يقدم لنا الناقد المصري قراءته التمهيدية لمجمل أعمال الروائية اللبنانية، ثم يتريث عن روايتها الأخيرة «بودابار» التي تكشف عن وعيها بهموم الوطن وقضاياه، والتركيز على أفرزته الحروب وآليات التناحر الداخلي، بصورة تضعنا روايتها إزاء ما يمكن دعوته ببقايا وطن يأبى أن يحتضر.

فضاءات الخطاب السردي عند لنا عبدالرحمن

بليغ حمدي إسماعيل

 

(أ) بورتريه التفاصيل الإجبارية:

في كل مرة تتجاوز الروائية الاستثنائية الدكتورة لنا عبد الرحمن تفاصيل الذاكرة المؤقتة إلى مساحات أخرى عميقة تفتش بعمق ورؤية بصيرة، ثم تؤوّل نتاج البحث لترصد تفاصيل تتحدى بها الذاكرة العربية الضاربة بهوس في ثقافة اللحظة البصرية القصيرة، وربما التكوين الجغرافي والتأصيل الثقافي لنا عبد الرحمن هو الذي دفعها بقوة دونما رحمة إلى التقاط إحداثيات المشهد الروائي ـ أزعم أحيانا أنها بانفراد وتفرد ـ مؤسسة بذلك تجربتها الروائية التي طالما كثيرا تشبه وثيقة تاريخية يمكن أن تتناولها بصورة أكاديمية تاريخية بنفس القدر الذي تتناولها ـ التجربة ـ من زوايا إبداعية .

وبالضرورة أنت مضطر بغير طواعية أو محض اختيار حر أن تدخل عالم الروائية اللبنانية لنا عبد الرحمن من باب شخصيتها وبيئتها ومن ثم الملامح التي شكلت رؤيتها الإبداعية ؛ لأنك حينما ترصد حالة امرأة تقضي ساعات طويلة وأياما بعيدة ليست بالقليلة في إنتاج أعمال روائية تحرك من خلالها شخوص الأحداث وأمكنتها فأنت بحق جدير باكتشاف عالم آخر مواز للإبداع هو فضاءات الكاتبة التي سطَّرت حروفها صانعة كوكبا جديدا قد يبدو افتراضيا للقارئ إنما هو في حقيقة الأمر واقعه ـ القارئ ـ وزمانه المعاصر والسحيق، وربما أحيانا استشرافه لأيام قد تأتي في غفلة دون ترقب لتفاصيلها.

وتغرد السيرة الذاتية للروائية لنا عبد الرحمن كما تذكر الموسوعة العالمية (ويكيبيديا) عن كاتِبَة لبنانية تَعيش في القاهرة وأرجائها المفعمة بتفاصيل وحكايا نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفلسفة توفيق الحكيم، ولقد درست لنا عبد الرحمن في الجامعة اللبنانية في بيروت، ومن بعدها بالجامعة الأمريكية في القاهرة؛ فهي حاصلة على درجة الليسانس من قسم اللغة العربية من جامعة بيروت عام 1997، كذلك على درجة الماجستير في الدراسات الأدبية من قسم اللغة العربية عام 2007، وعلى الدكتوراه عن موضوع السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية عام 2010، مما يعزز جدارتها اللغوية واستعمالاتها الأسلوبية بقدر عال من الرصانة والسبك وجودة التصوير، فضلا عن اتجاهها البحثي لدراسة السيرة الذاتية في الرواية النسائية هذا التوجه صوب كيان مؤثر في واقع الأمة العربية التي تواجه ثمة تحديات شرسة منها تحدي الثقافة الذكورية ومواجهة الهيمنة الجنسوية التي لا تزال تفرض قوتها وتبسط يدها على تفاصيل المشهد الاجتماعي والإبداعي على السواء .

هذا التكوين التعليمي الأكاديمي انعكس بالحتمية على الملامح الاسترشادية لعناوين قصصها وروايتها المتعددة الرؤية والطرح الإبداعي، فأنت غالبا ما ستكتشف لمحة أنثوية تعبر على عناوين إبداعاتها إذا ما اضطررت إلى تأويل الرواية من عنوانها، على سبيل المثال : تلامس 2008، أغنية لمارغريت 2011، ثلج القاهرة 2013، قيد الدرس 2016، صندوق كرتوني يشبه الحياة 2017، وأخيرا الرواية التي نحن بصدد قراءتها وعرضها (بودابار( 2020. إنها رحلة المرأة العربية في شوارع العواصم العربية بكل مطامحها وأحلامها وتحدياتها وهذا الهاجس الأبدي الذي يجعل المرأة العربية في صراع طويل وشاق من أجل بقائها كرائدة وليست جارية.

