الكل يسلم بعلاقة الأزمة التي جمعت كتاب ”الأيام“ بكتاب ”في الشعر الجاهلي“ لطه حسين([1]). مع ما يستتبع هذا التسليم من قراءة تبعات الأزمة وتوابعها من منظورات مختلفة. فيصل درّاج، مثلاً، أضاف الأزمة الجديدة إلى أزمة في الماضي عرف الصبي على إثرها ”لنفسه إرادة قوية“. فكأن صاحب الأزمة ينادي، بكتابه، عزيمة قوية في نفسه سبق وأن أقالته من عثرة أشد وطأة([2]). عند هذه النقطة يدير النقاد ظهورهم لكتاب ”الشعر الجاهلي“، ليواصلوا جدلهم بشأن الكتاب المدلل ”الأيام“. غير أن علاقة التوأمة بين الكتابين أكبر وأدل من أن تكون مجرد علاقة علة بمعلولها أو سبب بنتيجة. ولو بدأنا، كغيرنا، من هذه العلاقة العلية البسيطة والمباشرة، فإن كتاب ”الأيام“ يمكن أن يكون، بدوره، علة لكتاب ”في الشعر الجاهلي“، طالما أنه يتضمن سردًا لوقائع حياة صاحبه، ولتاريخه الشخصي. وبالتالي فهو يتضمن التفسيرات والاحتمالات التي قد تكون حدت بصاحبه إلى تأليف كتابٍ مثل هذا. صحيح أن السيرة الذاتية ليست محسوبة على التاريخ على نحو حاسم، ولكنها، أيضًا، ليست خلوًا من الحسابات التاريخية بدرجة أو بأخرى([3]).
من منظور آخر يمكن القول إن الكتابين هما محصلة سيرورة من سيرورات التذكر التي أملتها منذ البدء رغبة دفينة في الانصياع لمبدأ ”اتقاء السخرية والمُبادأة بها“ الذي يتجاوز كل مبدأ. المُبادأة قارة في كتاب ”الشعر الجاهلي“ من خلال السخرية من معرفة بالشعر وبالتراث العربي القديم أكل عليها الدهر وشرب. ومن ”الشعر الجاهلي“، الذي فيما بدا للمؤلف، لا يمت للشعر الجاهلي بصلة. لكن فعل تأليف الكتاب ككل، هو في الوقت نفسه، فعل تذكر لسخرية عاناها الصبي الكفيف في طفولته من عائلته. ومع سخرية المجتمع (العائلة الكبيرة) من صاحب كتاب ”في الشعر الجاهلي“ واتهامه بالمروق ينفتح جرح سخرية الأسرة (العائلة الصغيرة) من الصبي الكفيف. عند هذه النقطة يلامس الحاضر الماضي فيعود الصبي الكفيف، بكتابه ”الأيام“، على بدء ليتقي من السخرية وليدلل، لا فحسب على أنه لم يكن يومًا أهلاً للسخرية. إنما أيضًا على أنه نموذج يُحتذى. وبذلك تصنع السخرية مفارقتها الخاصة والفريدة من نوعها بين الكتابين باعتبارها باعثًا دفع صاحبه إلى كتابة كتابه ”في الشعر الجاهلي“، وباعتبارها رد فعل له إذا ما قلنا إن كتاب ”الأيام“ هو بمثابة اتقاء واحتماء من هذه السخرية.
غير أن المبدأ الذي يتجاوز كل مبدأ، ”اتقاء السخرية والمُبادأة بها“، الذي دافع عنه كتاب “الأيام”، يبرز في سياق مبدأ آخر عقلي دافع عنه كتاب (في الشعر الجاهلي). وأعني به مبدأ “الشك الديكارتي”، بكل ما يقتضيه من التخلي عن الأحكام المسبقة. ألم يتخذ صاحب الكتاب لنفسه من مبدأ ”الشك الديكارتي“ الذي ”يتجرد فيه الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا”([4]) مبدءًا هاديًا في قراءته للشعر الجاهلي وللتراث العربي ككل؟ فكيف يمكن أن نقرأ مبدأ ”اتقاء السخرية والمُبادأة بها“، السابق على كل مبدأ، في ظل مبدأ كالشك الديكارتي، ليس للأحكام المسبقة فيه مكان؟ وماهي احتمالات التوافق والتنافر بين المبدأين، ومن ثمَّ بين الكتابين؟ هل استطاع أحدهما أن يزيح الآخر ويتجاوزه؟ وما هي التبعات المعرفية التي ترتبت على الانصياع لمبدأ ”اتقاء السخرية والمُبادأة بها“؟ وكيف تَأتَى للسخرية أن تكون محصلة حياة الصبي الكفيف، ومحصلة السيرة الذاتية في "الأيام"؟ وكيف يمكن أن تكون السخرية هي ما يحيل على علاقة نصية بين “الأيام“ وكتاب ”في الشعر الجاهلي“ علاوة على العلاقة التاريخية؟ وما معنى هذه العلاقة في إطار ما نفهمه عن السيرة الذاتية؟ وما أثر هذا كله على ”النقد“ الذي أسس له ودعا إليه طه حسين في كتابه ”في الشعر الجاهلي“؟
