يكتب الناقد المصري هنا عن كتاب محمود الورداني الأخير الذي تمتزج فيه عناصر السيرة الذاتية، بمسألة ما يمكن دعوته بالتاريخ السردي والتجسيدي للحظات تاريخية مهمة في حياة الكاتب وتاريخ جيله، ومسيرة مصر الصعبة، حاضنة هذا كله، وهي تتلقى الضربات والنكبات وتعلو عليها.

«الإمساك بالقمر» .. زمن الأحلام والكوابيس

محمود عبد الشكور

 

مولع أنا بقراءة ما كتبه شهود مرحلة ما بعد هزيمة 67، وفترة الإنتقال من عصر عبد الناصر، الى أيام السادات، وهي فترة تحولات كبرى ما زالت مؤثرة على أيامنا الراهنة، وهي سنوات درامية بامتياز، فمن فترة الحلم، والمهمة المقدسة، عرف أبناء الجيل كارثة الهزيمة، ثم انتقلوا من الحرب الى السلام، ومن الاقتصاد الموجه المنحاز للغلابة، الى عصر الانفتاح، ومن الاحتفال بذكرى لينين، الى استقبال نيكسون في شوارع القاهرة.

يمكن القول إنها فترة الأحلام والكوابيس معا، وما زلت مندهشا من قدرة هذا الجيل على تحويل معاناته الى فن وكتابة، ومن قدرته على أن يجمع بين الصوت العالي في التعبير عن أيدلوجية سياسية، وبين الصوت المستتر في الكتابة والفن. وهذا الكتاب الصادر عن دار الشروق بعنوان (الإمساك بالقمر .. فصول من سيرة زمننا) للروائي والقاص محمود الورداني يعبر ببلاغة عن كل ذلك، ففيه سيرة الذات والحلم والواقع والكابوس معا، وفيه قراءة لأصداء هذه التحولات الكبرى على جيل بأكمله، فيه بورتريهات عن أسماء كبيرة في عالم الكتابة، وفيه توصيف مدهش لعصر يحتفي بالأيدلوجيا، ويدافع عنها، وتصل فيه العلاقة بين مثقفي اليسار تحديدا، وبين المؤسسات الرسمية الى ذروة الصدام والصراع.

تحضر في الكتاب كارثة 67، ويحضر اعتصام طلاب الجامعة في عام الضباب، وكذلك انتصار أكتوبر 73، ومظاهرات يناير 77، مثلما تحضر تفاصيل الحياة اليومية، وعلاقات الأصدقاء، ومغامراتهم ولحظات جنونهم ونزقهم، وبيوتهم وندواتهم وتنظيماتهم السرية، والأهم هو حضور فكرة الحلم وتغيير العالم والوطن، ومنها جاء اسم الكتاب "الإمساك بالقمر"، فقد شعر محمود الورداني بأنه يمسك بالقمر أثناء الاعتصام في قاعة الإحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة في يناير من العام 1972.

محمود الورداني أراد أن يكتب عن زمن العظيم محمد كامل القليوبي بعد رحيله، ولكنه وجد نفسه يكتب عن الجيل كله، وليس عن القليوبي فقط، ويكتب عن الحلم بتحقيق المستحيل، واكتشف بالضرورة أنه يكتب عن نفسه، وعن التنظيم الشيوعي السري الذي انضم إليه، وكان اجتماعه الأول في بيت القليوبي في شبرا، رأى عن حق أن الثقافة والسياسة سبيكة واحدة، وأن تناقضات السياسة تنعكس على الفن والأدب، وأن الاستقطاب بين اليمين واليسار قد حدد معالم المعركة، ولذلك جاءت شهادة الورداني شديدة الثراء والتنوع، وانتقالاتها بين الخاص والعام سلسة وذكية، وبلا حواجز أو موانع.

