يرى الناقد المصري أنه يمكن قراءة هذه الرواية وفق آليات المقاربة التداولية – الإدراكية. وينتهي إلى أن شخصية البطل في الرواية قد أضافت نموذجا فنيا جماليا جديدا في منجز الرواية العربية الحديثة، وبخاصة في علاقة الذات بالمكان، وتمثيلاته التأويلية لبنية الحضور في مواقف التواصل.

الغموض الإبداعي، ودائرية تشكل الذات في الفضاء

في رواية »البحث عن المكان الضائع« لإبراهيم الكوني، مقاربة تداولية – إدراكية

محمد سمير عبدالسلام

 

تتداخل بنيتا الشخصية الفنية الاستثنائية، والمرجع المكاني في تضمينات الخطاب السردي في رواية البحث عن المكان الضائع للروائي الليبي المبدع إبراهيم الكوني؛ فالسارد يعيد قراءة الواحة المستقرة نسبيا، وشخصياتها عبر أسبقية كل من فضاء الصحراء المتقلب، والحضور الطيفي الظاهراتي للبطل / الغريب، أو العابر / إسان، أو صاحب الأتان حتى يصير العابر / الطيفي / الاستثنائي الذي يشبه رياح الصحراء، ورمالها المتقلبة، وغبارها نموذجا تأويليا لشخصيات الواحة المستقرة نفسها، ولبنية الحضور المؤقتة طبقا لخطاب السارد، وحجاجه، وأفعاله الكلامة الموجهة إلى المروي عليه؛ ومن ثم يومئ السارد أيضا – في تضمينات الخطاب – إلى الحضور المؤقت للذات في العالم، أو في الفضاءات الواقعية، أو العوالم الذهنية الممكنة أو المفترضة التي توازي عوالم الذاكرة، وعوالم الموقف الفعلي للتواصل بين الشخصيات، ويذكرنا بمدلول الوجود المؤقت في الزمن طبقا لتصور هيدجر، أو الحضور الطيفي الذي يجمع بين الظهور، والمحو عند دريدا؛ يصير إسان – إذا – تمثيلا مجازيا للشكل الفائق من الصحراء، وصيرورة الترحل بين الأماكن؛ ومن ثم يستنزف الخطاب – بدرجة رئيسية – بنية المكان المستقر / الواحة؛ ويؤكد ذلك التصور جملة العنوان / البحث عن المكان الضائع، والتي تنتمي إلى فئة التأكيدات، أو التمثيلات من تصنيف الأفعال الكلامية لدى سيرل في الدراسات التداولية المعاصرة؛ وينطوي هذا التأكيد نفسه على استنزاف المكان المستقر، واستنزاف عملية البحث نفسها؛ وكأن السارد ينحازإلى تجاوز بنية المكان ضمن تأويل يتضمن فعلا كلاميا تعبيريا آخر، يقوم على دعم السارد الإيجابي للترحل المستمر، والتناغم مع تناقضات الصحراء الإبداعية، ونقوشها، وأطيافها التي تتجسد بين الظهور، والمحو ضمن لقاء الذات الممكن، أو الواقعي بالمرجع المكاني / الصحراء، أو باستدعاء أصالة الذاكرة الصحراوية القديمة بداخله ضمن الموقف الفعلي للسرد، أو للتواصل.

ويمكننا قراءة الرواية وفق آليات المقاربة التداولية – الإدراكية التي ترتكز على دراسة طرائق التحليل المعيارية للمدخلات في العقل لدى فودور، والحالات الذهنية، وتطورها في الخطاب، والمحادثة، ودراسة تداخل الفضاءات الذهنية في وحدة الخطاب طبقا لفوكونير، ونظرية الصلة لدى دان سبيربر، وديردري ويلسون؛ فضلا عن دينامية تأويل أفعال الكلام، والإنشاء الإدراكي للسياق، ومبدأ بول غرايس التعاوني في تحليل المحادثة، ودرجة تناغمها، أو انطوائها على التساؤل، والاختلاف، والصمت، وتدرج الحجاج ضمن قسم واحد طبقا للسلم الحجاجي عند ديكرو في تحليل بنية خطاب السارد، أو الشخصيات.

تتشكل وجهة نظر السارد – في البحث عن المكان الضائع – لإبراهيم الكوني عبر المزج بين صوت السارد الذي يقص صيرورة علاقة أهالي الواحة بالغريب / العابر / إسان بوصفه تمثيلا لنموذج الصحراء، والتبئير الداخلي المتنوع طبقا لتعبير جينيت؛ وذلك حين يعبر عن العالم الداخلي للشخصية، وطرائق رؤيتها النسبية للحدث؛ مثل نشوة إسان الداخلية حين استمع إلى الغناء الجنائزي، أو رؤية إدهي لتحولات إسان الصاخبة في المقبرة؛ فضلا عن لجوء السارد – في كثير من المقاطع – إلى المسرحة من خلال الحوارات التي تكشف عن أصالة التعدد؛ والتي جاءت متكررة، وكثيفة، ومشحونة بالتساؤلات المؤجلة؛ لتتوافق مع بنية المضمر في الخطاب؛ والذي يمكن أن نستنتجه من خطاب السارد إلى المروي عليه؛ وهو تطور الحكاية إلى الاحتجاب المضاعف، والغموض الإبداعي المضاعف في بنى المرجع المكاني، والشخصيات الفنية في صيرورة العبور؛ ومن ثم يصير حضور الغريب الظاهراتي تأويلا جماليا بصريا، ووجوديا لكينونة الآخر، وللمروي عليه الذي يفترض أن يجمع بين تناقض المرجع المكاني الإبداعي / الصحراء، وبنية الحضور الطيفي بوصفها مجالا للتفسير، يتناغم مع العمق، والاحتجاب، والسؤال المؤجل دائما، أو المكان المستقر المؤجل دائما في الوعي، واللاوعي.

يقوم نموذج التواصل الأول – في الرواية بين السارد، والمروي عليه – في سياق معرفة كل منهما بتقلبات الصحراء، ونقوشها الفنية القديمة، وبعض عاداتها الثقافية، ونماذجها المتوارثة، أو الناموس كما يسميه السارد؛ ويتوقع أن يحقق السارد قوة فعل الكلام لما يرويه من تأكيدات، وتعبيريات، وتوجيهات في وعي المروي عليه بأهمية موضوعات مثل؛ المزج بين فضاءي الذات، والمكان الذهنيين، وتجلي شخصية العابر كتأويل للحضور الطيفي، واستنزاف بنية المكان المستقر في اللاوعي الجمعي، واستمرارية الاحتجاب المضاعف في الكينونة، والمرجع المكاني بوصفه مفتتحا لفهم التحولات الخيالية في العوالم الممكنة / المفترضة فيما وراء الواقع؛ وقد تتحقق قوة فعل الكلام حين ينحاز المروي عليه لاحتمالية تشكل صور الوجود، وتحولاته فيما وراء عواصف الصحراء، وفيما وراء احتجاب الغريب، وترحاله، أو يحقق المروي عليه لازم فعل الكلام الإخباري، أو الطلبي حين ينسج مزيدا من الأسئلة، والفجوات التي تؤكد تنازع التواريخ، والتفاسير لوقائع الحكاية، أو للعوالم اليومية المشابهة الممكنة، أو حين يعيد قراءة كينونته انطلاقا من المدلول الثقافي / الوجودي للعابر في احتجابه، أو نشوته، أو خروجه من مركزية المكان المستقر باتجاه الغياب المؤجل في الغبار، أو أخيلة الحلم التصويرية المقطعة، أو أخيلة الإغواء في حكايات البحيرات القديمة الأسبق من ثقافة الواحة.