مجاز المائدة بين خطط الأكل وخطط الفكر:
خطط الأكل وولادة مبدأ “اتقاء السخرية والمُبادأة بها“: يحدد السارد لبطله، في الفصل الرابع من كتاب “الأيام”، حادثة واحدة “حدت ميله إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياء لم يفارقه إلى الآن“. الحادثة المذكورة غيّرت للأبد الصبي الكفيف وكتبت ما أصبح، بمقتضاه، على ما هو عليه. يقول: «ولكن حادثة واحدة حدت ميله إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياء لم يفارقه إلى الآن. كان جالسًا إلى العشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، ترشد الخادم وترشد أخواته اللائي كنّ يشاركن الخادم في القيام بما يحتاج إليه الطاعمون، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمر ما، خطر له خاطر غريب ما الذي يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبق المشترك ثم رفعها إلى فمه، فأما إخوته فأغرقوا في الضحك. وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين، ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بُني، وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته»([5])
يجرب الصبي الكفيف أن يأخذ “اللقمة بكلتا يديه” فيُسقط الطعام على ملابسه، ويخرق بذلك أدبًا متعارفًا عليه من آداب المائدة. تتسبب مغامرة الصبي الكفيف في ردود أفعال متباينة. ما بين حزن وشفقة الأبوين وسخرية إخوته. خلقت سخرية الإخوة من أخيهم الأصغر “الكفيف” منطقة معزولة في ذاكرته شعر، على إثرها، بفداحة خسارته، وحرج مركزه في عالمٍ أصبح فيه مستطيعًا “بغيره، لا بنفسه”. يتدبر الصبي الكفيف، تحت وطأة الحاجة الملحة لتجنب السخرية، أمر عدد من الترتبيات والاحتياطات التي كشفت له عن قوة وصلابة إرادته: “ومن ذلك الوقت، عرف لنفسه إرادة قوية”([6]). وجد الصبي الكفيف في العزلة الاجتماعية والفكرية خط دفاع أول. وتعمق، فيما بعد، وعيه بضرورتها ومشروعيتها بفضل تعرفه إلى “رهين المحبسين” أبي العلاء المعري. وفرت سيرة المعري مثالاً فكريًا يُحتذى في اصطناع العزلة وتعميق وعي الصبي الصغير بطبيعة ما يواجه ويعاني. غير أن المعري، الذي أشارت فدوى مالطي دوجلاس، إلى أثر تشاؤميته على الصبي الصغير([7])، لم يكن متشائمًا وحسب، إنما، أيضًا، كاتب ساخر من طراز رفيع. ومن ثمَّ فهو، من هذه الناحية أيضًا، مُعلم وصاحب تجربة سابقة في اصطناع السخرية لرد الصاع صاعين للذين ملأوا قلب الصبي “حياءً لم يفارقه إلى الآن”.
أصبح تساؤل الصبي الكفيف: ”ما الذي يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبق المشترك؟“، من هذا المنظور، مفهومًا ومبررًا. فمن ناحية يعكس التساؤل ارتياب الصبي الكفيف في إمكانية تسامح الجماعة التي تتقاسم ”طبق مشترك“، ومن ثمَّ، قيم وأعراف مشتركة، في خرق عرف من أعرافها. وبقدر ما يعكس التساؤل حدس الصبي بخطورة مغامرته، بقدر ما يُبرز سطوة الجماعة وتصديها لكل ما يمكن أن تعتبره مساسًا بثوابتها([8]). ولعل ردود الأفعال التي تلقاها الصبي الصغير خير دليل على عاقبة ما يمكن أن يعد عبثًا بحرمة ”الطبق المشترك“. لكن «ضحك» إخوته منه كان أقسى ما تلقاه الصبي الكفيف جراء مغامرته. لا يحمل الضحك أثر السخرية وحسب. إنما يتجاوزها إلى ما هو أعنف، بما ينطوي عليه من بداهة تجعل من دواعيه أمرًا مفروغًا منه، وتجعل منه رد فعل طبيعي وتلقائي يعبر عنه انفجاره فجأة ودون سابق إنذار. فإذا كان المضحوك منه صاحب عاهة أو علة يصبح الأثر مضاعفًا، لا يُنسى. وإذا كان السارد قد أشار إلى أن الأم كانت ”تشرف على حفلة الطعام“، فإن الأب يرعى، بحكم التقاليد، آدابها وأعرافها المرعية، وصمته عن السخرية من الصبي الكفيف يعكس قبوله بها.
