أمسكَ وائل الظرفَ الأبيض الطويل مموج الأطراف بالأزرق والأحمر، حمله بفخر من بيده سيف الانتصار، بحث عن أمِّه في الصالون، لم يجدها، طرق باستعجال باب غرفتها، لا جواب، نادى بأعلى صوته:
أمي، أمي، وصلتِ الرسالة أخيرا.-
مبارك يا ولدي، مبارك، هلَّم بقراءة ما فيها.-
مسحتِ المرأة العجوز يديها الملطختين بزفر الطبخ بأطراف ثوبها الطويل، جلست على أريكة الصالون الوحيدة، فغرت فمها، توسعت حدقتا عينيها للحد الأقصى، صلَّبت أذنيها ووجهتهما نحو ابنها الوحيد، رجته أن يقرأ الرسالة دون إبطاء.
شارف وائل الثلاثين عاما، لا عمل، لا أمل، لا شيء في هذه الحياة، يأكل ويشرب من عمل أمه في قطعة الأرض الصغيرة التي ورثاها عن رب البيت الذي غادرهما منذ سنوات.
أمنت لهم زراعة الخضار دخلا يسيرا يكفي لبقائهم على قيد الحياة، كان يساعد والدته قليلا، وينقل ناتج الأرض إلى سوق بانياس القريب، ويعود قبل الظهر ليقضي أغلب نهاره في قيلولة طويلة، ومساءه في لعب الورق مع رفاقه في القرية، ونهاية الأسبوع في صيد الحجل.
الرسالة التي وصلته من الأرجنتين قبل أشهر قلبت كيانه، وكسرت روتين حياته الرتيبة، دون سابق إنذار، جاء ساعي البريد قصير القامة على دراجته الهوائية يبحث عنه، وحين صار على بعد خطوتين منه، أخرج من حقيبته الجلدية العتيقة مظروفا مكتوبا عليه اسم وعنوان المرسل إليه بلغة عرف أنها الإسبانية.
كان المرسلُ ابن عمه المقيم في الأرجنتين، والذي ترك البلد في خمسينيات القرن العشرين، ولم يعد إليه أبدا، تزوج وأنجب هناك عدة أولاد بينهم خوان كارلوس الذي استفاق على أصوله العربية وبحث مستعينا بوسائل التواصل الاجتماعي عن عائلة درويش في سوريا ولبنان.
اهتدى بعد جهد إلى ابن عمه الوحيد، وائل وريث آل درويش.
لم يصدق وائل عينيه اول الأمر حين وصلته رسالة الكترونية تطلب منه تأكيدا بانَّه فعلا من عائلة درويش المقصودة.
بعد المفاجأة الأولى، وعجب الأمر المستجد وغير المنتظر، تراجع اهتمام وائل بالموضوع، إلا أنَّ خوان كارلوس أصرَّ على معرفة أصوله، وطلب من وائل إيضاحات وأدلة، سأله عن اسم والده، جده، وتحقق من وائل عن العم عزيز الذي هاجر من البلد وعاش في الأرجنتين حتى مات.
استهوت اللعبة وائل، وحدَّث والدته عن تواصله مع ابن عمه، كان قد سمع من والده أحاديثا عن شقيقه المهاجر، وتفاصيل كثيرة عن صباه قبل الهجرة النهائية.
لحسن الحظ، وجد وائل في ألبومات صور العائلة صورة يتيمة للعم المهاجر قبل أيام من سفره، كان يضحك ملء شدقيه، لم تك الصورة تعني أحدا في الماضي، بالإضافة إلى نوعيتها الرديئة و قلة وضوحها، وبالكاد يعرف صاحبها.
أرسل وائل الصورة إلى ابن عمه الأرجنتيني الذي طار من الفرح وهو يرى ذكريات والده الراحل تبعث حية بعد عقود من الزمن.
تطوّر الحديث بين القريبين، و دعا كلّا منهما الآخر لزيارته في بلده، قفز وائل على الفرصة، وناح لابن عمه عن وضعه المادي المزري، قال له بصراحة:
-أنا لا أملك ثمن تذكرة للذهاب إلى دمشق، فكيف بشراء بطاقة طائرة إلى بوينس ايرس والتي تكلف مئات الدولارات.
اختفى ابن العم أياما ، لام وائل نفسه على وضاعته، تحوَّل ربما إلى شحاذ تافه في نظر خوان كارلوس، أسف على أسلوبه في الكلام، كان عليه أن يجد وسيلة أخرى لطلب المساعدة من قريبه الذي بدت عليه علائم الأريحية المادية، والحياة الميسورة.
أسرَّ وائل لوالدته بما حدث، واسته بحنان:
-لا عليك يا ولدي، نحن فعلا فقراء، وإن كان ابن عمك مقتدرا فلا بأس أن يعلم بحالتنا.
