ربما لا يمكننا اختزال هذا النص البديع في تشريد "ليلى" المراهقة الفاتنة ابنة "أبا العبد" العامل في تفجير الصخر، مع "سعيد" تاجر الخردة المتجول بسيارته المتهالكة، وقدوم جحافل المولعين بالثأر للشرف الذين لم يهتموا يوما بأبي العبد، ليكشف النص باقتدار خلو هؤلاء من أي شرف.

ليلى

فـراس ميهـوب

 

لم يستجب أحد من الحاضرين في مضيفة المختار لطلبه الملّح بالتبرع لأم العبد.

-ممشاها لا يسر الخاطر، ألا تراها تنزل يوميا بالباص إلى المدينة؟!

ردّ المختار بانفعال:

-اتقِ الله يارجل، المرأة وحيدة، بل مقطوعة من شجرة، تضطر لبيع لبن بقرتها في السوق.

-ألا يكفيك أنَّها أمُّ الفاجرة، هي من ربتها وأودت بها إلى طريق الفسق والرذيلة؟!

انبرى آخر لمنازلة المختار الذي لم يشاطره أيٌّ من الحاضرين رأيه.

-حتى ابنتها الأخرى، لا تخرج إلا متبرجة، بلا حجاب ولا ستر يغطيها.

-العائلة معدمة، وإن لم تساعدوهم فستجبرونهم على الرحيل، أو الانجرار إلى أسوأ الخيارات.

-فليذهبوا إلى الجحيم.

-إنكم بلا رحمة، تريدون التنصل من دفع المال تحت حجج واهية.

قوموا من مجلسي، لا بارك الله فيكم.

اغتمّ مختار القرية من تخاذل أغلب الرجال عن نجدة عائلة أبي العبد، ما حدث معهم ما زال يشغل الناس، لاكوا عرضهم حرفيا عبر أسابيع طويلة.

في ذات المكان في نزل المختار، نفس الأشخاص ولكن الخطاب كان مختلفا تماما:

-نحن معك يا أبا العبد، أنت رجل شهم، لا تسكت على عارك، اغسله بالدم الأحمر.

في صباح ربيعي، وقبل أن يصل التلاميذ إلى المدرسة الابتدائية، كان خبر "تشريد ليلى" قد وصل إلى كل البيوت، الاتصالات لم تنقطع، ومن كان لا يملك هاتفا طرق الجيران على بابه ليخبروه أنَّ ليلى قد شردت مع تاجر الخردة المتجول.

سعيد، الأربعيني، الذي كان ينتظره الأولاد وأهاليهم ليبيعوه كل ما لديهم خارج الخدمة، من قطع بلاستيكية مكسورة، أثاث منزلي مهترئ، آنية ألومنيوم مدقدقة، أو طناجر نحاسية لم يعد ينفع معها التبييض.

كان قليل الكلام مع تأتأة ظاهرة، في شفتيه غلظة خفيفة، وجهه لم يكن دميما رغم لحيته قليلة الشعر، وعينيه النافرتين شيئا ما.

لم يأخذه أهالي القرية على محمل الجد كرجل مكتمل، بل كانوا يتجاهلون حديثه مع النساء، ولا يمانعون من اقترابهن منه وقيامهن ببيعه أشياء المنزل الفائضة عن الحاجة.

موعد سعيد الأسبوعي مع قريتهم كان ثابتا، يقضي يوم الثلاثاء على مهل بينهم، ينادي في مكبر صوت معلّق على سطح سيارته البيك آب اليابانية التي عفا عليها الدهر، ولكنها تفي بالغرض.

ما عدا حالات نادرة، لمرض أو ظرف قاهر، لم يخيب سعيد آمالهم، قدومه إليهم كان موضع ترحيب جم، فعلى الرغم من ازدهار هذه المهنة في القرى القريبة من المدينة، وكثرة ممتهنيها، إلا أنَّ سعيدا كان المفضل عندهم، يتقاسم الربح معهم بدل أن يستغل حاجتهم، ولم يبخس أثمان البضاعة أو يزدري أهميتها كما كان يفعل غيره.

