على هامش الأحداث التاريخية الكبرى، ثمة حكايات صغيرة، يؤرخ النص للحظة فارقة هي الهجرة العكسية للأقليات عقب حركة الضباط 1952 وأثرها على "حياة" الخادمة ابنة موزع الألبان، و"كاترينا" الأرمينية الهاربة من المذابح ضد الأرمن إلى "شبرا “وامتهانها الخياطة، ثم قرارها الشجاع برفض الهجرة، فلم يعد "لحياة" أحد سواها.

حياة كاترينا

عيد اسطفانوس

 

كانت حياة صغيرة لا تتعدى السابعة عندما التحقت بخدمة مدام كاترينا، جاءت من الأرياف المنتشرة على طول غرب النهر المقابل لشبرا في أوائل القرن الماضي، كان أبوها يبيع اللبن في الحي وعندما طلبت منه مدام كاترينا البحث عن فتاه صغيرة تعينها فى أشغال البيت سارع على الفور وأحضر لها حياة صغرى بناته ولم تتأخر حياه كثيرا فى التأقلم مع حياة سيدتها الجديدة.

كانت هذه هي هجرة مدام كاترينا الثانية هربا من العثمانيين، جاءت من أرمينيا الى سوريا عقب المذابح ولم يطب لها المقام فقد كان شبح العثمانيين حاضرا فى الشام كله. أوائل الاربعينات جاءت الى مصر مع جزء من عائلتها نزلوا من الباخرة القادمة من طرسوس فى الإسكندرية، استضافها أبناء جاليتها لمدة شهر كالعادة لحين استقرار أوضاعهم فقد كانوا جالية منظمة لهم تجمعاتهم وجمعياتهم ونواديهم ولما عزمت على الاستقرار فى القاهرة رشحوا لها حى شبرا فهو البديل المقابل لحى باب توما الذي كانت تسكنه فى دمشق، ولأنها كانت تجيد أعمال التفصيل والخياطة لملابس النساء خصصت مدام كاترينا غرفه فى شقتها لماكينة الخياطة واستقبال زبائنها وسرعان ما ذاعت شهرتها بين نساء الحى وأصبحت مقصدًا للكثيرات.

حياة كانت أصغر بنات عم كامل ومر عقد من الزمان على التحاقها بخدمة مدام كاترينا، يومها كانت فى السابعة هزيلة نحيفة لكن مسحة جمال مختبئ كانت تغطى ملامحها الرقيقة ثم سرى المركب السحري مبكرا فى جسد الصبية ففجر بركان أنوثة طاغ غيّر تضاريس جسد الفتاه كما غيرت مدام كاترينا سلوكها وأسلوبها وملبسها وكانت العلاقة بين حياة ومدام كاترينا قد تجاوزت بكثير مرحلة الخادمة وسيدتها، فحياة أصبحت الشخص المهم فى حياة مدام كاترينا فهي مطيعة وذكية ومخلصة لسيدتها ومؤتمنه على أسرارها وفى المقابل كانت المدام (وهذا لقبها الشائع بين الجيران فى الحى ) هي الشخص الأهم فى حياة "حياة" فهي لم تبخل عليها  بأي شيء، أعطتها خبرتها فى العمل والحياه وعلمتها القراءة والكتابة ونشأ ونما نوع من الارتباط العاطفي بين السيدة والفتاه وخصوصا بعد أن رحلت والدة الفتاه وانقطعت تقريبا علاقتها بأسرتها، وبعد أن أصبحت السيدة شبه وحيدة فهي لم تنجب من زواج سابق فشل مبكرا كما رحل أخوها الذى جاء بصحبتها من سوريا الى فرنسا وكما كانت هذه هي الهجرة الثانية لمدام كاترينا كانت هذه هي الهجرة الثانية ايضا  لحياة فأبوها جذوره من أقاصي الصعيد وكما  عبرت مدام كاترينا  البحر بحثا عن الأمان حياة عبرت النهر أيضا بحثا عن الحياه .

فى أواسط الخمسينات توترت الاوضاع فى مصر وتغير المناخ السياسي والاجتماعي وبدأت موجة هجرة للأقليات اليهود واليونانيين والايطاليين وبالطبع الأرمن وغيرهم ،وعندما لمحت مدام كاترينا لحياة بما يدور فى ذهنها لأول مرة عن احتمال الرحيل بهتت الفتاه وظللت صامته وبدا أنها  مذهولة من هول المفاجأة وانسحبت الى مرقدها وهى تجهش بالبكاء ،لم تكن مدام كاترينا أقل حزنا من حياه لم تكن راغبة فى الرحيل فقد اشتهر (أتيليه المدام ) وتعاظم مدخولها كما وأن ارتباطها بالفتاة شكل أيضا عائقا كبيرا لكن بدء الرحيل المتسارع لأبناء عرقها جعلها فى حيرة من أمرها وبدا أن عليها اتخاذ قرار فى أقرب وقت فان كانت امكانية ووسيلة المغادرة متوافرتين الآن فربما لا تتوافران غدا.

ساد الوجوم الحزين على جو المكان وتوقف صوت ماكينة الخياطة وتوقف صوت الجرامافون واسطوانات المدام المحببة وبدا لو أن الجميع فى حالة حزن على عزيز رحل، غالبت السيدة دموعها واستدعت حياة جاءت شبه باكية بادرتها المدام الايام تجرى يا حياة وعليّ أن  اتخذ قرارًا قبل فوات الاوان والعائق الوحيد أمامي هو أنت، قلبي لا يطاوعني أن أتركك ولو قبلتِ سأترك لك كل ما يخصني وأرحل، ارتمت الفتاه فى حضن سيدتها التي احتضنتها بدورها وانخرطت المرأتان فى نوبة بكاء طويله، ردت حياه بصوت متهدج وهى ماتزال فى حضن كاترينا أنا لا أريد سوى العيش معك ان كنتي مصرة على المغادرة خذينى معك وان قررت البقاء سأخدمك حتى آخر يوم فى حياتي ولن يكون لي أحد سواك، ردت كاترينا بصوت خفيض لكن يا ابنتي هذه سنة الحياه ستشتاقين يوما الى زوج وأولاد وأسرة ،حينئذ انتصبت حياة وتركت حضن كاترينا ومسحت دموعها وأمسكت بيد سيدتها وتشبثت بها وأخذت فى تقبيلها وهى تهمس لن يكون لي أسرة سواك يكفيني العيش معك حت آخر العمر ومن صوتها الصادق واحساسها الحقيقي اتخذت كاترينا قرارها الاخير لن تذهب الى أي مكان، ستعيش هنا وتموت هنا، لن تفارق حياة وتمييزا لها عن أخرى تحمل نفس الاسم فى الشارع وتعبيرا عن مدى عمق ارتباط حياة بسيدتها والذى يعرفه الجميع  لقبوها مجازا  بحياة كاترينا .