يؤسس السارد خطابه – إذا – على رواية صيرورة إسان / العابر كتأويل للواحة، وشخصياتها، ويكشف هذا التأويل عن أصالة الاحتجاب، والتحول، والاختفاء الملتبس بالصوت في بنية الحضور؛ ورغم أن السارد لم يبدأ خطابه لسانيا بالمؤشر السياقي للمكان / الصحراء؛ فإنه يوحي في تضمينات الخطاب بأسبقية المكان، وأصالته عبر مجموعة من الإحالات المرجعية لغرباء سابقين اقترنوا في وعي، ولاوعي أهالي الواحة بقدوم المطر، أو بالسوء؛ ومن ثم يمكننا قراءة صيرورة إسان، ومصيره الذي يعيد تمثيل بنية العبور بصورة زمنية دائرية من خلال مكونات الخطاب الأولى؛ فمصيره قد اقترن بحدث للتحول إلى ثعبان، أو إلى فتاة، ثم اقترن بالاحتجاب في هجوم الريح، والغبار؛ ويؤكد هذا المصير دلالة الاحتجاب المضاعف في بنية الخطاب، وما يتضمنه من التأشير العائدي / الأنافورا بصورة مفاهيمية إدراكية؛ فالآخر / الغريب لا ينفصل عن بنية المكان / الصحراء، وغموضه، وتراثه الحكائي، وتناقضاته الإبداعية المتكررة؛ هكذا ينبع إسان من داخل انطباعات أسلافه، ومن الحالات الذهنية الملتبسة التي تولدت عن قدومهم، وغيابهم المتكرر داخل شخصيات الواحة؛ مثل الأبله، والحكيم، والعراف، والفتيات المغنيات.

يقول السارد في البداية:

"في أشباح العابرين قرأوا دائما رسالة خفية؛ يحملون في أقدامهم المطر أحيانا، كما يجلبون للديار شرورا أحيانا أخرى؛ ولهذا ساءلوا العراف عن نوايا القادم الجديد قبل أن تدب في الواحة البلبة" (1)

يبدأ السارد خطابه – إذا – بمؤشر سياقي يتعلق بظاهرية حضور الآخر، ونلاحظ أنه استخدم – في مستوى القواعد النحوية – الجمع؛ ليوحي في التضمينات الخطابية بأن الغريب جزء من أسلافه، وأنه يشبه تكوين الشبح في احتجابه المضاعف، بينما يخفي – في عالمه الداخلي – المؤشر السياقي المكاني الأسبق من الواحة؛ وهو الصحراء في تحولاتها، وتناقضاتها الإبداعية؛ وربما قام السارد بتأجيل ذكر الصحراء هنا؛ كي يوحي بأن الموقف الفعلى الاجتماعي ينحاز للمكان المستقر بدرجة أكبر من تراث العبور، والاختفاء، والحضور الشبحي؛ ولكنه – في مستوى استخدام مفردات المعجم – أشار ضمنيا إلى الصحراء في اختياره للفظ / أشباح؛ ومن ثم دل على كمون الصحراء، وأصالتها التي أنتجت صورة الغريب، وتحولاته، أو التباسه بالغياب، والسوء، والتناقض؛ ومن ثم لا يمكن تأويل تحول البطل إلى الفتاة، والثعبان، وعلاقته بالبحيرة، والوباء، وحدث زحف الصحراء إلا من داخل الإشارات الأولى للأسلاف، واتصالهم الاستعاري الإدراكي بالمؤشر السياقي للمكان / الصحراء، وأصالته في اللاوعي الجمعي، وطرائق التفسير الإدراكية التي تتنازع بين جلب الرزق ضمن مكان مستقر، أو استدعاء أشباح التصحر، والعبور الأولى الكامنة في بنية المكان، أو بنية الوجود نفسه.

وسنلاحظ أن الأفعال الكلامية الأولى للخطاب من فئة التأكيدات، أو التمثيلات، ولكنها تتضمن انحيازا تعبيريا للحضور الظاهراتي للغريب في بنية الصحراء، وكذلك تتضمن توجيها سيظل مستمرا، أو سؤالا لا يمكن الإجابة عنه بطريقة واحدة؛ لأن إجابته تولد أسئلة أخرى حول غموض الكينونة، وطرائق تجليها الملتبسة بالغياب في تناقضات المكان.

نستنتج أيضا وجود رابط تداولي أساسي بين فضاءين ذهنيين مختلفين في وعي السارد فيما يسبق الإشارات النصية الأولى طبقا لتصور جيليز فوكونير عن تداخل الفضاءات الذهنية في بنية الخطاب؛ هذان الفضاءان هما فضاء المكان / الصحراء، وفضاء الذات / العابر؛ وستصير الروابط التداولية بينهما؛ هي العبور، والتحول، والاحتجاب المضاعف، والحضور الطيفي، والتناقض الإبداعي؛ فالتناغم بين الغريب، وأسلافه، وعملية التصحر بوصفها تأويلا للوجود قد تولدت عنهما مثل هذه الروابط التداولية إدراكيا بين الذات، والمكان، أو بين الكينونة الملتبسة بالغياب، والتحولات الخيالية الإبداعية، وروح المكان، ونقوشه القديمة؛ وسنعاين مثل هذه الروابط الذهنية التداولية أيضا – في وعي إسان -  بين الفتيات الست عند البحيرة، وأسلافهن من الجنيات في بنية الحكايات القديمة عن فضاء الصحراء / الأسبق من الواحة، وصور اللاوعي المقطعة، ونماذج اللاوعي الجمعي.

تظل مثل هذه التصورات الإدراكية فعالة في بنية الخطاب السردي، وبناء السارد لحجاجه الاستدلالية؛ لتكوين رؤية إدراكية منظمة منطقيا تدفع المروي عليه لقراءة حضوره الخاص، ووسائطه التكنولوجية والثقافية –في السياق الثقافي – انطلاقا من فاعلية الصحراء الخفية كعنصر تأويلي عابر للزمكانية، ويولد الأسئلة حول تواتر الغرابة، والعمق الروحي، وإنشاء فضاءات ذهنية أخرى متداخلة في السياق الثقافي الأوسع، ووسائطه التكنولوجية الأحدث من الحكايات الشفهية، والأغاني الموحية بحدة مشاعر الحزن، والنشوة في الفضاء.

ولا يمكن الفصل – في خطاب السارد – بين الرموز العليا أو النماذج، وسياق الموقف الفعلي، والبناء الإدراكي المتطور للسياق – طبقا لنظرية الصلة لسبيربر، وويلسون- بين السارد، والمروي عليه؛ ولهذا سنجد صور اللاوعي تتصل بالتواصل الاجتماعي في الواحة، وبعوالم اللاوعي، وبتداخل الفضاءات الذهنية الإدراكية في عالم الشخصية الداخلي؛ وبهذا الصدديؤكد نورثروب فراي – في كتابه تشريح النقد في سياق حديثه عن الرمز كنموذج أعلى – أن الأسطورة لا تضيف فقط للطقس معنى، وللحلم سردا؛ ولكنها اتحاد للطقس بالحلم، يبدو فيه الطقس حلما يتحرك؛ فثمة عنصر مشترك يجعل من أحدهما تعبيرا اجتماعيا عن الآخر. (2).