عندما وقعت هزيمة 67 كان الورداني في السابعة عشرة، ووجود شقيق مثقف له هو عبد العظيم الورداني، الذي كان يعمل في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، جعل بيت الأسرة في العمرانية مزارا لكثيرين من أهل الكتابة وعشاقها، وانضمام محمود الى تنظيم سري جعله في قلب السياسة والأيدلوجيا. وتواصله، وهو الطالب في معهد الخدمة الإجتماعية، مع طلاب جامعة القاهرة، جعله شاهدا على اعتصام طلابها الشهير في العام 1972، احتجاجا على تأجيل اتخاذ قرار الحرب، وكتابته للقصة القصيرة، واهتمامه بالقراءة والثقافة، كل ذلك جعله في قلب أوساط الفن والأدب، وشاهدا على جيل التمرد وثورة الماستر وعشاق الأماكن والصعلكة ورواد ريش وإيزافيتش وجمهور جمعية الفيلم ونوادي السينما والمراكز الثقافية الأجنبية، وكلها أماكن كانت في عصورها الذهبية الكبرى.

وما بين 1967، وعام 1982 حيث يتوقف الكتاب، عاصر محمود الورداني أحداثا وشخصيات كثيرة، وسجن مرتين: مرة بعد القبض على الطلاب المعتصمين في جامعة القاهرة في العام 1972، والمرة الثانية في العام 1980، وامتزج لديه فعل الحياة، وصخب السياسة، بعالمي القراءة والكتابة.

هذا جيل عاش الحياة وامتلأ بها، وكتب بهذا الإمتلاء، وبشكل طبيعي للغاية، تأسرك في الكتاب مثلا علاقات الجيل ببعضهم، حياتهم المنطلقة التلقائية، بيوتهم المفتوحة لبعضهم البعض، ووجود من اكتشف وشجع وقدم كتاباتهم الأولى، مثل عبد الفتاح الجمل وإبراهيم منصور، وتجارب مجلات الماستر الهامة، وتجربة جاليري 68، والصفحة الأدبية في "المساء"، التي قدمت أسماء جيل بأكمله.

من أجمل ما في الكتاب أنه يعتمد القيمة الأدبية معيارا بصرف النظر عن الشهرة والصيت، هناك بورتريهات شيقة وحافلة بالتفاصيل عن شخصيات شهيرة مثل يوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله وخيري شلبي وغالب هلسا وإبراهيم أصلان ونجيب شهاب الدين والفنان العظيم جودة خليفة، وهناك أيضا شخصيات هامة، ولكنها لم تحقق نفس الشهرة، مثل الشاعر عزت عامر، ومحمد الفيل، والشاعر محمد سيف، وكم من أسماء في حياتنا الثقافية تحتاج الى رد اعتبار، وإعادة اكتشاف، سواء من جيل الورداني، أو من الأجيال اللاحقة.

يبدو الكتاب مثل لوحة ملونة عامرة بالأحداث والمواقف، تظهر في اللوحة طوابير الطلاب الخارجين من الجامعة وهم يصفرون بنشيد "بلادي .. بلادي"، ومظاهرة يوسف إدريس في وسط البلد احتجاجا على اغتيال غسان كنفاني، ورحلات الورداني وخيري شلبي لاكتشاف القاهرة، وحوارات ومقالب يحيى الطاهر عبد الله، الذي كان يفخر بكتابته للقصة القصيرة.

كان زمنا صاخبا، وحافلا بمعاركه ومواهبه، كل ذلك تنقله السطور بتدفق واستفاضة، لا فرق في ذلك بين صناع السياسة مثل السادات وكيسنجر، وصناع الحياة مثل الرفيقة نعمات (والدة محمود الورداني)، والأستاذة عائشة (زوجة الورداني، وشريكة المعاناة والطريق الصعب).

ليت محمود الورداني يكمل شهادته على فترات أخرى بعد العام 1982، كل زاوية للرؤية هامة، وتستحق التأمل، وهذا الخاص ليس في جوهره إلا العام، ولكن في لقطات مقربة، وحميمة، وعميقة، وليته يضيف الصور الى طبعات الكتاب القادمة، الصور أيضا تشهد وتعبر، وهي كذلك وثيقة تستعيد الزمن من جديد. وليست فكرة "الإمساك بالقمر"، في كل الأحوال، الا حلم كل الأجيال الطامحة للتغيير، في كل عصر وأوان، من جيل يناير 1972، الى جيل يناير 2011.