بين ليلة وضحاها، وكما تفعل الدول حين تتبدل مصالحها، صار سعيد عدو الشعب رقم واحد، بعد أن كان ذات الرجال يتغنون بغضه للبصر عن محارمهم، ولطفه مع أطفالهم، وكرمه مع الجميع، وعدم تردده بتسخير سيارته لإسعاف مريض أو نقل طالب مضطر إلى المدينة، فماذا فعل ليستحق هذا الانقلاب المفاجىء عليه؟

ليلى، الصبية العشرينية، تركت الدراسة بعد نجاحها في الشهادة الإعدادية، اختلفت عن أغلب بنات القرية شكلا وسلوكا، بياض وجهها وامتلاءه، اتساع العينين السوداوين، الأنف المائل للطول دون شطط كحارس لوجنتين مدورتين كتفاحتين، الجسد المكتنز دون إسراف، والضحكة الساحرة دون تملق.

لم يكن في تصرفاتها ما يسير الريبة، فلا مزاح مبالغا به مع شاب، ولا تصنع للغنج في كلام أو مشية، كانت طبيعية كوردة جوري ندية، لكن حسنها جاوز الحد.

لم يجرؤ أي من شباب القرية أو القرى المجاورة على مجرد التفكير بها، أو مفاتحة أهلها بطلب الزواج، كانت في عيونهم حلما بعيد المنال، أو فاكهة محرمة، فقد تخلت عن الحجاب بتاتا، ولم يجبرها والدها.

كانت ريمة صديقتها الوحيدة، تذهبان إلى النبع لملء جرَّتين لماء الشرب البارد، مع خيوط الصباح الأولى قبل اشتداد الحر، وقبل غياب قرص الشمس في عمق البحر.

ذاك الثلاثاء نزلت ليلى إلى النبع، وبقيت ريما في فراشها، لذلك لم ينتصف النهار حتى تجمعت النسوة في بيت والدة البنت اليتيمة:

-أين ذهبت ليلى، وكيف، ومع من؟

لامتها امرأة مسنة مجربة للحياة:

-لا بدّ أن سرها معك، اعترفي.

كادت نساء القرية ينهشن لحم ريمة التي انزوت خلف والدتها، توفي والدها قبل سنوات، وليس لها ظهير يحميها، كانت بنظرهم فريسة سهلة.

استمرت ريمة بالإنكار علنا، ولكن والدتها استجوبتها، وانتزعت الاعتراف منها:

-شردت مع سعيد الخرداتي.

صعق الخبر الذي سُرِّبَ بعناية، ودون ذكر مصدره الصريح، أبا العبد الحفّار، لم يصدق في البداية، بل تعمد كأي إنسان يسمع خبرا سيئا أن ينكره بإلحاح:

-مستحيل، ليلى تتركنا وترحل مع نصف رجل كهذا، سعيد!

لم يبقَ لأبي العبد حيز لتفكير عقلاني، الفضيحة القاصمة بنظر الجيران لم تكن أول ما أنهك فكره، بل اختفاء ابنته المفاجىء وفراقها:

-هل فعلا شردت، غير ممكن، قد تكون مخطوفة، أو ميتة؟!

حشرجات ودموع أم العبد لم تشفع لها، ففي عرف القبيلة لا بدَّ أنها تعرف بمخطط البنت للهرب مع الخرداتي الأبله، انقطع التواصل مع زوجها، تجنب النظر إلى وجهها، والتزم كلا منهما الصمت الأصم.

الرجل الذي كانت ضحكاته تملأ سهرات القرية، وخفة دمه مضرب المثل، خرس، لا كلمة، ونظره صار شاخصا بين قدميه.

لم يتركه نابهو المنطقة، جاؤوا من القرى البعيدة، لم يعرفهم، ولم يكونوا مهتمين به، بل جهل أغلبهم وجوده، لكن شرف القرية والعشيرة والمنطقة كلها سفحه سعيد، ورماه بين الخردة على ظهر سيارته المتهالكة.

-دعوا الرجل يفكر، لا ترهقوه، إنه ينتظر الأسلوب والتوقيت المناسب لغسل عاره، الذي هو عارنا أيضا.

كان أبو العبد ذاهلا عمّا حوله، أولئك الأشراف الذين يحدثوه برفق ونصح كأخ، كانوا قبل أيام قليلة يمرُّون بجانبه دون أن يلقوا عليه السلام، كان رب أسرة منكفئا إلى أحواله، لا عزوة له ولا مال.

انقطع أبو العبد عن مجلس المختار، انسكب ماء وجهه مع تشريد ابنته، ركبه الذل، ولم يوفر رجال القرية فرصة لتذكيره بثأره، جاؤوا دون دعوة إلى منزله.

-رأى شكيب الأعسر أمس سعيد الخرداتي في بازار المدينة، لم ينكر فعلته، بل تبجح بأنه لم يلمسها حتى عقد الشيخ كتاب زواجهما بشكل شرعي.

-أي شرع يبيح اختطاف فتاة قبل الفجر من بيت أبيها؟!

تبرع آخر لدحض حجة سعيد الغائب.

-وا ذلنا إن قبلنا بسعيد الخرداتي صهرا لنا بالقوة.

ما تنوي فعله يا أبا العبد، نعرفُ أنك رجل، ولا ترضى الضيم.

بصوت مبحوح، نطق أبو العبد:

-الخيرة فيما اختاره الله.

نظروا إلى بعضهم، وفهموا أنَّه لن يحرك ساكنا، تغامزوا عليه، وخرجوا.

وحده المختار لم يشاطرهم فكرة الثأر والقتل، كان الرجل عاقلا، أمسك بذراع أبي العبد، وأسرَّ له:

-أنه الآن أمر واقع، مادام تزوجها على سنة الله ورسوله، دع الأيام تمضي، وبعدها يحلّها الحلّال، لا تصغِ إلى أفكار السوء.

سمع الرجل المنكوب كلام ضيوفه القسريين دون رد، غرق في بحر أفكار لا ضفاف لها، فارقه النوم ليالي طويلة، هذه الليلة الأخيرة هدّه التعب، وأغمضت عيناه.

انقطاع أبو العبد عن عمله طال، ومن كان مثله لا مصدر دخل له إلا قوة ساعديه، وموهبة خطرة تميَّز بها في الجبل كله، لا يمكنه البقاء في بيته طويلا.

لقب الحفَّار ليس كنية ورثها من أجداده، بل من مهنته التي تعلمها منذ صباه الباكر، أتقنها وتفرد بها في محيطه.

كان سكان القرية الفقراء يغافلون السلطات ويكسرون الأراضي الحرجية الصخرية بالفؤوس، ولما استحال ذلك بسبب بطء العمل، ووصول الخبر عبر الخضريين إلى مديرية الزراعة، وبما أنَّ الحاجة أم الاختراع، فقد أطلَّ أبو العبد ليكون منقذهم.

تفرد باستصلاح الأرض عبر نسفها بالديناميت، ولخطورة هذه المهنة، لم يكن له منافس.

كان يربط أحزمة الديناميت في أماكن محددة، وفي اللحظة المناسبة بعد أن يبتعد أصحاب الأرض، والصبية الفضوليون، يولع أبو العبد سلك الإشعال، فتهبط الصخور السود المزرقة كتلة واحدة إلى الوادي السحيق، وما أن ترتطم بمائه حتى تصعد للأعلى نافورة متلاطمة في مشهد مهيب.

أرض جديدة تولد كل يوم، يضيفُ الفلاحون الفقراء أمتارا جديدة إلى ملكيتهم الضيقة، وينقدون أبا العبد أجره ممتنين.

لم يخلُ لعب أبو العبد بالنار من بعض الحروق، داهمتِ الشرطة منزله، وفي غفلة تمكنوا من مصادرة عُدَّة شغله، أنقذه من الموقف رخصة صيد بحري، وعُرفٌ بالتغاضي عن استخدام الديناميت به رغم تحريم نص القانون له.

وقَّع تعهدا بعدم التكرار وخرج من المخفر دون عقوبة.

قبل عامين، تعثرت قدم ابي العبد قبل أن يصل إلى منطقة السلامة، نسفت شظايا الصخور المتطايرة أصابع يده اليسرى وأخرجتها من مفاصلها، ولم يبق فيها إلا اثنين.

عبق قلبُ أبي العبد بالمرارة، قبل أن يخرج تجاهلَ أم العبد، ومسح بنظرة سريعة وجوه أولاده النائمين على الأرض، أغلق الباب، وضرب برجلين مهتزتين دربه المتعرج إلى أرض عزيز الحسين.

لم يستطع مقاومة إلحاح الرجل، ففصل الصيف اقترب، ولا يريد أن يهلَّ الموسم القادم إلا وقد أضاف إلى أرضه دونما أو اثنين إن أمكن.

رغم خطورة كار أبي العبد إلا أنه كان مهنيا حقيقيا، يدرس طبيعة الأرض، وحاجتها الفعلية من المواد المتفجرة، والمكان الأفضل لتوزيعها، وخطة تفجيرها، والوقت المناسب للعملية، والأهم من ذلك قيامه بالعمل بأمان له ولأصحاب الأرض.

لم يكن يبالي بالمجازفة، فالأراضي بنظره مشاعة ولا مالك فعلي لها، وأهل القرية فقراء ورزقهم محدود لا يكفي لسد الرمق.

حيّا عزيزُ الحسين الحفّارَ الخبير، ردَّ عليه السلام بحركة واهية من يده المبتورة، أشار إلى الحاضرين بالتواري خلف شجرة التين الكبيرة، أطاعوا الأمر دون نقاش.

بخطى بطيئة اقترب أبو العبد، وزَّع أصابع الديناميت تحت الصخور الضخمة في أطراف الأرض المتعرجة، نظر نحو تجمُّع البشر المتحمسين بانتظار الانفجار الكبير.

هدأ تطاير الصخور، كانت العادة الدائمة أن يطل برأسه من مكمنه، إشارة منه إلى تمام المهمة ونجاحها.

بدا الانتظار دون نهاية، لم يرفع أبو العبد شارة النصر كما عوَّد زبائنه، قاوم عزيز الحسين اندفاع الصبية نحو حفرة الانفجار التي صارت ترابا معجونا محاطا بصخور مكورة موزعة دون ترتيب.

رغم فرح الرجل بانتصاره الصغير، إلا أنَّ صوتا في رأسه أخمد حماسته:

-أين الحفَّار، هل أصيب، أم نسي أن يخرج ليبلغنا بنهاية العملية؟

لم يطل تردده، فشعوره بأنَّ خطبا ما قد مسَّ أبا العبد تغلب على ما عداه.

انقلب الذهول إلى قلق فوجوم، لا أثر لخبير التفجير، صيحات عزيز وأبنائه اندمجت بالصدى المنعكس من الجبال القريبة، ولا مجيب.

سيطرت الحيرة، هل ابتعد أبو العبد ولم يكترث بأحد، أم أنّه مختفٍ ولا رغبة له بالرد، أم هل اصيب، بل قد يكون فاقدا للوعي في مكان ما.

انقلب الترقب ذعرا مستشريا في المنطقة كلها، وصل الخبر إلى مخفر الشرطة، ألقوا القبض على عزيز الحسين وأولاده البالغين.

حفَّارة ثقيلة أزاحتْ بأسنانها الحادة الركامَ الضخم، جثة أبي العبد كانت مهشمة، ولا معالم لها، لفّها الحاضرون، أفرج رئيس المخفر عنها وسمح بدفنها.

2021/08/07