف المجاهيل، تجاهل المعارف أحيانا، اعتراض على مكان الجلوس، وطلب لطيف بالتغيير يقبل فورا ان كانت امرأة حاملا او فتاة جميلة، ويرفض أحيانا إن كان الطالبُ رجلا أو امرأة في أواسط العمر، وحسب التيسيرات والتدخلات تحلُّ أغلب الأمور، ويظلُّ التعساء قلة قليلة.

قرب الجناح الأيسر للطائرة، بجانب النافذة جلست، بقربي شاب صغير السن لم يتجاوز السادسة عشرة بملامح مختلطة ستانية ولاندية، الراكب الثالث طبيب أسنان كما عرف عن نفسه والرابع الجالس بمحاذاة الممر الأوسط تاجر لم يتجاوز الأربعين عاما.

بكاء الأطفال الصغار يختلط مع لهجة غرب بلادستانية لمجموعة من النسوة المسنات والمسافرات معا، حماس مبالغ به لبعض معتادي السفر، وملامح مغرورة لبعض العابرين بأصداف القدر.

تجاوزتِ الساعة الخامسة والأربعين دقيقة، ولم تقلع الطائرة بعد، أخبرتنا مضيفةٌ بشكل غير رسمي-أي بلغة الصحافة سربت لنا الخبر-أنَّ التأخير الإضافي سببه تزويد الطائرة بالوقود، وأخبرتنا أيضا أن الطائرة ستمر إلى مدينة شمال البلد قبل أن تستقر على أرض مطار العاصمة لتقوم بين المدينتين بمهام رحلة داخلية، وهذا لعمري اختراع لم تفطن له أي شركة طيران لا شرقية ولا غربية.

السادسة مساء، تحركت عجلات الطائرة على المدرج، اشتدَّ صوت المحركات، واستقر المضيفون والمضيفات في أمكنتهم في أول، وسط، وآخر الطائرة ليعلموا الركاب بإجراءات الأمان والسلامة، مع أن هذا الإعلان هو أكثر ما يثير الذعر في نفوس المسافرين، فالمعلومات القيمة التي يتلقونها تذكرهم باحتمالات الرحلة الأسوأ، والسؤال المطروح دوما:

في حال حدوث طارئ، لا سمح الله، هل سيتم تنفيذ هذه الإجراءات، أم أن سير الأحداث سيتجاوزها؟

الأفضل عدم التفكير بكل هذا، ولكني أكاد أجزم أن أغلب مسافري الطائرات لديهم نفس التساؤل، لكنهم لا يطرحونه علنا.

ربما تتساءلون عن موقفي الشخصي من كل هذا، بصراحة ودون أي مبالغة، عندما سافرت في المرات السابقة بالطائرة لم أهتم بكل هذا، رحلة الطائرة لم تثر في أي مخاوف، وكنت أقضي نصف الرحلة نائما، بعد أن تعلو الطائرة إلى مسارها العلوي بارتفاع شبه ثابت، وأكثر شيء كان قد علق في ذهني من رحلة سابقة هو قصر المسافة المذهل فوق قزمستان من لحظة الوصول إلى البر حتى التحليق فوق العاصمة مرورا بالسهل والجبل.

العجوز المريض في الجهة الأخرى من الطائرة كان طاعنا في السن وأحسبه تجاوز الخامسة والثمانين، لون وجهه يمتزج فيه الشحوب بالحمرة المزرقة شأن مرضى القلب والرئة، مع ذلك كان يسافر وحيدا، حواسه وإدراكه للمحيط بدا جيدا، ونطقه سليم ومترابط، سمعته يحدث مضيفا، ويقول له:

-جئتُ لزيارة ابني الطبيب، إنه يعمل ويسكن في شمال غرب الكابيتال.

قضيت عنده ثلاثة أسابيع، لكني لم أرغب بتمديد إقامتي أكثر، يا بني، كما تعلم العمل في هذه البلاد مضن، ولا يدع مجالا كبيرا للعلاقات الاجتماعية، ثم أن لي أصدقائي في العاصمة، ونقضي أغلب أوقاتنا معا، نلعب طاولة الزهر، ونثرثر، لم يبق في العمر أكثر مما مضى.

-الله يطول عمرك يا عم.

-سلمك الله يا بني.

الطائرة تصعد في سماء الكابيتال المغطاة بالغيوم الكثيفة الداكنة، برودة راعشة أجبرتني على ارتداء سترتي الصوفية ذات الأكمام الطويلة، كان بالإمكان وبوضوح مبالغ به سماع قطرات المطر أو البرد الكبيرة ترتطم بصوت رطب بجسد الطائرة.