لاحقًا وأثناء جلسة قراءة عائلية، يقرأ خلالها الصبي الكفيف على ابنته فصولاً من مسرحية «أوديب الملك»، في حضور والدتها. تدرك الصبية عاهة أبيها الذي لا يُبصر، تمامًا مثل ”أوديب“ الملك الذي خرج يتخبط في عماه بعد أن فقأ عينيه. فتنفجر الصغيرة، لا في الضحك هذه المرة، إنما في البكاء. تجذب الابنة ببكاءها طرف الشفقة في معادل جُرح “المائدة”، وتترك باب الشك مفتوحًا على مصراعيه أمام احتمال جذب الطرف الثاني “الضحك”. تحت وطأة هذا الاحتمال تساور “الصبي الكفيف”، الذي يستعد لسرد قصته على ابنته، عندئذ، الوساوس والشكوك حيال ابنته التي تجلس منه الآن، في الحاضر، مجلس إخوته، في الماضي، أن يخيب ظنها فيه أو أن تضحك ساخرة منه، إن هو قص عليها معاناته في الصبا. ومن ياتُرى يمكنه أن يضمن ألا تعبث ابنته به، أو تضحك ساخرة منه على ”مائدة“ القراءة، مثلما سخر منه إخوة ”الطبق المشترك“ على “مائدة” الطعام؟! من يمكنه أن يضمن ”عبث الأطفال“ الذين قد يقسون على ذويهم دون أن يدركوا وقع قسوتهم في نفوسهم؟ يقول: ”لقد عرفته يا ابنتي في هذا الطور من أطوار حياته، ولو أني حدثتك بما كان عليه حينئذ لكذبت كثيرًا من ظنك، ولخيبت كثيرًا من أملك، ولفتحت إلى قلبك الساذج ونفسك الحلوة بابًا من أبواب الحزن حرام أن يُفتح إليهما وأنت في هذا الطور اللذيذ من أطوار الحياة. ولكني لن أحدثك بشىء مما كان عليه أبوك في ذلك الطور الآن. وإني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من أمر أبيك حينئذ أن يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشي في البكاء. وإني لأعرف أن أن فيك عبث الأطفال وميلهم إلى اللهو والضحك وشيئًا من قسوتهم، وإني لأخشى يا ابنتي إن حدثتك، بما كان عليه أبوك في بعض أطوار صباه أن تضحكي منه قاسية لاهية، وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به، أو يقسو عليه“([9])
يقرر الصبي الكفيف، من ثمَّ، أن يقص قصته على ابنته، ولكن بما لا يثير سخريتها أو شفقتها. غير أن تحاشي السخرية، ليس كافيًا بحد ذاته. إنما على الصبي الكفيف، “أضحوكة” إخوته، الذي لا يُحسن الأكل، أن يغدو ”قدوة“ و”نموذجًا صالحًا للاحتذاء“ سواء أمام ابنته، “المسرود لها”، أو أمام الآخرين، الساخرين السابقين أو المحتملين. مطلب بالنسبة لصبي كفيف ”مستطيع بغيره، لا بنفسه“، قد يكون مستحيلاً. غير أنه ليس بأوهن إرادة وأقل عزمًا من «شيخ المعرة»، الذي سجن نفسه لما يقرب من خمسين عامًا في منزله. فاستحق أن يكون قدوة لمن هم مثله، بل ومن ليسوا مثله من المبصرين القادرين على الموائمة بين طبيعتهم وحياتهم الاجتماعية([10]). حتى أصبح قادرًا، ليس فحسب على اجتناب السخرية، إنما، أيضًا، على المُبادأة بها. فلتكن «الأيام»، من ثمَّ، طريقة في تجنب السخرية والشفقة، مثلما يجب أن تكون طريقة في المُبادأة بها من خلال، لا إحراز التفوق والنجاح وحسب، إنما، أيضًا، من خلال إرساء ملامح «نموذج» يُحتذى.
ولتكن «الأيام»، لا «مأساة» على غرار مأساة «أوديب» يؤول فيها مصير البطل المبصر إلى العمى، ويتبدل فيها الحال من الحسن إلى السيئ. فمن شأن تبني المأساة بمعناها الأرسطي الصارم، كما نعلم، أن يثير الشفقة والخوف. مالا يريده الصبي الكفيف الذي تجرحه الشفقة، وتؤذيه السخرية. فلا مناص، إذن، من عزل الفرض الأرسطي عن استجابته السلوكية الاجتماعية، التي في إثارتها لعاطفتي الشفقة والخوف تطهر المشاهدين منها. وذلك لصالح مأساة يتبدل فيها حال البطل من السيئ إلى الأحسن، ومن العمى إلى الإبصار. ومن إثارة عاطفتي الشفقة والخوف، إلى إثارة الدهشة والإعجاب. في سبيل تحقيق هذه الغاية يستبدل الصبي “الكفيف” الحقيقة المعرفية بالحقيقة التراجيدية: من صبي يفقد بصره في مقتبل العمر ولا يدري كيف سيتدبر أمره مع محنته في عالم هو ”مستطيع فيه بغيره“، إلى صبي ”طُلعة من أول أمره“، آل مصيره إلى النبوغ والعبقرية. مثلما يستبدل الاستجابة العقلية بالاستجابة العاطفية. لتصبح ”الأيام“ بمثابة ثناء على العقل وامتداح للمتعقلين ووعدًا لهم بمصير مشابه يغريهم بسلوك نفس الطريق. ولتتغلب، في تأملاته، لو أخذنا برؤية جابر عصفور، ”مرآة الضمير“ المرتبطة بتجاوز الذات على ”المرآة النرجسية“ المرتبطة بالاستسلام السلبي للمحنة([11]).