وبجانب كونها روائية فهي تحترف الصحافة النقدية الأدبية. التي جعلتها أكثر وعيا بتفاصيل الحدث ومشاهد واقعية يمكن رصدها وملاحظتها بدقة كشاهد عيان الأمر الذي يدفع برواياتها إلى يقين التصديق لأحداثها. وأنا على استحياء أعتقد ظنا يشارف اليقين بأن التكوين الأكاديمي للروائية لنا عبد الرحمن وسحر الأمكنة اللبنانية مرورا بالرصد النقدي لها عبر كتاباتها النقدية الصحافية أورثتها رصيدا كافيا لعقد مغامرة ثنائية بينها وبين تفاصيل الشوارع والأماكن العربية التي يمكن تحقيقها في روايتي قيد الدرس وثلج القاهرة على سبيل الاختصاص، الأمر الذي مكَّنها قصدا ووعيا بأن الرواية ليست مجرد أحداث عابرة أو سرد ممل يجعلنا صوب الاسترخاء والاستسلام للنوم ؛ بل هي فعل يقظة لا تنقضي .

وربما تجدر الإشارة بأن لنا عبد الرحمن تجاوزت أفلاك غادة السمان وأحلام مستغانمي ورضوى عاشور وغيرهن في مشهد لا يمكن الفكاك منه، فمعظم الروائيات دخلن في صراع أدبي نجم عنه رواية المرأة التي توجه حديثها إليها فقط وكأن الشاعرة أو الروائية مجرد ملقن لمعلومات وثمة وصايا وتجارب حياتية مشهود بجدارتها إلى مجموعة من الفتيات الصغيرات أو النسوة اللواتي يعانين من أزمات اجتماعية ضاربة في التأصيل كالعنوسة أو هجر الزوج أو رغبة الجسد المشتعل أو الانفصال بالطلاق أو الوفاة. لكنها ـ لنا عبد الرحمن ـ لم تتجرع كأس اليأس الاجتماعي للمرأة العربية، ولم تتصل هاتفيا بأحزان المرأة العربية الغارقة في ظنون القهر العاطفي والمعاناة الجسدية وتحولات الرغبة الممكنة والمستحيلة، بل أكدت أنها رائدة الرواية العربية التي تأبى تصنيف المبدع وفقا لنوعه ذكر أم أنثى، ولم تغادر مقعد الإبداع الفطري الإنساني العام متخذة كافة أساليب الرواية النسوية المكرورة التي تتناول أحزان امرأة في تمظهراتها اليومية المستدامة.

لكن لنا عبد الرحمن قررت استباق المشهد النسائي الراهن في صناعة الرواية العربية وأن تكون بمثابة جرس إنذار للرواية الذكورية التي تعكس واقع الوطن فترصد بعدستها تفاصيل الحياة اليومية غير متحيزة أو متحزبة لنوع أو فصيل معين. وأظن أنني نجحت سابقا حينما وصفت إبداع الروائية لنا عبد الرحمن بأنها قفزت فجأة بوعي وإدراك وحذر خوف السقوط في شَرَك الأدب النسوي الذي طالما رهن المرأة الكاتبة في مقام جنسوي ضيق يقف على الشاطئ المقابل للكتابة الذكورية هو مغامرة قد تقترب من حد اليقين، هذا بالفعل ما رصدته الروائية لنا عبد الرحمن في روايتها بعنوان (قيد الدرس)، فقبيل التقاط الرواية بعين القارئ كاد الظن يشارف الحقيقة واليقين بأن الرواية مثلها كمثل الروايات التي تكتبها المرأة بوجه عام تتناول قضايا واقع المرأة العربية فحسب، ورهاناتها الآنية في ظل مجتمع ذكوري يفرض سطوته بقوة وبغير منافسة، لكن المشهد بدا عكس ذلك تماما، لمرات قليل تنجح كاتبة أن تقنعنا أننا بإزاء نص يمتلكه القارئ وحده دونما استلاب حرية المبدع كونه رجلا أم امرأة .