هكذا يتصل النموذج بالحلم، والعادات الثقافية؛ ولهذا سنجد أن حدث التحول روي من قبل الأبله / إدهي وفق رابط تداولي يجمع بين فضاءين ذهنيين مختلفين؛ هما شخصية الغريب / إسان، والتكوينات الصحراوية الملتبسة في نقوش الصحراء القديمة، أو صورة الذات الشبحية وراء اللثام، أو وراء الغبار، أو بشخصيات الأسطورة، والحكايات القديمة، وبصور الحلم المقطعة؛ وسنجد أن السارد أقر الواقعة من منظور إدهي، ومن منظور رئيس القبيلة؛ وكأنه يقر الروابط التداولية بين فضاءي إسان، وشخصيات الحكايات الموروثة، والنقوش، وبعض المشاهدات الفردية للذات في الغبار، والريح، وصور الحلم؛ ومن ثم يؤكد الاتصالية بين الموقف الاجتماعي الفعلي، وناموس القبيلة، وصور الحلم الأسطورية، وتكرارها البدئي كنماذج تؤسس لتداخلات ذهنية إدراكية جديدة.

ويمكننا قراءة الخطاب تداوليا وفق تلك المسافة التفسيرية الملتبسة بين الظهور، والاحتجاب المضاعف للكينونة ضمن فعل كلام تمثيلي، تأكيدي يتضمن إنشاء فعل كلام تعبيري آخر يدعم ذلك الاحتجاب، وإنشاء سؤال دائري متكرر حول التحولات والتناقضات الكامنة في فضاءي الغريب، والتصحر.

يقول السارد:

"غاص في الماء. غاب إلى منكبيه، ثم إلى رقبته، ثم إلى أذنيه، ثم إلى عينيه، ثم .. غرق برأسه كله. احتجب. اكتمل اللثام؛ لثام الماء. حبس أنفاسه وهمد. همد طويلا. تجرع من الماء نصيبا، ولكنه صمد. صمد حتى انقطع النفس، قفز. فز على الأعلى والتقم الهواء بشراهة. ترنح وهوى مرة أخرى، ولكنه استوى على قدميه، وعاد يلتهم الهواء بفمه وأنفه، ويملأ صدره. اكتشف اختفاء كوكبة الحسان فتخيلهن بنات خفاء حقا. استعاد ما قالته الكاهنة عن العورة، فأطلق ضحكة ... ضحك بانتشاء من يتلذذ بالضحك، ثم ... ثم استولت عليه نوبة غضب" (3).

يأتي المقطع السابق في سياق نهاية محادثة بين إسان، والفتيات الست بجوار البحيرة، وضمن المرجع المكاني للواحة، ولكن الفتيات كن أقرب من شخصيات الحكايات القديمة، أو الجنيات في حكايات الصحراء الأقدم؛ ولذلك تناغمن مع بنية الاحتجاب، أو الغموض في تكوين إسان؛ وسنعاين انحياز السارد نفسه في فعل الكلام التمثيلي – التعبيري لذلك الغموض الإبداعي الذي يوحي بامتزاج الجسد بعلامات المياه، واللثام، والرمال، وشخصيات الأسطورة، والحكايات القديمة؛ وسنعاين نوعا آخر من التداخل بين فضاءي الماء، والرمال الذهنيين في خطاب السارد، وعالم البطل الإدراكي معا؛ فهو يحتجب في المياه فيزيقيا، بينما يغوص في ثقافة الرمال في فعل تأويل الكينونة؛ فهو يؤول الفتيات من خلال الحكايات القديمة عن الجنيات، ويستخدم المياه كحجاب بديل عن اللثام الذي يقي من الرمال، ومن معرفة الآخرين لتاريخ الغريب المحمل بنغمات الطرد، واللعنة الاجتماعية القديمة؛ ويؤكد تكرار السارد لعلامة اللثام، وبدائلها الظاهرة، والخفية المياه، والرمال، والتاريخ الشخصي - في وحدة الخطاب – أصالة ذلك التكوين الظاهر الخفي، أو أصالة الحضور الشبحي في التضمينات الخطابية؛ كما يؤكد بنية المضمرين الرئيسيين في الخطاب؛ وهما التناقض الإبداعي بين البهجة، والغياب في بنية المكان، وتكرار السؤال حول الاحتجاب المضاعف؛ والذي يصل صورة الصحراء – بصورة دينامية – بمستويات أخرى للحضور الطيفي ضمن سياق موسع، أو سياقات زمكانية أخرى؛ ويدل على هذا التوجه الممارسة الأدائية للبطل لكل من الضحك، والبكاء، والظهور، والغياب؛ ومن ثم فهو يؤكد تناقضات الفضاء / الصحراء في صيرورة الذات، والشك في مركزية حضور الفتيات؛ إذ يمتزجن بالصوت المجرد القديم لأطياف المغنيات، أو بجنيات الحكايات، أو بالنقوش، والذوات التي تنبثق، وتختفي في المكان؛ ومن ثم يولد الخطاب انحيازا تعبيريا لتلك الحالة من حالات الوجود، وسؤالا يدفع المروي عليه لقراءة شخصيات أخرى من داخل الذات، أو الانطباعات الإبداعية المولدة عن الصحراء.

ويؤكد خطاب السارد – في مستوى القواعد النحوية – غلبة الأفعال التي تدل على الاحتجاب بمستوييه الفيزيقي، والشبحي؛ وقد جاءت بصيغة الماضي؛ مثل (غاص، واحتجب، واكتمل اللثام، وحبس أنفاسه، وهمد، وصمد)؛ وتدل وفرة هذه الأفعال المتصلة بالزمن الماضي على استدعاء البطل لبنية الاحتجاب من أسلافه؛ فالاحتجاب يتسم بالأصالة الأسبق من وجود البنية الاجتماعية الفعلية للواحة؛ بينما نجده يستخدم الفعل المضارع في (يلتهم الهواء) وكأنه يمهد لصيرورة الريح، والغبار في الحاضر، والمستقبل؛ إن الالتهام هنا هو فعل استنزاف لبنية المكان، تأجيل لبنية الواحة يقع في الحاضر بخفاء؛ ليرد الواحة إلى جذورها الصحراوية الأولى، ولبنية العبور الطيفية.

ونعاين الحضور الظاهراتي للآخر في خطاب السارد عبر وفرة المؤشرات السياقية للآخر / البطل؛ ولكن تلك المؤشرات نفسها تصلح لأن تكون سيرة سردية تفسيرية لكينونة السارد في الفعل التعبيري الذي يدعم هذا الحضور الملتبس بالغياب، ويومئ الخطاب أيضا إلى المؤشر السياقي الخاص بالأخريات / الفتيات الست، وحضورهن أو إشراقتهن الإبداعية الأولى في وعي البطل، ولاوعيه بوصفهن مغنيات الواحة اللاتي ينحزن لأصداء الصحراء، أو جنيات الحكاية، أو الأسطورة؛ ومن ثم فمؤشرات الآخر هي مؤشرات سياقية تعيد تشكيل تحولات المكان، وأصواته الكثيفة التي تشبه الريح؛ أما المؤشرات الزمنية – المكانية؛ فتجمع بين بنية الحضور التي تتنازع فيها بنى المكان المستقر، واستنزاف المكان المستقر نفسه، أو تأجيله، وكذلك الذات التي تملك تاريخا، وهوية، والآخر / العابر الذي يملك ذاكرة تشبه تحولات المكان، وتتصارع فيها التواريخ النسبية السردية دون مركز، ويشير الخطاب أيضا إلى المراوحة بين صعود لحظة الماضي بأصواتها الطيفية، وحكاياتها، وسير العابرين الملتبسة بالغياب، وبنية الحضور التي تبدو مؤقتة في وجود الغريب؛ خاصة في ظهور الوباء، والتحولات الخيالية، وقدوم الريح ، والتصحر، وحدة الغناء الجنائزي للفتيات، واستلزامه للنشوة، والهروب القصدي من المكان.