لم يتأخر جاريَّ البلدستانيين بالتعارف، شاركتهما جزءا من أحاديثهما، لكن التعب تمكن مني، وسهوت لدقائق، سمعتهما مع ذلك يمزحان مع الشاب الصغير الذي لم يكن أقل مرحا منهما، وأخبرهما بمأزقه في مدرسته فالبايلانديون ينظرون إليه شذرا لأنَّه بلادستاني، والبلادستانيون لا يرونه شبيها بهم، لا هو يذهب إلى المعبد القديم مع والدته البايلاندية، ولا يقصد المعبد الجديد مع البلادستانيين، كان يعيش في منطقة الوسط الرمادية لتي لا تشفع لأحد في عصر الاستقطاب، حيث لا مكان للحياد سلبا أو إيجابا.

سمعت قهقة رفيقيِّ السفر حين بدأ المراهق بتفصيل معاناته، وكيف استطاع أخيرا مداورة زملاءه بنجاح معتمدا على حيلة قديمة قدم الدهر، ممالأة الأغلبية الظاهرة الناطقة.

فتحت عينيَّ وأذنيَّ من جديد على صوت سام، كان ذلك اسم المراهق، كان هذه المرة آمنا، وهو يحدثُ جاريّ عن سعادته بزيارة بيت جده في العاصمة للمرة الأولى، كانت تلك رحلته الأولى لوحده.

أسلوب سام الهادئ والواثق في الحديث صرف اهتمامهما عنه، وقد عرفا عنه ما يكفي في هذا التعارف القصير العابر.

التقطتُ أنفاسي، وشاركت في أحاديث متنوعة مع التاجر الشمالي، الذي بدا هادئا، ناضج الفكر ومتواضعا، وطبيب الأسنان المندفع والمقبل على الحياة.

لم أستطع بعد ذاك مجاراة اندفاعة الحماس في الحوار المتدفق بينهما، ومزاح قصير للطبيب مع مضيفة جميلة.

اقترب وقت الشراب والطعام، مضى أكثر من أربعين دقيقة على بدء الرحلة، الطائرة تبحر في لج من ظلام دامس، وما عدا أضواءها المعرِّفة أو أنوار نظيراتها لم يكن هناك ما يغري بالنظر عبر النافذة.

الصخب الداخلي لثرثرات الركاب بلغ أقصاه، ترك كثير من الركاب أماكنهم، وقف هذا بجانب آخر تعرّف عليه للتو، وذاك عند مقعد صديق عزيز أو معرفة قديمة، كان كل ذلك مرشحا للاستمرار حتى الوصول إلى مطار شمال البلد، لن تقطعه إلا وجبة الطعام.

لم يسر كل شيء كما ظننت، أصوات المطر تقرع رأس الطائرة، جسدها وأجنحتها، الظلمة تحلك عبر النافذة، بعض الأضواء الصغيرة الاعتيادية الآتية من الريف الأبيض خفتت، تناءت، اختفت نهائيا.

ضجيج العاصفة لم يعد بمقدور التجاهل ابتلاعه، قلق عيون طاقم الضيافة تسرب رغم النجاح النسبي في إخفائه، حلَّ السكون، ضاعت السكينة إلا من وجوه الأطفال، خيل لي، بل رأيتُ بأم العين أب يحتضن ابنه أمَّا لأنه تجاهل أهمية ذلك في الماضي أو ليستمد الشجاعة منه، وأم تمسك بيد طفلها بينما كان يلعب بجهازه الالكتروني دون قلق على حاضر أو مستقبل.

جارا السفر لم يصمتا، لكن جملا استفهامية حلَّت مكان الجمل الخبرية، هل حدث معك مثل هذا؟

هل تعتقد أن العاصفة اعتيادية؟

مطبات هوائية شديدة؟

لم يملك أيا منا جوابا، جهدت على قول رأيي بأن الأمر يتجاوز كونه مطبا هوائيا؟

توجه عيسى، طبيب الأسنان إلى ذات المضيفة التي غازلها قبل دقائق، لكن الهزل غاب عن استفساره؟

ماذا يحدث، لماذا لا يتكلم قائد الطائرة؟ -

أجابته المضيفة بثقة بادية:

الأمر عادي، نحن معتادون على هذا فوق الجبال البيض. -

كدنا نصدق لهجة المضيفة الواثقة بقائد الطائرة، تلك الثقة التي تشبه تماما ما حدث في الخامس من حزيران ذات صيف ليس ببعيد، مع اختلاف الفصول.