(ب) مشهد رأسي على ثنائية الهوية والبقاء:
كانت التجربة النقدية الأولى لي مع روايات لنا عبد الرحمن حينما اكتشف عالما جديدا مغايرا لكتابات المرأة العربية بوجه خاص والروائيين العرب بوجه عام من خلال روايتها (قيد الدرس) حيث اهتمام الكاتبة بالمكان، والمكان ظل الجزء الأصيل في كتابات رواد الرواية العربية من أمثال عميدها العالمي نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف السباعي وواسيني الأعرج وكثيرين أيضا، وهو الخاصية التي انفردوا بها فرصدوا الشوارع والطرقات بتفاصيلها فصار المكان بما يموج به من حركات وثورات وأحاسيس متناثرة مرآة الحدث الأصلي في الرواية، هكذا لنا عبد الرحمن ظل المكان محورا رئيسا يمثل هوية ومقاما وحالا أكثر ما يمثل تجمعا سكنيا فحسب، تماما كما المكان في إبداع نجيب محفوظ، فهو ليس مجرد ثمة بيوت عتيقة أو دكاكين شعبية تحوي صنوف الأطعمة والأشربة، لكن هو مكان يجمع عائلات صغيرة أو كبيرة تبحث عن هويتها من خلال الإبقاء على تقاليدها الذكية وأعرافها التي بدأت في طريقها إلى اندثار .

1 ـ البقاء:
ولعل أبرز ما يمكن رصده في مجمل إنتاج الدكتورة لنا عبد الرحمن الروائي وصولا إلى رواية (بودابار) التي سيجئ ذكرها لاحقا مجموعة من السمات والثيمات البعيدة عن موازين التلقي النقدي المعتاد الذي يبحث فقط عن ثمة عقد سيكولوجية لا تخرج عن الشخوص والحبكة والزمان والقيم النفسية لدى البطل وألفاظه وماذا ارتدى وإلى أين سافر وماذا تناول من طعام في الفطور وهو في رحلته إلى باريس. من تلك السمات المميزة البقاء، والبقاء بصورتيه المادية والمعنوية هو المعادل الموضوعي لتحقيق الهوية حتى وإن كانت شخوص الرواية حاضرة بطول وعرض الرواية. إلا أن ظهور أحد هذه الشخصيات هو محاولة لإثبات البقاء والحضور والشهود، ونزوع أبطال الرواية أو شخصياتها عموما إلى تحقيق الشهود والبقاء سواء في الأرض أو الموقف أو تأييد لقضية ما هو بمثابة شغف أو شهوة مستدامة لقمع فكرة الزوال أو تحقيق لمقولة (الأرض لنا) التي تغنت بها فيروز في إحدى أغانيها. والمستقرئ لمجمل الإبداع الروائي للنا عبد الرحمن لن يفزع أو يفاجأ بأنها تسعى جاهدة في تأسيس هوية أو انتزاع أبطال رواياتها لامتلاك هوية للمكان الذي بالضرورة ستنعكس على هوية الذات.

هي نفسها ـ لنا عبد الرحمن ـ في روايتها قيد الدرس ترصد بعين مؤرخ وقلم روائي رصين هوية المكان؛ فتعبر بنا إلى مساحات لبنانية من أجل مشاركة حقيقية من الروائية في اصطحاب قارئ واعٍ ؛ بقصد تعاطف وتلاحم قصدي صوب امتلاك الهوية وتحقيق الشهود، فنجدها تسافر بنا إلى بيروت القديمة بشوارعها، وشتورة، وسهل البقاع، ودير السرو، والمرج، وبر الياس، ووادي أبو جبيل، وحيفا، وقَدَس، ومخيم شاتيلا، وبحمدون ودمشق.