ويمكننا قراءة العلاقة بين الأنظمة الطرفية الرأسية، وطرائق تحليلها بواسطة العمليات العقلية المنظمة كبقا لتصور جيري فودور الإدراكي – في كتابه النظام المعياري للعقل – إذ يرى أن الأنظمة الإدراكية المعيارية محددة بحكم طبيعتها؛ وهي ذاتية، ومستقلة، ولها آليات خاصة؛ ومن ثم فهي كليات رأسية، ويمكن تمثيلها في عملية إدراكية أخرى؛ لأن الأنظمة الحسابية المنطقية هي عمليات أولية، وتظل البيانات العصبية المورفولوجية قابلة للاستخدام ضمن عمليات حسابية أكثر تعقيدا. (4)

هكذا يتم تصنيف المدخلات أو البيانات اللسانية طبقا لتجليها في الكليات الرأسية ذات الخصوصية في العقل، ثم معالجتها تفسيريا بواسطة العمليات المنطقية المعقدة؛ وسنعاين مجموعة من المدخلات البصرية، واللسانية القابلة للتحليل ضمن خطاب، أو رؤية إدراكية منظمة منطقيا في دماغي السارد، والبطل / إسان في المقطع السابق؛ فالسارد يروي الحكاية عبر تنظيم منطقي مسبق عالج فيه مجموعة من البيانات البصرية، واللسانية حول صورة الصحراء، وتقلباتها، ومشهد البطل الملثم، وغيابه في الماء، أو الرمال، وهويته المتصلة بالمياه، وصورة الفتيات بجوار البحيرة، والتي قد تكون نتاج تداخل صورة من صور اللاوعي، وأصداء الحكايات، والاساطير؛ تأتي هذه البيانات فق ترتيب حكائي منطقي متجانس؛ يقوم على الانحياز لبنية الاحتجاب في الشخصية، والمكان؛ ومن ثم استنزاف المكان المستقر، والهوية ذات التاريخ المركزي الواحد؛ ولهذا جاءت معالجة دماغ السارد للبيانات البصرية، واللسانية مؤكدة لحالات التناظر، والتعددية في طبقات المكان الذي ينطوي على عمق الصحراء الروحي، والتناظر في تواريخ الفتيات في وعي إسان، وتواريخ إسان في وعي السارد، وفي وعي سكان الواحة؛ أما إسان فقد عالج البيانات البصرية التي تولدت -  في عقله - عبر رؤية الفتيات، والبيانات السمعية التي تجسدت في غنائهن؛ وقام دماغه على الفور بإعادة توظيف هذه البيانات في رؤية تفسيرية منطقية – إدراكية تقوم على التداخل بين أحاديثهن، وصورهن، وغناء نسوة الصحراء القدامي، وحضورهن الآخر كجنيات الصحراء في الحكايات القديمة للمكان؛ ومن ثم يؤكد هذا التنظيم المنطقي تضمينا خطابيا آخر يتعلق بفاعلية الصحراء الخفية التي توشك أن تستبدل ثقافة الواحة الآنية المستقرة ببنى العبور، والتناقض، والتحول.

ويمكننا استنتاج معتقد السارد الإدراكي – في سياق التواصل مع المروي عليه – وفق المستويات المتنوعة لسياق التواصل؛ وهي اللساني، والاجتماعي / الموقف الفعلي، والثقافي، والإدراكي المتطور أثناء الخطاب، أو المحادثة وفق نظرية الصلة طبقا لسبيربر، وويلسون؛ وقد جاءت إحالات إسان إلى الحكاية، أو الأسطورة في كينونته، أو تأويله للفتيات في سياق لساني يتعلق بصورة الصحراء، وتكويناتها الملتبسة، وأصواتها القديمة، وغموض الغريب في ذاكرة أهل الواحة حول أسلافه؛ ولكن الفتيات آثرن دعم احتجاب إسان، والتباسه، وتناقضاته الذاتية؛ ومن ثم فهن يوحين بتكرار أصالة أصوات الماضي، وصوره في طبقات المكان العميقة؛ أما لحظة الحكي؛ فهي تجسد إخبار السارد بتأكيداته حول الشخصية الاستثنائية الملتبسة بالمكان وفق تجليها التاويلي، واتساعها فيما وراء بنية الحكاية؛ بينما يتشكل السياق الثقافي الأوسع من خلال الفاعلية الثقافية لتراث الصحراء ضمن بنى ثقافية، وتكنولوجية حديثة؛ فالوسائط الحكائية الشفهية، والتكوينات الشخصية التي تشبه النقوش تظل قابلة للمعالجة العقلية في سياقات تتجاوز المراجع المكانية الرئيسية في الرواية؛ مثل الواحة، والصحراء، والمقبرة، وكهف تاسيلي ناجر، والبحيرة، وغيرها؛ فالصحراء تتصل أيضا بوسائط الحاسب، والإنترنت في الانتشار الواسع لتكويناتها، ونقوشها الممزوجة بالهواء، والرمال، والعواصف؛ فضلا عن كمون بنية الاحتجاب، والعمق الروحي في أشخاص آخرين لا ينتمون إلى السياق الثقافي القديم نفسه.

أما السياق الإدراكي المتطور عبر الخطاب بين السارد، والمروي عليه؛ فيتشكل وفق انتخاب كل منهما لمؤثر سياقي له أهمية، والتوسع في إنتاجية الرؤية الإدراكية، والسياق - بصورة دينامية – انطلاقا منه طبقا لنظرية الصلة؛ ويؤكد دان سبيربر، وديردري ويلسون – في دراستهما نظرية الصلة – نوعا ديناميا من الإنتاجية أوسع بكثير من العناصر الإدراكية، والسياقية المتاحة في الموقف؛ وذلك في غياب مؤشرات سياقية مضادة، ويشيران إلى إمكانية تشكيل رؤية منتظمة مترابطة كنتيجة لعملية تهدف إلى تحقيق أقصى استفادة من المعلومات التي يتم توصيلها. (5). هكذا يتوسع طرفا التواصل في تكوين الرؤية الإدراكية طبقا لتأويل عناصر السياق، وتمثيلها داخليا وفق التذكر، والاستنتاج، وإنشاء روابط منطقية لا تتعارض مع موقف التواصل.