نزولاً على مبدأ اجتناب السخرية، واستمرارًا لشعيرة العزل عزل الصبي الكفيف أقران السرد الثلاثة (المؤلف، السارد، البطل)، أحدهم عن الأخر. فليس من مطمع لإثبات العلاقة النصية بينهم كما يقول شكري المبخوت([12]). ومن ثمَّ فلا سبيل أمام من قد يروم السخرية من تبجح المؤلف بنفسه وعُجبه بها. طالما أن البطل، بُحكم العزل، ليس هو، بالضرورة، المؤلف. وليس من سبيل، بالمثل، إلى القطع باتهام المؤلف بالترويج لصورة مثالية من ذاته فوق النقد الذي دعا إليه ونافح عنه في كتابه “في الشعر الجاهلي”. هذا الذي قال عن نفسه، إنه كان “طُلعة من أول أمره”. فمن شأن ترك الحسم في العلاقة بين أقران السرد الثلاثة أن يترك الباب مفتوحًا أمام تضارب التفسيرات بشأن هوية البطل. دون أن يترك الباب مفتوحًا، مع ذلك، بشأن الحكم الذي يمكن أن نتبناه حياله. إذ سيظل الحكم بنموذجية البطل نتيجة منطقية لازمة وضرورية عن المقدمة الأرسطية التي جرى فرضها فرضًا منذ البدء.
غير أن العزل، هو من منظور ثانٍ، استمرار لشعيرة “العزلة”. فبعزل البطل عن المؤلف والسارد يمكن وضع قصة ”تفوق“ في حبكة مُحكمة تفضي فيها بداية صبي كان“من أول أمره طُلعة” إلى نهاية أصبح فيها ”نموذج يحتذى“، دون أن يكون هناك مجالاً للحديث عن الحظوظ والصدف. فبقدرة الصبي الذي ”عرف لنفسه إرادة قوية“ وحدها بلغ ما بلغ. أو بالأحرى ما كان مقدرًا له أن يبلغه منذ البدء. دون أن نتمكن، مع ذلك، من اتهام المؤلف بالمصادرة على نمط الحياة اليومية الذي لا مجال فيه لنهايات منطقية يتصل فيها الأول بالأخر ويطرد إطرادًا منتظمًا. مالم نقل إن الإطراد الذي دبر له المؤلف، فأحكم التدبير، يبني نموذجًا عقليًا ينهض على أنقاض النموذج الديكارتي الذي تبناه في ”الشعر الجاهلي“، مادام يقوم على افتراضات مسبقة.
ومن منظور آخر فإن العزل هو ممارسة يكرر بمقتضاها الصبي الكفيف خبرة سابقة أصبح ”العزل“، بمقتضاها، شعيرة تجري بالتزامن مع شعيرة اجتناب السخرية. بحيث أصبحت ”الأيام“ بمثابة ”محبس“ لغوي وسردي مُحكم يقبع داخله الصبي الكفيف بحكم سارد “عرف لنفسه إرادة قوية”. نفذت هذه الإرادة من خلال خطاب سردي يسخر ببنيته واتساقه المنطقيين([13]) من أي محاولات لفك عزلة البطل الذي ما من سبيل نصي لربطه بصانعه ومؤلفه. وما من سبيل، في الوقت نفسه، لتحريره من المصير الذي قدره له.
خطط الفكر والانقلاب الشعري على كتاب «الشعر الجاهلي»:
ليست المائدة، كما نعلم، مجرد أدب أو عرف متعارف عليه في تناول الطعام. إنها، بالإضافة إلى ذلك، مجاز لفن تصريف القول في وجوهه([14]). وتحمل إشارة الجاحظ إلى ما جاء به الحديث من أن ”القرآن مأدبة الله“([15]) معنى أن تكون المائدة بيانًا أو بلاغةً. وقد رتَّب العرب، على «المائدة»، اعتبارات طبقية واجتماعية وأدبية لا يجوز تخطيها([16]). وقد أشارت فدوى مالطي دوجلاس إلى القدسية التي تتمتع بها ”المأدبة“ في الثقافة العربية الإسلامية([17]). واعتزال الموائد لا يعد، كما تشير، نوعًا من البخل في أعراف العرب وحسب. إنما هو، بمعنى من المعاني، خروج على ثوابتهم. مادامت مؤاكلة الجماعة هي بمثابة عهد يقطعه الطاعم على نفسه باحترام تقاليدها وتحريم حرماتها. ومن ثمَّ فاعتزال موائد الجماعة هو بمثابة إعلان، من طرف خفي، عن الانصراف عن أعرافها، والخروج على ثوابتها. وفي الوقت نفسه فإن صمت الجماعة عن من يتخلف عن موائدها يعكس نفورًا منه، وارتياحًا لانسلاخه عنهم.
وقد التقط الصبي الكفيف الرمزية القارة في المؤاكلة وأعاد توظيفها غير مرة. فكلما أخفق في أمر من الأمور التي تعلق عائلته آمالاً على نجاحه فيها انقطع عن مؤاكلتهم. على سبيل المثال، فقد تكرر غياب الصبي الصغير عن المائدة مع تكرار إخفاقه في حفظ القرآن: “ولم يظهر على مائدة العشاء، ولم يسأل عنه أبوه، ودعته أمه في إعراض إلى أن يتعشى معها فأبى، فأنصرفت عنه ونام”([18]). لقد أخفق الصبي الصغير في حفظ القرآن فبادر بمقاطعة جلسة العشاء مع عائلته استباقًا لردود أفعالهم، ومبادلتهم السخط بالسخط، واجتنابًا لما قد يلقاه من سخرية. وبدورهما التقط الوالدان الرسالة فتجاهلوا سخطه وأنكروه عليه. وبجملة واحدة فالمائدة لغةً في الرفض وإعلان التمرد. مثلما هي لغة في المُوالفة والمؤالَفة. وسواء أكنا بصدد الحديث عن خرق أدب من آداب الطعام أو الخروج على أعراف فكرية وأدبية مرعية، فإن كليهما معيب ومستهجن في سياقنا الثقافي السائد.