2 ـ المكان:
كذلك نجدها متلبسة بالمكان وهي تعرض تجربتها السردية المثيرة في روايتها (ثلج القاهرة) بل وشغوفة بتلمس تفاصيله رصدا لمعاني مغايرة، فالسماء لا تسقط ثلجا بل تكاد الأمطار بها نادرة وقاصرة على أيام قلائل معدودات، هذا هو العنوان، لكن الهوية تبدو فلسفية قريبة من كل إجراءات الميتافيزيقيا التي تشكل حتما هوية الشخوص، لذا المكان في رواية (ثلج القاهرة) ليس ماديا فحسب بل أكثر معنوية فالرواية تدور حول فلسفة (الكارما) المشهورة التي تنتزع النفس والروح من شهوات الجسد لتبقى في انفرادها الأسمى الذي تجلى في وجود بطلة الرواية في قصر عتيق يماثل هويتها الفلسفية، كما يماثل الثلج تشكيلا مرادفا للقاهرة حسب الوصف النصي: "القاهرة تحتاج إلى ثلج يغطيها تماما، ثلج يوازن الأشياء لتعود إلى طبيعتها، ثلج يخفف من حرارة الناس، يذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة، ليحل مكانها لون أبيض ناصع، وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر نقي يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه". ومعظم من تناول رواية (ثلج القاهرة) دمغ شهادته النقدية بفكرة "تناسخ الأمكنة" حيث وجود امرأة تحيا بثلاث أرواح مغايرة ومختلفة يجمعها مكان واحد وهو الجسد.

3 ـ الهوية:
أما في روايتها (أغنية لمارغريت) فنهرع مجددا صوب الذات تحقيقا لشهود الهوية والكينونة من جديد، فكيف يتم للمرء تحقيق ذاته من خلال الغربة والعزلة، والمستقرئ على عجل فكرتي العزلة والغربة يجدهما مرادفين لبقاء الإنسان في مكان ما؛ إما داخل الذات في عزلته، أو خارج المجتمع حينما يغترب. وهي في الرواية تعكس كل تفاصيل المؤلمة التي عصفت بلبنان خلال معارك يوليو 2006. وتبدأ أحداث الرواية بانتقال زينب من ضاحية بيروت الجنوبية برفقة عائلتها ضمن هجرة قسرية بسبب الحرب الإسرائيلية في العام 2006. وهنا يتفجر المكان بإحداثيات ومشاهد تجبر القارئ على التتبع ؛ لأنه سرعان ما سيفتش بعينه ثم عقله عن بيروت بضواحيها وهوية أهلها وتفاصيل أمكنتها الشاهدة على أحداث الحرب الأهلية، بعد ذلك سنجد قارءها مضطرا إلى أن يجتر ذكريات المواطن العربي مع الكيان الصهيوني سواء على مستوى الزمان أو المكان.

والهوية حاضرة تماما في رواية (أغنية لمارغريت) لأن بطلة الرواية عقب الحرب الأهلية بكوارثها سرعان ما اكتشفت عبر رسائلها أن لغتها قد تغيرت، وأسلوبها قد تبدل، بل إن مشاعرها قد تحولت إلى عواطف واتجاهات وميول شتى يصعب تجميعها في منظومة متماسكة: "بعد الحرب، تغيرت لغتي، تبدلت حروفي وتداخلت لتشكل لغة أخرى لا أحد يفهمها أبدا، لغة حروفها تشبه حروف الرسالة المتشابكة التي وصلتني عبر الإيميل، والتي لم أفك طلاسمها حت الآن .. أنت لا ترد على رسائلي، وأنا سأستمر في الكتابة، لأني لا أكتب لك، أكتب عنك، وعن مارغريت، وعني".

ويبدو المكان وثيق الصلة بالهوية في الرواية حينما نشهد بوجود حالات الغياب لدى بطلة الرواية بالمكان عقب الحرب الأهلية في بيروت، حيث تقاوم الهوية كافة الصراعات لنزعها من جذورها أو محاولة مسخها بتجارب وافدة ربما زرعها الكيان الصهيوني عن قصد، فنجدها ـ البطلة ـ ترصد هذا الصراع قائلة : " في بيروت أحس أني أطفو على قطعة فلين، وأن البحر رئتي الوحيدة، لكن المدينة مزدحمة بشاشات كبيرة، شاشات تبث أغنيات بليدة، وإعلانـــات عن الكوكــاكولا ومشروبات الطاقة".