ويوضح سبيربر وويلسون تفاصيل آليات الإنتاجية الدينامية الإدراكية في دراستهما المعنونة ب التداولية؛ فيشيران إلى أليتي انتخاب مؤثرات سياقية بعينها حسب الأهمية، والتمثيلات الداخلية في الذاكرة ضمن عمليات استدلالية تحقق تأثيرا إيجابيا في حالة زيادة أهمية المدخلات، والتقليل من الجهد في المعالجة، وتلعب التضمينات، والمضمرات دورا قويا في انتخاب العناصر، والاستنتاجات، وبناء تأويلات دينامية لأفعال الكلام. (6)

تتصل – إذا – البيانات المدخلة المنتقاة بواسطة الوعي بالاستدلالات، والتمثيلات الداخلية، والتضمينات، والمضمرات، والتشكل التفسيري الدينامي لأفعال الكلام في نظرية الصلة، وتصور التداولية – الإدراكية عن سبيربر، وويلسون؛ ويمكننا قراءة خطاب السارد طبقا لارتكازه على المؤثرات السياقية الخاصة بغبار الصحراء، والظهور الإبداعي للآخر / الغريب، وعلامة اللثام، ثم الماء الذي يبدو مثل الرمال في حجبه للجسد، ويبدو متناغما مع ميل الفتيات، والغريب إلى الإيماء؛ ثم يوسع السارد من هذه المؤثرات السياقية حين يحيلنا إلى اتصال البطل بالأصوات القديمة لنسوة البحيرة، وهروبه المستمر من المكان المحدد المستقر، وتذكره لخبرة الهروب من جمله الغاضب بالقرب من كهف تاسيلي ناجر، أو بزوغ ملثم آخر أو محتجب بالكامل، يومئ له بأن البشر هنا يمتزجون بحكايات الجن؛ ومن ثم يوسع السارد من مؤثر الغبار، أو من علامة اللثام إدراكيا حتى يصل إلى ذروة توسيع الرؤية الإدراكية عن الذات المكانية في سرده للحجة الخبرية المنتظمة داخليا، والمتعلقة بحدث التحول بصورة نسبية في وعي إدهي، وإقرار رئيس القبيلة الجزئي بإمكانية تحول الغريب إلى فتاة أو ثعبان؛ ومن ثم لا يوجد ما يتعارض مع هذا التأويل الإدراكي المحتمل في الفضاء؛ وبخاصة حين يزحف التصحر، ويعزز من دلالة الاحتجاب الأولى، أو الاختفاء الإبداعي في الحكايات، والنقوش، والمياه، والرمال مع بقاء الصوت الطيفي في المشهد، بوصفه تمثيلا لتكرار العبور في وعي المروي عليه؛ وقد شاهدت صورا إلكترونية لبعض نقوش كهف تاسيلي؛ والتي يمكن أن تحفز من بناء رؤية إدراكية منتظمة تقوم على انتخاب آخر لعنصر الغبار القديم الذي يتداخل مع تكوينات الثور، أو تكوينات الصيادين كما تصورهم صاحب النقش؛ ومن ثم يمكن للمروي عليه أن يعيد تصور اللثام في تلك التكوينات المتكررة الملتبسة داخل الصحراء، أو خارجها في سياق ثقافي أوسع قد يتضمن صور الإنترنت في لقائها مع نماذج اللاوعي الجمعي؛ تلك النماذج التي ستصير فرضية منطقية قوية في سلم الحجاج طبقا لتصور ديكرو عند قراءتنا للتداخل بين الذات، والمكان في خطاب الرواية.

ويوضح جاك موشلر تدرج المقدمات المنطية ضمن السلم الحجاجي طبقا لديكرو في القاموس الموسوعي للتداولية؛ إذ تنتمي تلك المقدمات إلى سلم حجاجي، أو قسم حجاجي واحد متدرج في القوة؛ فيبدأ مثلا ب ق1 / المقدمة الأولى، ثم ق / المقدمة الأقوى، وصولا إلى النتيجة / ن، ويكون الربط بين كل منها لسانيا. (7)

وأرى أن الحجة الاستدلالية الرئيسية في رواية البحث عن المكان الضائع لإبراهيم الكوني طبقا للسلم الحجاجي لدى ديكرو – تقوم على أصالة الحضور الطيفي في الفضاء، وتحولاته؛ أو التداخل الإبداعي الإدراكي بين الذات، والصحراء؛ ويبدأ السلم الحجاجي – إذا – بالمقدمة المنطقية الاولى ق1، والكامنة في حجة إدهي الخبرية حين نسج رؤية خبرية متماسكة داخليا ووظيفيا حول محاولته قتل الغريب، ثم معاينته لحدث تحوله إلى ثعبان، ثم فتاة، ومقتل الفتاة؛ وسنعاين بقاء الحدث معلقا، أو مؤجلا؛ فرئيس القبيلة يصدقه جزئيا، وإسان / البطل ينفيه في سياق غموض، واحتجاب مضاغف، وقدوم للتصحر، واختفاء لإدهي؛ أما المقدمة المنطقية الأقوى ق – في السلم الحجاجي – فتتعلق بانتماء إسان لأسلافه القدامى من الغرباء، ولنموذج الرحلة الداخلية البدئي في اللاوعي الجمعي؛ ومن ثم سنجد أن إسان تتداخل في بنيته نماذج البطل، والمبدع، وقوة التأثير، والاتصال بحكايات المكان بدرجة أكبر من الاتصال بشخصيات الواحة فيما عدا التاجر، وفتيات البحيرة؛ ولأن قوة النماذج أسبق من وجود إسان الفردي؛ فهي تصير المقدمة الأقوى لاتصال الذات الإبداعي بالمكان؛ وتصبح النتيجة ن هي أصالة الحضور الطيفي، أو العبور، واستنزاف المكان المستقر في بنية الفضاء، وتحولاته؛ ويدل على ذلك – لسانيا – أسبقية بنية الاحتجاب، والاتصال بأطياف المكان الحكائية في حدث الترحال الدائري المتكرر؛ فإسان يعيد تمثيل صورة الفتيات الست انطلاقا من تداخلهن مع جنيات الحكايات القديمة، أو تراث المغنيات الأوليات؛ ومن ثم تتداخل الفضاءات الذهنية المختلفة في رؤيته الإدراكية المتعلقة بالشخصية في الموقف الفعلي، وفاعلية شخصية الحكاية كنموذج، أو تتداخل كينونته مع الرجل الملثم بالكامل في كهف تاسيلي؛ فهو تكوين ظاهراتي يجمع بين الصوت، وطرح السؤال الأول / فعل الكلام التوجيهي المضمر – فيما وراء فعل الكلام التأكيدي للذات الملتبسة - حول كينونة الصوت المتكلم في العالم والعالم الممكن المناظر لبنية الكهف الفيزيقية على الآخر / البطل في موقف الهروب، والاحتجاب، والغياب في النقوش والحكايات.

ويمكننا تحليل ثلاث محادثات رئيسية بين كل من البطل / إسان والفتيات، ورئيس القبيلة، والتاجر آمجار وفق آليات التداولية الإدراكية، ومبدأ بول غرايس التعاوني الذي يقوم على تحليل دلالات الكم، والجودة، والصلة، والأسلوب، والتضمينات، ونظرية الصلة طبقا لسبيربر، وويلسون؛ ومن ثم الكشف عن درجة التناعم، أو الانفصال بين الذات، والآخر في بنية المحادثة، وطرائق تشكل الرؤية الإدراكية حول موقف التواصل، والأثر الإدراكي لتسلسل أفعال الكلام في تطور لعبة المحادثة.

يرى برانو ج. بارا في كتابه التداولية الإدراكية أن الحالات الذهنية – في موقف التواصل – تتضمن الانتباه لحقيقة التفاعل / موقف التواصل، والانتباه لكل ما يحدث بوصفه معرفة مشتركة، وبناء معتقدات مشتركة، أو استنتاجات منطقية، تسهم في تطوير المحادثة أو الخطاب؛ ويصير الاعتقاد حالة ذهنية بدئية، ولكنها تتمركز أيضا حول الحالة الموضوعية للعالم؛ ويؤكد أنه يمكن أن ينسج المتكلم، أو الآخر تفسيرا إدراكيا منطقيا متسلسلا عن خبرات اللاوعي، وينطوي موقف التواصل أيضا على وجود نية تتضمن تخطيطا لفعل، أو نية مستقرة وليدة الموقف، والاستجابات الآلية. ( 8)

ولا يمكن الفصل بين درجة التناغم الكلي للمحادثة، وبناء المعتقدات المشتركة، والاستدلالات، وتحقيق أثر أفعال الكلام؛ فالموقف الفعلي بوصفه معرفة مشتركة بين إسان، والفتيات يتضمن حقا بزوغا إبداعيا مفاجئا للآخر في سياق تحولات الصحراء، وتناقضاتها؛ ومن ثم تصير المعتقدات المشتركة حول موقف التواصل متناغمة؛ فالفتيات يذكرن إسان بجنيات الحكايات، وأطياف المكان، ونماذجه؛ فالصور تتناغم، وتتناظر بين الموقف الفعلي، والذاكرة، وأحلام اليقظة؛ لتكون رؤية إدراكية منظمة منطقيا حول وفرة حدث الاحتجاب بوصفه تأويلا للكينونة، والصوت الذي يعيد تمثيل خصوصية الفضاء.

يقول السارد:

"تأخرت تمريت خطوة، فتقدمت تامنوكالت؛ لتوضح ما خفي من الوصية:

-لو عرف الرجال فظاعة وجوههم لما تعروا من القناع يوما !

-ماذا؟

... – تفران: ألا يضيركم أن تكون لكم وجوه بعير، وآذان حمير، ومناقير طير؟

اضطرب لأول مرة، وهو يجيب:

يضيرنا، يضيرنا كثيرا.

-احترس أن تراك امرأة بلا لثام ...

-ولكني لم اسمع منكن قولا يتحدث عن الفم في الدرس الذي سمعته من أفواهكن منذ قليل.

-... لم نتكلم عن الفم؛ لأننا يجب أن نحوم حول الفم، ونتحدث عن كل ما جاور الفم؛ تجنبا لأن نطعن حرم الفم بالقول عن الفم كما يقضي الناموس.

-الإيماء، الإيماء، لغة الناموس الإيماء" ( 9).

ونلاحظ – في تضمينات المحادثة – التوافق الداخلي بين إسان، وفتيات البحيرة في الانحياز للحضور الحلمي – الاستعاري للآخر في التمثيلات الذهنية المولدة عن ظهوره الأول؛ فالفتيات يرسمن صورة سريالية أقرب لأجواء الحلم و الأسطورة لرجل له أذان حمار، ووجه البعير، ومنقار الطائر؛ وهي صورة أقرب لتحولات الصحراء، وغبارها القديم؛ كأنهن يوحين – في تضمينات المحادثة – بفاعلية هذه الأجواء نفسها في العالم الممكن؛ وهي أجواء تستدعي إخفاء المعالم النقية للذات أو الوجه، وتجعلها أقرب إلى أجواء الحلم، والمستوى الطيفي من الحضور الذي يكشف عن صوت الذات بينما يجعل حضورها الفيزيقي أقرب إلى الصورة، أو الظاهرة التي تتشكل في الوعي وفق غموضها، وخصوصيتها الجمالية؛ ولهذا كان إسان أيضا محملا بالمعلومات، والبيانات اللغوية، والبصرية، والسمعية حول المغنيات القدامي، وجنيات الحكايات فسأل الفتيات إن كن من هؤلاء النسوة؛ وكأنه يستدعي فاعلية التصحر وأجوائه الخيالية ضمن بنية الموقف الفعلي للتواصل؛ ولهذا كان التناغم الداخلي أقرب إلى هذه المحادثة رغم أنه ينطوي على فئة التوجيهات / الأسئلة من أفعال الكلام؛ ولكن هذه التوجيهات كانت أقرب لفئة التمثيلات للغموض المضاعف بوصفه قراءة تأويلية للكينونة؛ فمثلا جملة (يضيرنا ..) التأكيدية كانت تمهد لتصاعد توجيهات الفتيات بأن يظل في حالة الاحتجاب أمام المرأة؛ وتأكيدهن لهروبهن من الحديث المباشر عن الفم؛ وكأن هذه التوجيهات تتضمن فعلا تعبيريا ينحاز لاحتجاب الذات مع ظهورها الاستعاري باللثام في المكان / الصحراء الذي يتوافق مع دائرية العبور، واستنزاف مركزية المكان الساكن؛ وقد تحققت قوة أفعال الكلام ضمن تسلسلها في لعبة المحادثة؛ فنجد الفتيات يشعرن بالتوافق الأكبر مع إسان عقب رؤيته لهن كغانيات الصحراء، أو جنيات الحكاية؛ ومن ثم تحققت قوة أفعال الكلام في انحيازهن التعبيري لأسلافهن في الذاكرة الجمعية، ولصورتهن الاستعارية الأخرى في عالم إسان الإدراكي، بينما نجد أن إسان قد حقق لازم فعل الكلام التوجيهي بالاحتجاب حين غاب في البحيرة التي تذكرنا بالرمال، وتموجاتها في موقف تجلت فيه تناقضات مشاعره بين الضحك، والغضب؛ ومن ثم فقد حقق الاحتجاب، والظهور الطيفي معا، حتى وصل إلى الدرجة العليا من تحقيق لازم فعل الكلام في نجاته من محاولة قتل إدهي له في المقبرة / حدث التحول المؤجل إلى امرأة، وثعبان؛ وهو يوحي بتمثيله الكامل للتصحر الذي يزحف فوق ملامح الحضور الفيزيقي مع بقاء الصوت، والانطباعات الخيالية الحلمية في مجال الذات وفق روايات الآخرين؛ مثلما حقق الرجل الملثم – في كهف تاسيلي – لازم فعل الكلام التعبيري المتعلق بحب المكان، ونقوشه، وحب غموض الصحراء وتكويناتها الطيفية – الحلمية في تأويله لذاته بشخوص الحكايات الخيالية، والنماذج في حال وجوده في مرجع تاسيلي ناجر المكاني الذي يكثف الصحراء الأولى جماليا.

ويتجلى مبدأ بول غرايس التعاوني – في المحادثة – في الزيادة الكمية الاستطرادية في خطاب فتيات البحيرة في حديثهن عن مبرر الاحتجاب / الصورة السريالية، وبعدهن عن الحديث المباشر عن الفم؛ وهي استطرادات تؤجل سيرة الغريب، وتاريخه؛ وتؤدي إلى الإعلاء من حضوره الظاهراتي الأول في وعيهن؛ ومن ثم يستطعن التوافق بدرجة أكبر مع تصوراته الإدراكية حول فاعلية حكايات الصحراء، وشخصياتها ضمن الموقف الفعلي؛ فالاستطراد في الإخبار يتضمن فعلا كلاميا توليديا توجيهيا؛ كأنهن يقلن: استمر في النظر إلينا كشخصيات خيالية صحراوية، أو يضمرن: استمر في النظر إلى الواحة كجزء من الصحراء الأوسع بتناقضاتها، وحكاياتها.

وقد ساق كل من إسان، والفتيات الحجاج حول رؤية الآخر ضمن التمثيلات الخيالية، والانحياز للاحتجاب، والإيماء؛ فالفتيات يتخذن من الانطباعات الحلمية المولدة عن وجه الرجل في المكان مقدمة، يستنتجن منها أهمية اللثام، وتضمين الاحتجاب المضاعف كطريقة لقراءة الوجود في المكان؛ بينما نجد إسان يكرر كلمة الإيماء، ويربطها بالناموس؛ فهو يبدأ بفرضية خبرات أسلافه في الأهمية الوظيفية للإيماء في السياق الاجتماعي؛ ليستنتج منها تأجيل سيرته، وأهمية التوافق مع الاحتجاب في الرمال، والحكايات، والمياه، والفضاء المؤقت / المقبرة؛ ومن ثم تبرر المحادثة قراءة الآخر من داخل الأسلاف الخياليين، أو الحقيقيين، وفاعلية المكان الأسبق، والحضور الطيفي، وعبور المكان.

وقد تميز الأسلوب بالغموض؛ ولكنه غموض تتوافق حوله أطراف المحادثة بوصفه موضوعا لتأويل الذات في المكان؛ فنلاحظ كثافة التكرار الشعري في خطاب إسان؛ حيث يكرر الإيماء في علاقته باللثام، والفم، ودائرية الاحتجاب وراء الصورة؛ أما الفتيات فيستخدمن لغة الحلم التصويرية في توليد انطباع غموض كينونة الآخر، ويبررن عدم الحديث المباشر عن الفم بتنظيم منطقي داخلي، يعود إلى التراث الثقافي للمكان.

أما مبدأ الصلة وفق تصور سبيربر، وويلسون فيتجلى هنا في انتخاب الفتيات لعلامة اللثام التي تؤكد اهتمامهن بالاحتجاب في الصحراء؛ ثم قراءة الآخر من خلالها، وبناء معتقدات مشتركة حول المكان الآني / الواحة من خلال المكان الأوسع / الصحراء مع إسان؛ أما إسان فقد انتخب تشابه الفتيات في الحسن، ومشابهتهن لجنيات الحكاية، وتوسع إدراكيا في بناء تصوراته، وانطباعاته عن حضورهن الآخر الخيالي في وعيه، ولاوعيه؛ وكأنهن جزء من رحلة العبور، أو تمثيل لأصوات الصحراء القديمة المتناقضة، وقد توافقن مع ذلك الشبه في عالمه الإدراكي؛ ونلاحظ أنه لا يوجد في سياق موقف التواصل الاجتماعي الفعلي ما يمنع من التوسع في تكوين رؤية إدراكية تصل الخيالي بالحقيقي؛ لأن السارد يورد هذه المحادثة عن البحيرة، ويعزل أطراف المحادثة عن باقي القبيلة؛ ومن ثم يلتقي الماضي بالحاضر، وواقع الواحة المستقر، بتقلبات ريح الصحراء، وغبارها، وأصواتها القديمة، ومغنياتها الحزانى.

والمحادثة الثانية كانت بين إور رئيس القوم، وإسان في سياق الاستعداد للحكم على إدهي؛ لوجود فتاة مقتولة بينما كان يقصد قتل إسان في المقبرة؛ وتدور المحادثة حول موضوع تحول إسان، ويغلب عليها الانفصال، لا التناعم  بين طرفي المحادثة؛ فأفعال الكلام التوجيهية هنا، تؤدي إلى احتمالية الإجابة، وعمق الانفصال بين حالة إسان الذهنية التي تقرأ ثقافة الواحة كجزء من ثقافة الصحراء بوصفها تمثيلا مجازيا للوجود، وإور الذي ينحاز للصحراء داخليا لكنه متمسك بالبقاء في المكان المستقر / الواحة؛ يبدأ إور المحادثة:

"-لا أريد منك إلا أن تعترف للمجلس بقدرتك على التحول.

-القدرة على التحول؟

سكت الجليس، فتساءل الداهية:

-وماذا سيجدي اعترافي بالقدرة على التحول؟

... –سوف يجدي؛ إذا اعترفت بالتحول فسوف يستبدل بالإبعاد قصاصا.

-الإبعاد؟

-المنفى. سوف يقضي حياته عابرا كما شئت له أن يحيا.

-وهل يعبر الإنسان بعد فوات الأوان؟

-لم أفهم." ( 10)

يطلب إور من إسان أن يعترف بحدث التحول؛ كي يكتفي بإبعاد إدهي لا قتله؛ وينسج مجموعة من السير التي تبدو في حالة تعارض، وصراع حول إسان، وعلاقته بإدهي؛ ولكن إسان يعمق حالة الانفصال، ويجيب عن توجيهات إور، بتوجيهات اخرى تعمق السؤال، وتذهب به في تضمينات أخرى؛ مثل التأكيدات المتعلقة بتفسير وجود الذات في المكان، أو التعبيريات التي تكشف حب إسان للاحتجاب، والحضور الطيفي الذي يقع وراء التحول المباشر، والحضور الفيزيقي السطحي المباشر في مشهد القتل / التحول؛ وأرى أن سؤال إسان الأخير : "وهل يعبر الإنسان بعد فوات الأوان؟" يضمر فعلا كلاميا آخر عميقا في موقف التواصل؛ وهو فعل من فئة الوعديات؛ كأنه يعد بتلاشي إدهي في العاصفة؛ وهو ما حدث فعلا في تطور الوظائف السردية التي يوجهها السارد للمروي عليه؛ وتضمر فعلا كلاميا وعديا آخر؛ وهو الخلاص من منظور إسان في العبور المتوافق مع التصحر القادم الذي يستبدل الواحة؛ ويعيد تمثيل صور الحيوانات الممزوجة بالرمال في حالة إسان الذهنية.

وقد كان إور أكثر استطرادا – من حيث الكم وفق المبدأ التعاوني لغرايس –لأنه من يريد الإجابة؛ ليحكم وفق قانون الواحة؛ وقد أسهب إور في سرد تواريخ لإسان، دون إجابة من الآخر سوى توجيه الأسئلة التي تدعم لامركزية حدث التحول، ولامركزية مصير إدهي الذي لن يفيده العبور، ولامركزية مصير الذات نفسها في رحلة العبور الدائرية؛ ومن ثم فهو يضمر تأكيدا خفيا يتعلق بمصير إور نفسه الذي جاء ليناقش علاقة التحول بمصير إدهي؛ وهو غموض مصيره أيضا في العواصف الشديدة، والغبار، وولوج أصوات الصحراء، وحكايات الأسلاف المستعادة.

ونلمح – من حيث الجودة – إقرار إور بتحول إسان جزئيا حين يوافق على تماسك الوظائف السردية لحجة إدهي الخبرية وروايته للحدث؛ أما إسان فيكون رؤية إدراكية حول أصالة الحضور الطيفي وفق استنتاج يتعلق بأصالة العبور كخلاص من مركزية المكان؛ وقد تأكد هذا الاستنتاج لدى إسان من حدث إقصاء قديم في حلمه، وذاكرته؛ ومن خلال استخدام صورة التصحر في أحلام اليقظة كقراءة لمصيره الخاص، أو لوجوده في الفضاء الواقعي أو الفضاء الممكن القابل للتحقق الخيالي فيما وراء العالم المرئي في كهف تاسيلي، أو الواحة، أو المقبرة.

ويصل الغموض في الأسلوب – في لعبة المحادثة – إلى درجة عليا؛ ليعمق الانفصال بين حالتي إور، وإسان الذهنيتين؛ فإور يريد أن يدخل إسان ضمن منطق القبيلة المستقرة في المكان عن طريق التوجيهات، والتأكيدات المعلقة، بينما يعيد إسان قراءة منطق أهالي الواحة انطلاقا من أصالة العبور، والاحتجاب؛ ومن ثم يؤجل إسان الأفعال التأكيدية، والتوجيهية كلها في خطاب إور؛ ويظل لكل منهما حالة ذهنية وخبرة معرفية تستعصي على المشترك؛ ومن ثم تظل المحادثة حاملة لتأثير الانفصال، ولا تتنامى أو تتطور إلا في إنشاء محتملات دلالية.