علت بنا الطائرة كأنها تريد اختراق الغلاف الجوي، صمتُ قائد الطائرة المريب تسرب هلعا إلى النفوس الحائرة، هبطت الطائرة بعنف هذه المرة كأنها مرغمة على ملامسة الجبال، صعدت ثم هوت.

لا كلمة، لا خطاب، حركة المضيفين توقفت، جلسوا، في أماكنهم المخصصة، لم يفقدوا رباطة جأشهم:

-لا تقلقوا، سيسير كل شيء كما نرغب ونشتهي.

لم يشاطر أحد، على ما أعتقد، المضيفةَ ثقتها المطلقة "ظاهريا على الأقل".

سكن الخوف قلوب الركاب، ولم أكن استثناء، لا أنا ولا جيراني الثلاثة الأقرب.

انفصل عيسى عن المشهد العام، سمعته يرتل صلوات يرجو فيها الخالق أن ينجينا من هول هذه الرحلة المرعبة، توجه إلي:

حفظتُ هذه الصلاة عن أمي، صدقني إنها لن تخيب. -

بدا بكري، التاجر الشمالي، متماسكا، استمر بطرح الأسئلة، ولكنه لم ينتظر أجوبة عليها.

-هل مات قائد الطائرة، وأخفى الطاقم الخبر، وأنَّ من يقودها الآن مساعده ضعيف الخبرة الذي درس الطيران في كلية مشكوك بجدية تدريبها؟

طرحت السؤال المحرَّم على نفسي، منعني آخر حس سليم متبق من طرحه علنا، وعلى كل حال بدا الأمر كذلك، اندفعت المركبة في الفضاء تحت قصف العاصفة الهوجاء في مسار فوضوي، سرعة تفوق حد الاحتمال، صعود مفاجئ حاد ونزول سريع مخاتل، والأهم من ذلك صمت راديوي مشوش، أضيف إليه ركون المضيفين وهمود الركاب.

أيقنَّا بهلاك قريب، أحلام الحب والغنى والسلطة تضاءلت، سيطر شعور جمعي بالخطر الوشيك، ساد انتظار الأسوأ، لولا أنَّ استقرارا حلّ فجأة.

منتصف الممر الجوي بين الكابيتال وشمال البلد، الطائرة فوق انسيانلاند تقريبا، الجبال البيض صارت خلفنا، أكل الركاب دون شهية، قلة طلبوا شرابا إضافيا أو محاباة بالخدمة، طالما لم تحط الطائرة على مدرج الهبوط بأمان، فلن يعود شيء كما كان في الماضي.

أغلب المسافرين كانوا معتادين على ارتياد الطائرات، لكن شبه إجماع توطَّن بينهم أن لا شيء يشبه ما حدث اليوم، أكثر ما أقلقهم هو الصمت المطبق حتى الآن لربَّان الطائرة.

لم يشرح ما حدث، كم كانت سرعة الرياح، كمية الأمطار الهاطلة، الخطر الفعلي، وهل زال تماما؟

لم يطل الهدوء النسبي، قبل ساعة من الوصول المحتمل، عادت الطائرة إلى جنونها، الاستسلام الأولي انقلب إلى هستيريا خوف جماعي، أصوات النسوة وبكائهن، صلوات و صلوات، ضجيج غير منظم، من يحفظ رأسه من الهلع؟

نادرون جدا، بينهم كان ذلك الرجل المسن صامتا، بدا وقد تشابكت يداه كأنه غير معنيّ بالأمر، قلت في نفسي:

-لقد منحه التسليم بالمصير السلام الداخلي.

فوق شمال البلد، قبل منتصف الليل بقليل، أنوار متشابكة بدت من النوافذ المتعرقة، أعلن الطيّار عن بدء الهبوط التدريجي والاقتراب من المطار، تجاهل ما حدث، وكأنه جرى لأناس آخرين، هنأ الركاب بالسلامة.

اضطررنا للتصديق، فنحن الآن على أرض مطار شمال البلد، نزل بكري وودعنا بحرارة كأننا أولاد أمه رغم أنه لم يعرفنا إلا منذ أقل من خمس ساعات.

فيما تبقى من رحلة لم يعكر صفونا شيء، تعالت ضحكات عيسى من جديد، واستعاد سام لون وجهه بعد ان غادره شحوب الخوف، وعدت أسمع بوضوح بعد التشوش طويل الأمد في أذنيَّ.

لم يكن سهلا النزول في مطار العاصمة، نهاية رحلة الخوف، زغاريد النسوة رسمت بالصوت أطراف المشهد السوريالي، وحدهم الصغار لم يتغيروا، ولم يهتموا بتجاهل الطيار لما حدث، وحيرة آبائهم.

أفسحتُ مع سام وعيسى المجال بالنزول للركاب الآخرين، الرجل المسنُّ ما زال مسندا رأسه إلى نافذة الطائرة، نفس تشابك الأيدي، تعجبت من بقائه في مكانه، قدَّرت أنه غير مستعجل، صوت المضيفة في هاتفها الجوال:

-توفي معنا رجل مسن، كان مريضا مزمنا، الرجاء حضور موظفي مكتب دفن الموتى.

-قد يكون حيا، لما لا تطلبي الإسعاف؟

صرخ عيسى بحدة، بينما حاولت التحقق من نبض العجوز كما تعلمتُ في دروس الدفاع المدني.

بهدوء لم يكدره صراخ عيسى، ردت المضيفة الحسناء:

-إنه على هذه الحال منذ ثلاث ساعات، لم يتحمل المسكين اهتزازات الطائرة فوق المطبات الهوائية.

علمنا بموته، ولم نشأ إرعاب الركاب، كان ذلك كفيلا بخلق مشكلة أكبر، وربما التسبب فعليا بسقوط الطائرة.

جسدُ العجوز بارد كالصقيع، عيناه ما زالتا مفتوحتان، ويداه متشابكتان، أناقته ملفتة، ياقة بيضاء، ربطة عنق زرقاء قاتمة، معطفه مازال يغطي كتفيه المتقاربين، قبعة تزيده وقارا وتخفي بعض شعره الأبيض.

اجتاحني دفق الأسئلة المتنافرة، بينما وصل مسؤول دفن الموتى ومعاونيه، تولوا المهمة، وأشاروا إلينا بالخروج.

لمَ لا يتأخر دافنو الموتى، ولا يصل المسعفون مبكرين في بلدستان؟

 عند مدرج الطائرة، كان المسؤول الحزبي يشعل سيجاره البني الكبير، ملامحه المهزومة في الكابيتال انقلبت تماما، وفد استقباله تولَّى الحقائب المنتفخة، نظراته ملآنة بالثقة.

توقف عيسى عند منصة آلية للقهوة في المطار، نادى بحماس:

-حضارة، سنشبع قهوة مرة.

جد سام استقبله بحنو، وضع يده فوق كتفه، وخرجا معا.

لم أجد أحدا باستقبالي، سائق سيارة الأجرة هنأني بالسلامة:

-كيف كانت الرحلة؟

-جيدة على العموم، لا يخلو الأمر من بعض المطبات الهوائية.

رد بحماس:

-طيارونا هم الأفضل في العالم، ويقال أنَّ الباكستانيين جيدون أيضا.

-هذا ما نسمعه.

وصل المسافرون إلى بيوتهم، كلٌّ بطريقته، من المؤكد أنَّ بعضهم روى ما حدث بالتفصيل الممل، وآثر آخرون الصمت، قررت ألا أسكت، سلوك طاقم الرحلة غير مقبول، كان عليهم أن يخبرونا بالحقيقة، تجاهلوا موت الرجل العجوز، لم أنم تلك الليلة، كتبت مقالا مطولا عن رحلة الرعب، طالبت بالتحقيق والمحاسبة.

لم انتظر شروق الشمس، اتصلت برئيس تحرير صحيفتنا:

-سأرسلُ لك تقريرا خطيرا، عن رحلتي من الكابيتال إلى العاصمة، عن الصمت المريب، إخفاء الحقائق المريع، عدم الاكتراث بأرواح الناس، وحالتهم النفسية.

-أرسل مقالك بالفاكس، استرح من تعب السفر.

لم أستطع فتح عينيَّ حتى العاشرة ليلا، كانت صحيفتنا المسائية قد صدرت بعنوان عريض:

-عودة رئيس الحزب القومي الاشتراكي المؤمن من كابيتال البايلاند بعد مشاركته في مؤتمر دولي هام عن الديمقراطية".

لم أكن بحاجة للاتصال برئيس التحرير لأعرف ما حدث، قبل أن أضع الصحيفة جانبا، رأيتُ صورة الرجل العجوز في صفحة الوفيات، بدا وجهه حيويا وخاليا من المرض، كُتب تحتها:

نعية فاضل.