(ج) بودابار .. رحلة البحث عن وطن موازٍ:
وصل بنا المطاف إلى رواية لنا عبد الرحمن الأخيرة الموسومة بـ (بودابار) والتي تجتهد فيها لنا عبد الرحمن إلى انتزاع صدارة الإبداع الروائي متفردة بسماتها وخصائصها التي تبدو كثيرا مثيرة وأكثر حيرة أيضا. فمنذ اللحظة الأولى أنت أمام قرار سيادي من الروائية بأنه ليس هناك ما يسمى بالصدفة لأن الصدفة ضرورة قدرية، فها هي تعاود مجدها الفلسفي القديم الذي طرحته في روايتها (ثلج القاهرة) كرواية وجودية من الطراز الرفيع، وكأنها تجبر القارئ على الانصياع طواعية لمفردات الخطاب السردي الذي سيأتي عبر سطور الرواية دون فرض وصايته على الإحداثيات والتفاصيل، وكأن لنا عبد الرحمن كانت أكثر وعيا بالنظريات النقدية المعاصرة التي تسعى لأن يكون القارئ شريكا في صنع العمل بل هو المبدع الأصلي له، لكن في هذا المرة وبعد استيعابها المطلق للتكوينات النقدية بحكم كونها صحافية نشيطة قررت بأن يستسلم لها القارئ والناقد على السواء، بل ستجبره أحداث وتفاصيل الرواية أن يبقى مفتوح العينين بغير انغلاق وفي دهشة لما سيحدث، وأحايين كثيرة ستجعل القارئ مضطرا للبحث عن حلول واقعية أم افتراضية لحدث الرواية.

1 ـ صوب الرواية:
والرواية تدور في بيروت؛ المدينة الشاهدة على معارك وحروب داخلية وخارجية لاتزال تلقي بأصدائها على راهن لبنان دون التفكير في محاولات جادة للخروج من الأزمة، هي نفسها ـ لنا عبد الرحمن ـ صادحة بهذه الحقيقة في صدر روايتها حينما تقول: "المدينة محكومة بغيمة مغوية، تؤدي بكل من يحيا فيها على أرضها إلى إدراك أنها مدينة البقع المتجاورة". والراصد لهذا الافتتاح قد يظن معانٍ عدة؛ منها أن بيروت لم تعد مدينة كاشفة واضحة لتفاصيلها الاعتيادية بل تبدو مشوهة بعض الشيء، فضلا عن كونها بقعا متجاورة وليست كيانا واحدا متماسكا، هكذا الحرب دوما تفضي إلى اقتطاع الأوصال وتمزيق النسيج الواحد إلى كيانات متناثرة.

والرواية (بودا بار) تدور في مدينة بيروت اللبنانية تحديدا في عام 2018، حيث يلتقي مجموعة من الأشخاص غير المتعارفين أي الغرباء في "حي الأمير"، ونظرة متجددة إلى تيمة المكان التي انفردت بها ولا تزال لنا عبد الرحمن، فإن حي الأمير هذا أحد أحياء بيروت العتيقة التي كانت تقع على خطوط التماس في يوم ما، ودارت على أطرافها صراعات الحرب الأهلية تاركة آثارها على المدينة والناس، وهنا تصل "دورا حبيب" إلى هذا الحي عائدة من أستراليا كي تستقر في بيروت بعد أن هاجرت عائلتها من لبنان منذ سنوات السبعينات، يتزامن وصول دورا مع وقوع جريمة قتل غريبة لجمانة، وهي امرأة فاتنة وغامضة سكنت الحي هي وزوجها منذ عامين، وجمعت في شخصيتها مجموعة من التناقضات التي جذبت الجميع حولها من مختلف المستويات والأعمار، مما يجعل حضورها رمزيا ويمثل شكولا مثيرة لكل الجمال الحاضر الغائب في مدينة مثل بيروت.

2 ـ بيروت .. مدينة التفاصيل المتجاورة:
نرصد من خلال الرواية الملامح الكائنة والثابتة في إبداع لنا عبد الرحمن من حيث السفر والغربة وفعل الهجرة ثم تحديات الحرب وأوجاعها لاسيما حينما تكون بين مواطني البلد الواحد، كذلك حرصها المستدام على إثبات مدينة بيروت كإحدى المدن العربية العتيقة أي التي تتسم بتقاليد عربية أصيلة وتاريخ ضارب في عمق العروبة والدم أيضا. تزامنا مع تأكيدها لفعل الهجرة في فترة السبعينيات من القرن المنصرم وهي فترة متفجرة بالأحداث الطائفية والسياسية والحزبية ليست في بيروت وحدها بل في كافة العواصم العربية.