عاد ابن العم للتواصل مع وائل، أعلمه بأنه كان مشغولا في بعض أعماله.
قرر وائل ألَّا يعود للحديث لابن عمه عن فقره بل هرب إلى الأمام، وبحماسة:
-خوان كارلوس، أدعوك لزيارتنا في البلد، الصيف يقترب، والطبيعة رائعة في قريتنا، سأعدُّ لك، ما استطعتُ برنامجا لزيارة الساحل و الجبل.
-أشكركَ يا وائل، ولكن مشاغلي كثيرة هذا الصيف، سألبي دعوتك العام المقبل.
كانت عربية خوان كارلوس على قدها، ولكنها كافية لإيصال أفكاره إلى قريبه.
عادت الحرارة إلى حوارهما، وختم خوان كارلوس المحادثة بخبر مفرح:
-يا ابن العم، صحيح أنا لستُ غنيا، لكني بوضع مستقر ماديا، شريك في محل تجاري، وليس عليَّ ديون، لذلك أرى من واجبي مساعدتك حتى تتحسن أحوالك.
ارسلتُ لك رسالة فيها تفاصيل حوالة مصرفية بمبلغ متواضع ولكنه سيسعفك قليلا.
طار وائل من الفرح، شكر ابن العم الشهم:
-أنا خجلٌ منك، ولكن وضعنا المادي تدهور بشدة منذ وفاة عمك.
-لا عليك، بالعكس، أشكرك على صراحتك.
أكل الفضول قلبَ أمِّ وائل، بسرعة، أقرأ محتوى الرسالة:
"ابن العم العزيز: بلِّغ تحياتي إلى والدتك الغالية، أرسلتُ الحوالة المصرفية ذات الرقم... بمبلغ ثمانية ملايين بيزو كهدية متواضعة، وبرفقة هذه الرسالة الوثيقة اللازمة لصرف المبلغ من المصرف التجاري.
بكل محبة
خوان كارلوس درويش
كادت الأم المسكينة تفقد الوعي وهي تسمع بالملايين الثمانية، سألتْ ابنها:
هذا مبلغ ضخم، أليس كذلك؟-
-بالطبع يا أمّي.
لم يكن لوائل نصيب كبير من التعليم، فقد رسب في امتحان الشهادة الإعدادية، يقرأ و يكتب بشكل مقبول، لكن لا علم له بالعملات والمصارف، والملايين تدير الرؤوس.
كيف سنحصل على هذا المبلغ؟-
-الحوالة موجهة إلى المصرف التجاري السوري في بانياس، سأراجعهم الأسبوع المقبل، ومعي الوثيقة المرسلة من خوان كارلوس، لكني سأعد العدة بصمت، ما رأيك يا أمِّي، أ نضع المال في المصرف في حساب نفتحه فورا، أم أجلبه إلى هنا ونخبئها في البيت.
احتارتِ الأم الطيبة، لم تك قد صادفت معضلة كهذه في حياتها، أكبر مبلغ وضعت يدها عليه لم يتجاوز مئات الليرات، وهي الآن بصدد تحديد مصير الملايين، لكنها بدهاء الفلاحة هدت ابنها إلى الحل الأسلم:
-يا بني، ضعها في المصرف، واتكل على الله، بعد ذلك نفكر في توظيفها في مشروع نعيش منه.
-سأشتري سيارة شاحنة، وسأنقل بها محاصيل القرية إلى سوق الهال.
-فكرة جيدة، احذر من تبديد المال يا ولدي.
لا تخافي يا أمي.-
قالها وائل، وقد نضج أخيرا بعد سنوات ضياع طويلة.
لا تجعل المال يدير رأسك ويغيِّر مبادئك، وأريدك أن تستثمره-
في مشروع نافع وإن زاد قليلا سأزوجك، لا تنسَ أنك صرت في حيطان الثلاثين.
خيرا يا أمي، عيني خيرا.-
2
اقتطع وائل تذكرة ورقية صغيرة، انتظر دوره جالسا على إحدى الكراسي الصغيرة التي لا ظهر لها في قاعة المصرف الكبيرة، سمع دون قصد أحد المنتظرين يقول لآخر قربه:
-يا أخي، الإنسان في هذه الأيَّام يذهب فرق عملة، لا حياة كريمة، لا مستقبل، لم يترك لنا الغلاء شيئا.
قال وائل لنفسه:
"لا أعرفُ لماذا يكثر الناس من التذمر بسبب أو بدونه، أحلقُ شاربي إن لم يكونا غنيين، ولكن هذه عادة شعبنا في الشكوى وادِّعاء الفقر، ليس وضعنا بهذا السوء".
المراجع حامل البطاقة رقم سبعة عشر إلى الكوة الثالثة.