لاحقًا يتذكر الصبي الكفيف حدث “المائدة”، “ولأمر ما يخطر له خاطر غريب”: ما الذي يقع لو أنه ألف كتابًا يعيد بمقتضاه ترتيب الفكر على مائدة الأدب؟ ماذا لو أنه وضع الشعر “ديوان العرب” أو “طبقهم المشترك” على طاولة النقد؟ ألم يكن من أول أمره “طُلعة”؟([19]). يدرك الصبي الكفيف خطورة ما هو مقدم عليه، هذه المرة أيضًا، ولكنه “لا يحفل بما يلقى من الأمر في سبيل أن يستكشف مالا يعلم”([20]). يقول: «وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقًا أخر سيزورون عنه إزوارارا، ولكني على سخط أولئك وازوارار هؤلاء أريد أن أُذيع هذا البحث»([21])
غير أن الصبي الكفيف يستبق، هذه المرة، ردود أفعال إخوة «الطبق المشترك» بتهكم مرير من غفلتهم وجهلهم. تبدد السخرية، من جانب، أوهام قارئيه الذين يتعشم الصبي خيرًا في رجاحة عقولهم: “هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم، في حقيقة الأمر قوام المستقبل”([22]). وتحملهم، من جانب، آخر على تبني الحكم الذي “تضمره السخرية”([23]) بإدانة رموز الجهل والنفور منهم. على سبيل المثال ما يظنه هؤلاء من وجود أمة شاعرة من الجن بموازة أمة الإنس كان من دواعي سخرية الصبي([24]). يقول:
«وأنت تستطيع أن تحمل على هذا لونًا أخر من الشعر المنتحل لم يضف إلى الجاهليين من عرب الأنس وإنما أُضيف إلى الجاهليين من عرب الجن. فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلى آدم ليس غير. وإنما كان بإزاء هذه الأمة الأنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الأمة الأنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات، تحسن مثلما تحسن وتتوقع مثل ما تتوقع. وكانت تقول الشعر، وكان شعرها أجود من شعر الإنس»([25])
سخرية الصبي الكفيف من أساطير مجتمعه لم تكن وحسب انقلابًا على أسطورة الجماعة. إنما، أيضًا، تدشين لأسطورة بديلة، أسطورة الفرد. وإذا كانت الجماعة قد رفضت بعنادها وجهلها التخلي عن جمودها وثباتها فاستحقت السخرية، فإن الفرد الذي يحتكم لعقله يغدو بنفسه «أنموذج صالح للاحتذاء»([26]). والصبي الذي أصبح رغم عماه «مستطيعًا بنفسه لا بغيره»، جدير، ولا شك، بكتابة سيرته الذاتية. من ناحية سيكون النوع الجديد إبداعًا على غير مثال يساهم مساهمة ملموسة في تغيير هيراركية الأنواع الأدبية القارة على «مائدة» الأدب دون تغيير يُذكر منذ أمد بعيد. ومن ناحية أخرى ففي كتابة السيرة الذاتية التي تحتفل بالفرد تعريضًا بسطوة المجموع وكسرًا لهيمنته.
سرعان ما تتحول السيرة الذاتية الجديدة إلى نموذج يُحتذى في باب الكتابة ذات المرجعية الذاتية. مثلما أصبح صاحبها نموذجًا فكريًا يُحتذى. وبعزل أسرة السرد (المؤلف/السارد/البطل) أحدهم عن الآخر، تمكن الصبي الكفيف من إسباغ ملامح الأبطال الأسطوريين على بطله. ألا تُروى سير الأبطال دومًا على ألسنة رواة يعرفونهم تمام المعرفة دون أن يكونوا قد رأوهم أو عاشروهم؟ ألا يتمكن هؤلاء من رسم صور خارقة لأبطالهم دون أن يكونوا عرضة للاتهام بالتهويل أو المبالغة من قبل مستمعيهم؟ بذلك ومن خلال هذا العزل تمكن الصبي، من ناحية، من مزج أعراف كتابة السيرة Biography بالسيرة الذاتية autobiography لتبدو سيرته الذاتية وكأنها سيرة مروية من طرف شخص آخر عرف البطل بطريقة ما كما يعرف راوي السير الشعبية حكايات أبطاله خير معرفة. أو كما يعرف المؤرخ شخصياته التاريخية معرفة يزعم أنها محايدة([27]). ومن ناحية أخرى استطاع الصبي الكفيف أن ينأى بنفسه عن سخرية الذين قد يهزأون ممن يضفي على نفسه صفات الإجلال والإكبار والتعظيم دون خجل أو خشية من الاتهام بالغرور والنرجسية.