ونجد شخوص الرواية سواء الأساسيين أم الثانويين أشبه بالبقع المتجاورة التي تحدثت عنها لنا عبد الرحمن في صدر روايتها، فهم كثيرون جدا يثرثرون بالكلام ويفرضون أنفسهم على الحدث، بل هم جزء أصيل من تفاصيل المشهد السردي وكأنها تصف حال بيروت بصفة عامة وما آلت إليه لبنان عموما من كثرة الحكايا وكثرة الأفعال وكثرة الثرثرة مما أودى بالمدينة الجميلة إلى أقصى بل وأقسى حالات الصراع والتشاحن بل والتباغض كثيرا أيضا، ليس هذا فحسب، بل إن كل شخصية ثانوية أو هامشية وأيضا رئيسة تريد أن تفرض نفسها على الحدث إما بالوقوف صمتا أو بالتحليل والتفسير، وربما بلغة الجسد الأكثر تعبيرا وتوصيفا كأن الروائية لنا عبد الرحمن تصر على تجسيد مشهد لبنان الراهن بقولها: هذه بيروت الآن!

هذا يتوافق تماما مع ما ذهبت إليه الناقدة الصحافية كاتيا الطويل وهي ترصد بعض ملامح رواية (بودا بار) لاسيما رصد بيروت المدينة التي كانت جميلة ومثيرة يوما ما بقولها: "نماذج متعددة ومتنوعة عن وجوه بيروتية. فتروح الشخصيات تمثل نواحي متعددة من هذه المدينة الحافلة بالتناقضات، ويتنقل السرد بين نازحين سوريين وشباب راغب في الهجرة وجيل حرب وجيل يخشى الحرب وحيوات كثيرة مهزومة تلتف جميعها على بعضها لتعيش في حي شعبي بسيط من أحياء بيروت ما بعد الحرب".

الملمح الذي دفع الروائية أن تقول على لسان أحد أبطال روايتها واصفة الشخصية بتحولاتها والمدينة بثوراتها المتأججة بغير توقف "لا أريد البقاء هنا... هذه المدينة لا تغريني بالبقاء، ليس فيها ما يرضي طموحي". وتؤكد لنا عبد الرحمن في روايتها (بودا بار) وصف بيروت التي كانت عتيقة يوما ما بلغة رشيقة قائلة: لكن المدينة التي أخلص لها تغيرت كثيرا عما كانت عليه منذ خمسين عاما؛ بيروت لم تعد مدينته التي عرفها، بيروت القديمة ليست هي بيروت اليوم".

3 ـ الدهشة حينما تصير لغة:
بعد أن يفرغ القارئ العربي من قراءة بودابار يصبح مقتنعا تمام الاقتناع بأنه أمام نص سردي مغاير للغة الرواية التي تميل إلى التركيز الممل أحيانا في وصف المشهد، كذلك اللغة المكرورة في ذكر تفاصيل دقيقة عن كل شخصية مما تجعل القارئ يهرع بعيدا عن الحدث الرئيس بها منشغلا بتفاصيل ثانوية غير ذات أهمية . لكن الروائية لنا عبد الرحمن يمكن توصيفها بأنها أيقونة استثنائية في السرد بغير مبالغة أو تهويل ؛ لأنها في حقيقة المشهد اللغوي لروايتها لم تلجأ إلى اللغة السردية المعتادة، بل نجدها في كثير من سطور سردها الروائي تستخدم لغة الشعر بالأحرى القريبة من قصيدة النثر، الأمر الذي يدفع القارئ بأن يتلقط لغة مثيرة وجذابة بل وجاذبة للعقل الذي يبحث عن مقتل (جمانة) ورغم إرهاق عقله بالبحث والتنقيب كرجل مباحث إلا أنه ـ القارئ ـ لا يغيب عن المشهد الشعري المصاحب للرواية. نجد مثل هذا النثر الشعري أو النثيرة الشعرية حسب زعم النقاد المعاصرين في كثير من سطور الرواية، تقول لنا عبد الرحمن في مواضع شتى بالرواية مستخدمة اللغة الشعرية: "وفي تجوالك هنا أنت حر بالمطلق/ وسجين أبدي/ ليس عليك سوى العبث بكل ما كان وسوف يكون/ هكذا تتقن فن العيش والتملص مما يُمكن التورط به/ ليس من المجدي أن تنتمي إلى أي شيء/ بل من المهم أن تحمل رأسا قابلا للعطب والتشكل من جديد رغم الذكريات السوداء، والقلب الأجوف".