هزَّ وائل كتفيه بحركة مفتعلة، أدرك فجأة أنه يصعد السلم الطبقي، وأنَّ الفقر الذي لازمه لسنين طويلة سيغادره إلى غير رجعة، أحسَّ بالامتنان لصلة الرحم التي جعلت عمه عزيز يوصي ابنه بمساعدة أقربائه في البلد الاصل رغم بعد المسافة وطول البعاد: "يا أخي، الدنيا ما زالت بخير"، عاد ليحدِّث نفسه.
البطاقة رقم سبعة عشر إلى الكوة رقم ثلاثة، النداء الأخير.
صاح وائل في الموظف:
انتظر يا أخي أنا قادم.-
تفحص الرجل الجالس خلف الحاجز الزجاجي، بشعره القليل ونظارته المنسدلة على أنفه، أوراق مبعثرة تحت يديه على المكتب الصغير.
استجاب وائل لطلب الموظف بإبراز الحوالة التي وصلته من الأرجنتين.
-نعم، مبلغ ثمانية ملايين بيزو، ضرائبها مدفوعة في الأرجنتين من قبل المرسل، إذن ستسلمها صافية.
عاد الفخر ليلعب برأس وائل:
-شهم يا ابن العم، شهم، دفعتَ الرسوم ليصل المبلغ كاملا.
هل تريد استلام المبلغ بالعملة المحلية، أم بالبيزو؟-
-لا هذا ولا ذاك، أريده طبعا محولا إلى العملة المحلية لدعم الاقتصاد الوطني، ولكني سأضعه في حساب أفتحه في الحال.
-كما تشاء.
أجابه الموظف، ثمَّ تناول آلته الحاسبة، وانشغل بحساب مبلغ التحويل.
-ثمانية ملايين بيزو تعادل كذا و كذا بالعملة السورية، نحذف منها مبلغ مئة وثلاثين ليرة رسوم فتح حساب الادّخار، يبقى المبلغ الاجمالي ستمائة وثلاث وثمانين ليرة سورية و أربعة قروش فقط لا غير.
لم يهتم وائل لما نطق به الرجل الجديّ بصوته الخفيض، طرح عليه سؤالا مباشرا وبصوت مماثل لكي لا يثير انتباه المراجعين في الكوى المجاورة، أوصته أمّه مرات بالحذر في هذه الأمكنة حيث يكثر اللصوص والحاسدون.
كم يعادل المبلغ الصافي بالليرات السورية؟-
ستمائة وثلاث وثمانين ليرة سورية و أربعة قروش.-
أنتَ تمزح.-
-يا أخي، أنا موظف رسمي، ولا وقت لديَّ للمزاح، اصغِ لي جيدا:
-يعادل البيزو أو بالأحرى المليون بيزو مبلغ كذا و كذا بالليرة السورية، وبالتالي مع رسوم فتح الحساب يتبقى لك هذا المبلغ.
لم يصدق وائل ما سمعه، و طلب من الموظف استدعاء المدير وألا سيذهب إليه بنفسه.
أمام إصرار وائل وافق الموظف على طلب حضور المدير.
أطل من داخل الكوة ،بعد ثوان قليلة، رجل بدا عليه الوقار، طويل القامة، وجهه نضر، أعاد الموظف بصوت مسموع رواية القصة كاملة على المدير الذي هزَّ رأسه، طلب من موظفه أن يتنحى قليلا، راجع الأوراق بنفسه، تناول الآلة الحاسبة وتحقق من كل الأرقام، خرج من الكوة، اقترب من وائل وخاطبه بلهجة أبوية:
-يا سيِّد وائل، العملة الأرجنتينية ضعيفة جدا، والثمانية ملايين بيزو تعادل تماما المبلغ الذي ذكره لك السيد رجائي، على كل حال تستطيع إن شئت أن تأخذ مالك كما هو بالعملة الأجنبية، أو تبقيه مودعا لدينا بنفس العملة مع وصل يحفظ حقك.
وافق وائل على اقتراح المدير، أخذ وصل الاستلام، وشكر الرجلين و خرج من المصرف.
استرجع ما حدث، أدرك صحة كلام المدير والموظف، من المنطقي ألا يرسل له ابن عمه مبلغا خياليا، لقد فعل ما باستطاعته وله الشكر، لكن هذا المال الضئيل لن يغير من واقع الحال شيئا، سيسمح بشراء حاجات أساسية له ولوالدته لأسبوع أو اثنين، لكنه لن يجعلهما غنيين كما توهما معا.
أمام باب منزله، تردد وائل بطرقه، خيبته كانت كبرى، ما أن بدت والدته حتى نضح وجهه بكل ما حدث.
-ألم تصل الحوالة؟
-بلى يا أمي، وصلت، ولكنها ذهبت فرق عملة، فرق عملة يا أمي.