ليس هذا وحسب، فإن العزل يرشح السارد لوضعية «الشاهد» الذي يشهد في حق بطله شهادة صدق، بما أنه قد عرفه خير معرفة. فهو يشهد، من ثمَّ، بما رأه وسمعه ليس إلا. لاسيما وأن خطاب السارد يتمتع ببنية واتساق منطقيين([28]) يقربه للمعنى القانوني المتعارف عليه للشهادة. وانفصاله عن بطله، في هذه الحالة، ضرورة تتطلبها شهادة الشخص على غيره. وتقتضيها الأمانة والإخلاص للحقيقة التاريخية. وإنه لأقرب إلى الصدق ألا يشهد الإنسان بشهادة في حق نفسه.
اصطناع الصبي الكفيف لسيرة يرويها، بالنيابة، راوٍ عليم يجلس فيها القراء منه مجلس التصديق والتأمين على كلامه، مثلما كان يقعد بطله من أبيه وأصحابه «مزجر الكلب»([29]) وهم يستمعون “إلى قصص الغزوات والفتوح وأخبار عنترة والظاهر بيبرس”([30])، عزل القراء/المستمعين في نطاق محدد يستقبلون من خلاله سيرة الصبي الكفيف كيف بدأت وإيلام آلت. شكري المبخوت لاحظ كيف كان المؤلف المتواري خلف السارد العليم يدفع القارئ، من طرف خفي، إلى الولوج داخل دائرة فهم أُعدت مسبقًا لتقود إلى تبني جملة محددة من الأحكام والتصورات حول البطل([31]). بتحديد نطاق مسبق يحدد ويصوغ الأحكام انقلب الصبي الكفيف على ما سبق أن أسسه ونادى به في كتابه “ في الشعر الجاهلي” من منهج يصطنع الشك الديكارتي بالتخلي عن الأحكام المسبقة في البحث عن حقائق الأشياء أو صوغ وبناء حقيقة ما: يقول طه حسين:
“والناس جميعًا يعلمون أن القاعدة الأساسية هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا”([32])
ولو كانت هذه الحقيقة تتصور بالنظر إلى الحبكة ككل منطقي، كما يقول بول ريكور([33])، وتتلخص كما يرى المبخوت في أن البطل نموذج يُحتذى([34])، فإن “الأيام”، بهذا وذاك، رسخت لنموذج فكري فوق النقد. مالم نقل إن ”الأيام“ بما هي كذلك مارست، بالمثل، استبدًادًا أدبيًا حصر السيرة الذاتية في سير العظماء وقصرها عليهم. ولم يعد ممكنًا أن نرى، بمقتضى ذلك، نموذجًا للتفكير والحياة خارج نموذج الصبي الكفيف الذي قهر العمى واحتل مكانة بارزة على مائدة الأدب والفكر العربي الحديث. ولم يعد من المقبول، استنادًا للحكم السابق، الذي أصبح متوارثًا على مائدة الأدب أن يجد المهمشين مكانًا لكتابة سيرهم الذاتية. لم يعد مقبولاً ولا ممكنًا الشك فيما جعله الصبي “الكفيف” يقينًا لا يقبل الشك، وفيما جعله نموذجًا يُحتذى.
وبذلك صاغ الصبي ”الكفيف“ خيالاً إبداعيًا قلب رأسًا على عقب ما سبق أن نافح عنه في كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي”. وبذلك صنعت “الأيام” مفارقتها المزدوجة الكبرى باعتبارها تقويضًا للديكارتية المُفترضة في كتاب “ في الشعر الجاهلي” وباعتبارها، في الوقت نفسه، بمعقوليتها المفرطة نفيًا للحياة يقارب العدمية.
الخلاصة:
عند هذه النقطة يصل نقد طه حسين إلى حدوده القصوى التي لم يستطع تجاوزها. إذ ظل أسيرًا لمبدأ ”اجتناب السخرية، والمُبادأة بها“، ما يبقيه، دائمًا، في مكانة النموذج الذي يُحتذى. مما قلل من فرص وصول هذا النقد إلى غايات أبعد من الغايات الذاتية، وعرضه لخطر الإنكفاء على الذات والحنث بمبدأ النقد الشامل الذي انطلق منه في كتاب ”في الشعر الجاهلي“. أتوقراطية طه حسين الأدبية التي تغيب عنها الحوارية في ”الأيام“ ويهيمن عليها صوت واحد لا مجال للفكاك من إملاءاته، أعلنت بيان ”الحداثة“ من طرف واحد ومن ”محبس“، عمَّق المسافة بينه وبين مستعميه أو قرائه. بحيث انصرف الجميع بمجرد الاستماع إليه، إلا قلة قليلة أو ”جماعة” واصلت بناء “حداثة شعرية” داخل اللغة، خارج المجتمع·.
من منظور آخر أو أخير، فإن ”الأيام“ لم تكن تدشينًا أدبيًا للفردية من حيث هي قيمة ارتبطت بقيم العقلانية والتنوير. بقدر ماهي تدشين لبطولة رومانسية متطرفة تتبدد فيها معاناة المهمشين وأصحاب التجارب العادية. مثلما أن كتاب “في الشعر الجاهلي” لا يخلو من دلالات سياسية تنزاح فيها أسطورة ”زعيم الأمة“ سعد زغلول لتحل محلها أسطورة ”عميد الأدب العربي“ طه حسين. وربما يفسر ذلك التوتر الذي خيّم على علاقة طه حسين بسعد زغلول. ولا يبتعد ذلك عن أن يكون كتاب ”في الشعر الجاهلي“، بمثابة تعريض، من طرف خفي، بالحياة الحزبية في عصره، لاسيما حزب الأغلبية ”الوفد“، طالما أن الكتاب يرفع السحر عن أساطير الماضي في ظل صراعات سياسية كانت توظف كل الوسائل من أجل التغلب على خصومها. ولسان حاله يقول ما أشبه الليلة بالبارحة. أو ما أشبه ما نراه اليوم من صراعات حزبية على السلطة بالصراعات السياسية والمذهبية التي سادت إبان عصور الخلافة، ووظفت كافة الوسائل لبلوغ أهدافها. وطالما أن الدعوة إلى فحص الروايات وعرضها على العقل وعدم الانصياع لأساطير الجماعة قد تكون دعوة للشعب المتعصب لسعد حد العمى أن يتبصر وأن يُعمل العقل في تعصبه لزعيمه، فلربما يكون مخطئًا. انظر مثلاً إلى قوله:
”فقد كان أحدهم لا يكاد يظهر تأييده لحزب من الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب، ويعطف عليه ويجزل له الصلات ويذهب في تشجيعه كل مذهب، على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التي تقف منها مواقف التأييد، تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشيء، لأنها لا تريد إلا نشر الدعوة، ولأنها لا تريد إلا الفوز. ومن ابتغى الفوز وحده كان خليقًا ألا يحقق في اختيار الوسائل وتدبر العواقب“([35]).
ولسنا نريد أن نلفت النظر هنا إلى الحمولة السياسية التي تقف وراء كتاب ”الشعر الجاهلي“، فهذه الحمولة ليست غريبة على رجل كان متورطًا في انتماءات حزبية وسياسية([36]). إنما ما نريد التأكيد عليه هو ضرورة دمج هذه الدلالات السياسية في دائرة فهم كتاب ”الأيام“، توأم كتاب “في الشعر الجاهلي”، وقراءته من منظور أساطير وصراعات سياسية سادت آنذاك، ولعبت دورها في رسم خيارات المثقفين اللاعبين. وبعبارات أخرى فنحن بحاجة إلى نزع السحر عن أسطورة الصبي الكفيف التي لم تكن بعيدة أبدًا عن مصالح وصراعات سياسية وأخلاقية.
المصادر والمراجع:
[1]عن هذه الأزمة وتداعياتها تقول منال آل فهيد: “إلا أن ربط الكثير من النقاد أزمة كتابه ”يقودنا سؤال الدافع إلى سؤال العلاقة بينه وبين كتابه الآخر ”في الشعر الجاهلي“، حيث تُجمع القراءات النقدية على أن”الأيام“ من وحي الضجة التي حدثت عام 1926م. إنه رد على الاتهام والقضية التي دبرت لكتابه ”في الشعر الجاهلي“. انظر: منال بنت فهد آل فهيد، تلقي كتاب الأيام لطه حسين في النقد العربي، النادي الأدبي بالرياض، الرياض، 2018م، ص/35
[2]فيصل دراج، الكتابة الذاتية والمنفى، ضمن كتاب الكتابة والمنفى، تحرير وتقديم عبد الله إبراهيم، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2011م، ص/270
[3]Sidonie Smith & Juila Watson, Reading autobiography: A Guide for Interpreting Life Narrative, Minnesota University, USA, 2001, p.13
[4]طه حسين، في الشعر الجاهلي، تقديم ودراسة عبد المنعم تليمة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م، ص/74
[5] طه حسين، الأيام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م، ص/ 23
[6]المصدر السابق، نفس الصفحة
[7]Fedwa Malti-Douglas, Blindness and Autobiography: Al Ayyam of Taha Husayn, Princeton University Press, United Kingdom, 1988, p. 24
[8] ناقش عبد الفتاح كليطو علاقة المؤاكلة بالاشتراك والتضامن والإيثار وتركها بالسلوك المذموم. انظر: عبد الفتاح كليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال للنشر والتوزيع، المغرب، 2013م، ص/ 22-23
[9] الأيام، مصدر سابق، ص/96
[10]طه حسين، مع أبي العلاء في سجنه، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014م، ص/39
[11]انظر قراءة جابر عصفور لبعض أعمال طه حسين من منظور المرآة بطرفيها السلبي والإيجابي: جابر عصفور، المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983م، ص/ 28- 29
[12]شكري المبخوت، سيرة الغائب، سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين، دار رؤية، القاهرة، 2017م، ص/72-73
[13] سيرة الغائب، سيرة الآتي، ص/89
[14]يشير شوقي ضيف إلى تاريخ كلمة أدب وتطورها من الجاهلية وحتى العصور الإسلامية المختلفة. ضمن هذا التطور تكتسب الكلمة معانٍ تعليمية وتثقفية وتهذيبة. وبخلاف ذلك فإن البعض قد أضفى عليها ما يجعلها مرادفًا للمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة ثقافة. انظر شوقي ضيف، العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ، ص/ 9
[15]الجاحظ، البخلاء، حققه وعلق عليه طه الحاجري، ط5، دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ، ص/213
[16]انظر كيف يعدد الجاحظ من أسماء وصفات ومعانٍ للولائم، وما يورده من استشهادات دينية وأدبية واجتماعية حول المأدبة. وانظر أيضًا ما يرتبه عليها من منازل ومراتب اجتماعية لأصحابها بحسب ما عُرف عنهم في ولائمهم. المرجع السابق نفسه، ص/ 213/ وما بعدها.
[17]Blindness and Autobiography, p. 24
[18]الأيام، ص/33، وانظر أيضًا ص/ 46 حيث يشير السارد إلى مقاطعة الصبي للمائدة في سياق آخر، مع ما يذكره من تكرار واقعة السخرية منه على المائدة وضحك إخوته منه. يقول: ”ولم يظهر الصبي في هذه الليلة على المائدة، ومكث ثلاثة أيام يتجنب مجلس أبيه ويتجنب المائدة، حتى إذا كان اليوم الرابع دخل أبوه عليه في المطبخ حيث كان يحب أن ينزوي إلى جانب الفرن. فمازال يكلمه في دعابة وعطف ورفق حتى أنس الصبي إليه، وانطلق وجهه بعد عبوسه. وأخذه أبوه فأجلسه مكانه من المائدة، وعُنى به أثناء الغداء عناية خاصة، حتى إذا فرغ الصبي من طعامه ونهض لينصرف، قال أبوه هذه الجملة في مزاح قاسٍ لم ينسه قط لأنه أضحك منه إخوته جميعًا، ولأنهم حفظوها له وأخذوا يغيظونه بها من حين إلى حين. قال له: ”أحفظت القرآن؟“
[19] المصدر السابق، ص/23
[20] المصدر السابق، ص/23
[21] في الشعر الجاهلي، ص/64
[22] المصدر السابق، ص/ 65
[23] سيرة الغائب، سيرة الآتي، ص/192
[24]سيجد القارئ عشرات الأمثلة على ما أشرنا إليه من سيطرة روح السخرية على الكتاب ككل. انظر مثلاً قوله ص/ 94 ”ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين لأننا لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة“. وقوله ص/101 ”وأن هذه الدقة في الموازة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظًا من السذاجة لم يتح لنا مثله“. وقوله ص/ 144 ”وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله وسع السموات والأرض هو علمه“. ثم انظر إلى هذه السخرية وهي تصل لذروتها في القمحة التي كانت تفاحة والرجل الذي كان من الطول بحيث يشوي السمكة تحت حرارة الشمس. يقول متهكمًا: ”ليس لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التي تسيطر على نفوس العامة في جميع الأمم وفي جميع العصور، وهي أن القديم خير من الجديد، وأن الزمان صائر إلى الشر لا الخير، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى، يرجع بهم إلى وراء ولا يمضي بهم إلى أمام. زعموا أن القمحة كانت في العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجمًا، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هي الآن. وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة بحيث كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه السمك ثم يرفع يده في الجو فيشويه في جذوة الشمس“. في الشعر الجاهلي، ص/ 199
[25]الشعر الجاهلي، ص/135
[26]سيرة الغائب، سيرة الآتي، ص/192
[27]التفت ليلى لوقا إلى جانب الحياد هذا واصطناعه في ”الأيام“ بقولها: ”ولكن علينا ألا ننسى أن طه حسين مؤرخ، مؤرخ حتى في النظرة التي يحاول أن يلقيها إلى نفسه. ولما كان حريصًا على الصدق، طالبًا للموضوعية، عد تلك الشخصية التي تمثله وعاملها، على أنها كائن تاريخي متمتع بنصيب من الاستقلالية، وكأنه متجرد عنه“. انظر: الخطاب الترجذاتي عند طه حسين في الجزء الأخير من كتاب ”الأيام“، ضمن كتاب طه حسين في مرآة العصر، اختارها وترجمها عن الفرنسية وعلق عليها مُنجي الشملي وعمر مقداد الحسيني، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، تونس، 2000م، ص/ 109
[28]المرجع السابق نفسه، ص/88-89
[29] الأيام، مصدر سابق، ص/25
[30]الأيام، ص/ 25
[31]سيرة الغائب، سيرة الآتي، مرجع سابق، ص/192
[32]الشعر الجاهلي ص/74
[33]انظر قراءة بول ريكور للحكبة ككل منطقي في إطار التصور الأرسطي الشهير. بول ريكور، الزمان والسرد (الحبكة والسرد التاريخي)، ج1، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2006م، ص/ 75 وما بعدها
[34]سيرة الغائب، سيرة الآتي، مرجع سابق، ص/192
· سوف نعود لمناقشة هذه المسألة في سياق آخر وعلى نحو أكثر تفصيلاً.
[35]في الشعر الجاهلي، ص/ 173
[36] انظر: مصطفى عبد الغني، طه حسين والسياسة، دار المستقبل العربي، بيروت، 1986م، ص/50 وما بعدها