وتقول أيضا على لسان أحد شخوص الرواية: "يا جمانتي، كيف ترحلين وتتركيني وحيدًا في هذا العالم/ من سيحكي لي الحكايا المخيفة، ومن سيمنحني الوهم بأنك ستحملين يوما بالطفلة التي حلمنا بها/ لكنك رحلت قبل أن يتحقق أي شيءٍ/ مما حلمنا به سوياً". ولم يختف جمال اللغة وهي تتحدث عن جمال المرأة في وصفها السردي، فهي تقول مستغلة براعتها في استعمال اللغة الشاعرة التي تحدث عنها من قبل المفكر المصري عباس محمود العقاد في كتابه اللغة الشاعرة : "الجمال الفائض لعنة لأنه يقترن بسوء الحظ أن ذنب جمانة الوحيد هو أنها كانت بارعة الجمال فاتنة فقُتلت".

4 ـ باتجاه عمق المجتمع:
رغم يقينها بأنها كاتبة المكان أولا ثم الرواية الوجودية في الوطن العربي، إلا أن لنا عبد الرحمن كمثقفة عربية في المقام الأول، ثم اعتمادها على كونها مسئولة عن تنوير المجتمع بصفتها الإبداعية فإننا نجدها تتطرق إلى ظاهرة تبدو كاشفة للمجتمع العربي وليس اللبناني فحسب، وهي ظاهرة الطلاق والمرأة المطلقة التي صارت موصومة بكل شبهات المرض النفسي والعقد الاجتماعية وفقا لهوس المجتمعات العربية بالتصنيف والتوصيف المصاحب للمرأة. وقضية الطلاق أصبحت متزامنة مع كافة مظاهر ومشاهد قهر المرأة في ظل بقاء كافة التيارات الراديكالية المتطرفة وأنا أظن أن هذا الوعي كان قائما في ذهن الروائية لنا عبد الرحمن وهي ترصد مشاعر المرأة الطلقة في ثنايا أحداث روايتها، إذ تقول في رواية بودابار: "فإيمان امرأة نشيطة قوية عاملة، أم لثلاث بنات، إنما مطلقة ولا تعرف كيف تنجو من تعنّت زوجها وبراثنه وتصرفاته الرجعية تجاهها، فيرد في أحد مواضع السرد:"استفاضت في الحديث عن مشاكلها مع بناتها الثلاث،وطليقها الكسيح الذي يأتي كل أيام عدة يلوح بعصاه ويهددها بتكسير زجاج المحل إن فكرت يوماً بالزواج".

ورغم ما تعانيه الدول العربية من انفصام شديد يستحق العلاج في اهتمامه بيوم المرأة ويوم الفتاة وعيد الطفولة وعيد الأم، وربما يجئ يوم نحتفل فيه بيوم الطفلة الرضيعة أيضا إلا أن واقعنا العربي والذي أكدته الرواية يصر على سحق إنسانية المرأة بل ربما نجده متجرعا كأس الجماعات الدينية المتطرفة التي لا ترى في المرأة سوى جارية أو خادمة لسيدها دون أدنى حقوق واجبة، بل إن معظم مجتمعاتنا العربية لا تزال تسير في فلك وصم العزباء أو المرأة المطلقة أو حتى الأرملة بأنها أسيرة جسدها بغير مراعاة كونها إنسانة في مقامها الأول وحالها الأخيرة.

ـ شكرا لنا عبد الرحمن: إن أبرز ما يميز رواية ( بودابار ) في مجملها السردي ليس فقط قدرة لنا عبد الرحمن في استخدام الحكي والقص والسرد، هذه أمور شهد لها النقاد في أعمالها السابقة، لكن الأبرز هو الوعي بالوطن والوعي بقضاياه وهمومه، والتركيز على النتاجات التي تحققت بفعل الحروب وما صار بسبب التناحر الداخلي، لعل ما قدمته الروائية من سطور مضمرة عن بقايا وطن يأبى ن يحتضر هو الملمح الأعمق في رواية (بودا بار) بل في تجربة الدكتورة لنا عبد الرحمن بوجه عام.

 

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)

ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر