كل إصدار جديد للمفكر والكاتب عبد الفتاح كيليطو هو بمثابة حدث ثقافي. لقد نجح هذا الكاتب المغربي في خلق قاعدة حقيقية من القرّاء، في العالم العربي والعالم الفرنكوفوني، هو الذي اختار أن يكتب بلغتين، الفرنسية أولاً ثم العربية لاحقاً. قرّاء كيليطو ينتمون إلى فئة خاصة، فهم الذين يبحثون عن المتعة الأدبية والفكرية بالموازاة مع بحثهم عن المعرفة. ذلك أنهم يجدون أنفسهم منقادين بشكل مغناطيسي وراء أعاجيب كيليطو وطرقه السحرية في السرد والنقد على السواء.
يفاجئ كيليطو قرّاءه باختياره عنواناً لافتاً لروايته الجديدة "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط، مثلما يفاجئهم بجملة لفرانز كافكا تتصدر الرواية: "ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو". هذه الجملة المقتبسة من رواية "المحاكمة" تجعل القارئ يطرح أكثر من سؤال: من يريد كيليطو أن يحاكم؟ ما سر هذه اللاطمأنينة التي يستهل بها الكاتب عمله الجديد؟ وما مدى امتدادها في الرواية؟ ثم هل نحن أمام رواية بنفَس كافكاوي؟ هل ثمة جريمة غامضة كما في رواية المحاكمة؟ إن هذه الأسئلة تستمد مشروعية ورودها من إدراك مسبق لدى القارئ بأن كيليطو لن يستحضر كافكا في روايته الجديدة عبثاً أو من دون سبب.
مشهد غرائبي
يستهل الكاتب المغربي عمله السردي الحديث بمشهد عجائبي، إذ تظهر على السطح نورا وهي تنتظر ظهور زوجها حسن ميرو لتودعه، وهي ترتدي معطف الريش وتحمل صغيريها، تخاطبه بجملة أخيرة ثم تطير في الهواء بالطفلين. يقع هذا المشهد السريالي على سطح منزل الراوي، الذي لا يعرف هو نفسه لماذا يقع هذا على منزله. يغضب حسن لأن أمّه دلّت نورا على معطف الريش، وكانت بالتالي سنداً لها كي تغادر.
يخرج كيليطو بالقارئ من المشهد الراهن ليجد له جذراً في التراث السردي. أليس التراث هو المضمار الذي تجيد أحصنة كيليطو الركض فيه؟ فمشهد حسن ميرو يتقاطع مع مشهد آخر، لا يطابقه بالضرورة، ولكن يشترك معه في تلك الآلة السحرية "معطف الريش". تورد الرواية سواء بصيغة مباشرة أو غير مباشرة مقاطع من "ألف ليلة وليلة"، ويتوقف الكاتب عبرها عند حكاية حسن البصري الذي سافر إلى ممالك الجانّ، ووقع في غرام ابنة أعظم ملوكهم، ولم تكُن له من حيلة للوصول إليها إلا عبر حصوله على معطف الريش الذي كانت تطير به، وتتخلى عنه كلما نزلت تسبح عارية في البحيرة.
يخرج الراوي من حكايته التراثية ليعود إلى طفولته، إلى المنزل الذي طارت منه نورا زوجة حسن ميرو، ليسرد علاقته بحيوانات الطفولة متعقباً، وإن بشكل وامض، حضور هذه الحيوانات في متون سردية ودينية. مشاهد الطفولة يتم الرجوع إليها في آخر الرواية في تلميح يبدو من خلاله أن شخصية حسن ميرو تطابق شخصية الراوي.
في متاهات الكتب
في كتابه الجديد لا يخرج كيليطو من عالم الكتب، فحسن ميرو مولع بتوفيق الحكيم، يقتدي به ويرغب بتكرار مساره، ذلك أنه يرى أنّ على المرء أن يذهب إلى باريس إذا أراد أن يصبح كاتباً. هنا يتجلى كيليطو في تأملاته، وإن كان ذلك يرد على لسان الراوي. فهو يستغرب من مفارقة الذهاب للدراسة في فرنسا من أجل العودة إلى الكتابة لقرّاء العربية. "كان من الضروري، بالنسبة إلى حسن، إتقان لسان أجنبي، لكي يكتب بلسانه".
يعود كيليطو إلى عقد المقارنة بين حسن ميرو وحسن البصري، متوقفاً عند المشترك بينهما، فكلاهما تغيرت حياته بسبب كتاب، ميرو قرأ "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم فهاجر إلى باريس، والبصري حدثه بهرام المجوسي عن كتابٍ بسببه سيدخل عالم الجنّيات.
في متحف اللوفر يقع ما يسمّيه السارد "اللقاء الحاسم"، حيث تتغير عادة حسن ميرو من التحديق في اللوحات المعروضة إلى التحديق في وجوه النساء بحثاً عن امرأة سبق أن رآها هناك. تقوده الصدفة إلى رؤيتها من جديد في مقهى في حي سان جيرمان. وإذ حرص على عدم إزعاجها، لأنها سبق أن استاءت منه وهو يتطلع إليها ترسم في اللوفر، فقد ظل في مكانه يراقبها من بعيد، إلى أن فاجأته وهي تدنو منه لتقدم له ورقة قبل أن تغادر. كانت تلك الورقة تحمل عنصرين، الأول وجهه، فقد رسمت بورتريهاً له، والثاني توقيعها أسفل اللوحة: نورا. وحين يرفع نظره عن اللوحة تكون تلك المرأة قد اختفت، ولن يتمكن من لقائها إلا بعد مرور عام. وتتطور الأحداث وتتشعب لاحقاً.
هذه القصة يسردها حسن لنفسه، ويعمل باستمرار على "تصحيحها" و"تنقيحها" كأنما يريد كيليطو أن يقنعنا بأن أرض السرد، بالنسبة إليه، غير ثابتة، فهي تميد بالقارئ باستمرار.
السارد والناقد يكتبان الرواية معاً
حيناً تلو آخر، يحضر كيليطو الناقد لينوب عن كيليطو السارد، فنجده يمارس مهمته الأثيرة في تأمل المتون القديمة وتحليلها و"تقليبها" بين يديه، كما لو أنه حسن البصري الصائغ الذي يجلو الصدأ عن المعادن النفيسة، ويصقل الحلي والجواهر.
في السياق ذاته، يطرح كيليطو إشكالية ترجمة الشعر العربي القديم إلى اللغات الأجنبية، لا يصرّح برأيه مباشرة، إنما يستعير لسان نورا الأوروبية المعجبة بالمحكيات العربية القديمة، والمستغربة في الآن ذاته من محتوى الشعر العربي القديم الذي يعمل حسن على ترجمته لها من حين لآخر: "غير أنه سرعان ما تبيّن أنه لن يفلح أبداً في إثارة انتباهها إلى الشعراء. عندما يترجم لها بيتاً، يحس غالباً بالخجل أمام هذا النَظْم الذي يصير لا يطاق حين يُنقَل إلى لسان آخر، استعراض لصور مبتذلة، كلام بذيء فاحش، غطرسة وغرور".
تناقش الرواية كذلك مسألة العلاقات المتشنجة بين الكتّاب عبر نموذج أبي حيان التوحيدي وعلاقته بابن عبّاد وابن العميد اللذين أفرد لهما كتابه الانتقادي المعروف "مثالب الوزيرين". ويقوم استدعاء كيليطو للتوحيدي على ضرورة سردية فرضها اختيار حسن ميرو في مساره الجامعي. فهو كاتب مقالات يحلم بأن يكون أستاذاً جامعياً، وما من حلّ أمامه سوى إعداد أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، يكون أبو حيان التوحيدي موضوعها، ويكون كتابه "مثالب الوزيرين" هو مادة الاشتغال، الكتاب "الملعون" الذي سيصير بطلاً للرواية. إنه الكتاب الذي ظل حسن يتهرب من قراءته حين علم لاحقاً أنه نذير شؤم، وحاول بالتالي إنجاز أطروحته عنه من دون قراءته، والاكتفاء بما كُتب عنه وبمقتبسات منه، وهو ما ترفضه نورا، بل تقوم هي بقراءته بدلاً عنه، مكتفية بالترجمة الفرنسية الناقصة، ومعرّضة بالتالي نفسها لـ"خطر" الكتاب وشؤمه. غير أن هذا الكتاب بالضبط سيكون سبباً في توتر العلاقة بين حسن ميرو ونورا.
ثلاث حكايات في رواية واحدة
إننا أمام رواية تقوم على "المتعاليات النصية"، فالتقاطع النصي صارخ هنا على مستويات عدة، الاستحضار والموازاة والتعليق والتماهي. وحضور التراث السردي بأشكال متعددة في رواية كيليطو راجع بالضرورة إلى ولع الكاتب به، وإلى رغبته الدائمة بالاحتفاء به ليس عبر كتبه النقدية فحسب، بل من خلال العمل الأدبي أيضاً.
تقوم الرواية على ما يمكن أن نسمّيه تقنية التداخل السردي، فإذا كان ثمة تشابك بين قصة حسن ميرو وقصة حسن البصري، فيمكن للقارئ أن يضيف إليهما قصة ثالثة تتعلق بيوليوس موريس، الباحث الأميركي في التراث العربي الذي سحرته فتاة فنلندية بعينيها، وحذرته صديقته من ملاحقتها، لأنها تسبح عارية في البحيرة، وستفتنه بالضرورة. غير أنه لم يأبه لهذا التحذير وتعقّب الفتاة ورآها تسبح بلا ملابس في البحيرة أكثر من مرة، وحين تحدثت إليه وجد نفسه عاجزاً عن الكلام، مشدوداً إلى سحر جسدها. غير أنها تختفي وتحجب باختفائها كل النساء من حياة موريس الذي وجد نفسه يبحث عنها على الدوام. الفتاة الوحيدة التي ترافقه في حياته هي نورما التي تواطأت معه في الإيمان بأنها هي الفنلندية التي رآها تسبح قبل أعوام في البحيرة.
نظرة حسن البصري للجنّية وهي تسبح عارية في الماء هي ذاتها نظرة يوليوس موريس للفتاة الفنلندية، بشغفها وعذابها. وفي حياة موريس ونورما يوجد حسن البصري، بل إن حسن ميرو يلتقي موريس ونورما في نيويورك ليتعمق معهما حضور كتاب التوحيدي المشؤوم. ولا نريد هنا أن نحرق أحداث رواية عبد الفتاح كيليطو، فهي تجمع في تعاقبها بين السرد الشيّق والمعرفة الثقافية الهائلة. وهي من الروايات التي تدعو قارئها فور إنهاء قراءتها وإغلاقها إلى فتح الكتب والمتون التي شكّلت منابعها. وإذا كان هناك من كائن يرتدي معطف الريش، فهو عبد الفتاح كيليطو نفسه الذي تحسّ كلما دنوت من حكايته بأنه يهرب منك أو يطير بك بعيداً، في قدرة مذهلة على تفريع الأحداث على الرغم من قصر الرواية، الأحداث التي تصنعها شخصيات تجمعها وتفرّقها الكتب.
اندبندنت عربية