ومن حيث نظرية الصلة، نعاين انتخاب إور لحدث التحول في رواية إدهي؛ ليوسع من إنشاء سير عديدة للغريب، ويربطها بأسلافه، ويقرب صورته من صورة الأبله / إدهي؛ ليكتفي بالإبعاد؛ ولا يوجد في موقف التواصل الاجتماعي – في الواحة – ما يمنع إور من توسيع الرؤية الإدراكية عن سيرة إسان؛ لأنه يحجب تاريخه، ويحجب الإجابة عن موضوع التحول؛ أما إسان فينتخب من ذاكرته حدث الإبعاد من المرجع المكاني الطيفي / البستان القديم؛ ليؤكد مؤقتية حضور المكان، والذات في الصحراء؛ وليتوسع في بناء رؤيته الإدراكية حول الخلاص بالتوافق مع بنية العبور الدائم، والتأجيل الدائم للمكان المستقر / الواحة، ومصائر شخصياتها؛ ولا يوجد ما يمنع من ذلك التوسع في السياق؛ لأن سؤال التحول قد نبع أصلا في ذهن إور انطلاقا من أساطير الأسلاف، وحكاياتهم، ونماذجهم حول الأبطال القدامى قبل أن يتشكل من خلال رواية إدهي، وحجته الخبرية؛ ومن ثم تصير الجريمة الغامضة نوعا من التوسع الإدراكي لحالة الاحتجاب المضاعفة التي تزامنت مع بدايات الاستقرار في الواحة، أو سبقتها.

أما المحادثة الثالثة فهي بين إسان، وآمجار كبير التجار في الواحة؛ وتتحقق فيها أعلى درجات التناغم في الرواية؛ إذ يتحقق فيها لازم فعل الكلام في مستويين رئيسيين؛ هما الأول: تحول فعل الكلام التأكيدي حول استنزاف إسان للمكان المستقر إلى قوة فعل الكلام حين يؤثر في العالم الإدراكي لآمجار، ويغير معتقده السابق عن أهمية الاستقرار في الواحة؛ فهو يعلن بصراحة حزنه على فراق إسان / الغريب في فعل تأكيدي يوحي بأنه قد شكل حالته الإدراكية مسبقا، وانتقل من النية المستقرة المتوافقة مع إسان إلى النية المقصودة المتعلقة بقرار الرحيل الدائري، وإن كان خفيا؛ وارتكز – بدرجة أساسية في تشكيل رؤيته – على تحقيق قوة فعل الكلام المتعلقة بعبور المكان؛ ويستنتج من سيرة إسان بنية سردية منطقية متماسكة وتأويلية حول وجوده في المكان كإنسان؛ ومن ثم يتوافق مع سيرة الخروج، والاحتجاب، ولذة الحضور الطيفي الذي يجمع بين قوة الصوت، وغياب التكوين في الرمال، ونماذج الحكاية؛ ويحقق آمجار بعدها لازم فعل الكلام في الوعد المضمر بأن يلحق بالغريب؛ أي يلحق به في السيرة، والنماذج، والغياب في الغبار، واللثام، ونشوة معانقة النقوش، والأصوات القديمة لنسوة البحيرة؛ بينما يتعلق المستوى الثاني من تحقق لازم فعل الكلام بإنجاز العاصفة الفعلي لوعد الغريب، أو توقعه، ووحفها على البحيرة، وتأكيدها لفعل الكلام التعبيري التوافقي بيم آمجار، وإسان؛ وهو حب المكان المؤقت الممزوج بنغمتي الاحتجاب، والغياب؛ يبدأ آمجار:

"-.. جئت للاطمئنان عليك، فوجدت القبو خاويا.

-القبو مكان، وصاحب الأتان لا يسكن المكان.

-لا تسكن المكان؟

-من يسكن القبور هيهات أن يسكن المكان.

....

-في الغد سأمتطي أتاني، وأسلم زمام أمري لسلطان العبور من جديد.

سحب آمجار نفسا عميقا. قال بيأس:

سأفتقدك كثيرا؛ سأفتقدك كما لن يفتقدك أحد في هذه الواحة المنكوبة !

-لن تفتقدني؛ لأنك ستلحق بي قريبا.

أطلق كبير التجار أنين وجع. قال:

-صدقت؛ سنلتحق بالركب كلنا عاجلا أم آجلا.

-بل عاجلا". (11 ) .

لقد شكل آمجار رؤيته الإدراكية وفق التناغم، والتوافقية بين المدخلات البصرية الخاصة بالمراجع المكانية المؤقتة مثل المقبرة، وأخيلة التحول، والمدخلات اللسانية في قول إسان بأنه لا يسكن المكان، وأعاد تنظيمها – في المستوى الأعلى من نماذج العقل وفق تصور فودور الإدراكي –بصورة متسلسلة منطقيا، تجعل من الغريب / الذات، أو الأنا المدركة في انحيازها لبنية العبور، وتشكيل الكينونة بصورة دينامية تتجاوز مركزية التحديد؛ وبخاصة حين انتخب آمجار مؤثر الوعد قدوم العاصفة من السياق، وقال إن الجميع سيرحل قريبا؛ ومن ثم توسع في إنتاج الصلة الإدراكية وفق تمثيلاته للمراجع الشخصية، والمكانية، وتأويل خطاب إسان بصورة تؤكد التوافقية التداولية / الإدراكية في بنية المحادثة.

هكذا تنتظم عناصر المبدأ التعاوني الأربعة لبول غرايس في المحادثة السابقة في وضع التناغم المتكافئ؛ فالمحادثة تتسلسل، وتتصاعد في نوع من هارموني الكم، ومعانقة حقيقة تحول المكان، والوضوح في الأسلوب؛ فالغريب لا يخفي الحقيقة هنا وإن صاعها بصورة مجازية؛ حين أعلن أنه لا يسكن المكان، وأشار ضمنيا إلى كلمة المستقر في بنية الخطاب؛ أما من حيث نظرية الصلة فقد انتخب آمجار رؤيته لفضاء المقبرة في السياق بوصفه فضاء للحضور المؤقت في المكان الواسع / الصحراء، وقام بتوسيع رؤيته الإدراكية حين استنتج أصالة عبور المكان المستقر، وانحاز للحضور الطيفي التصويري كمكون تفسيري، بينما انتخب إسان مؤثر الغبار في لقائه القديم بالتجلى الطيفي وراء اللثام؛ وإعادة إبداع سيرته، وكينونته بصورة دينامية توافقية؛ وقد جاءت العاصفة ضمن الموقف الفعلي للتواصل؛ لتؤكد ذلك التوسع الإدراكي.

ونلاحظ ارتكاز خطاب آمجار على المؤشر السياقي الذاتي في مجيئه، ثم المؤشر السياقي للآخر / إسان ليطمئن عليه، ثم المؤشر السياقي للفضاء المؤقت أو المقبرة؛ ليمئ – في تضمينات الخطاب إلى أنه صار متوافقا مع بنية الحضور الطيفي للصحراء مثل إسان / الآخر، بينما تأخر المرجع المكاني؛ لأنه متغير دائما، وقابل للاستبدال؛ أما إسان فقد بدت المقبرة أولا في خطابه؛ ولكنها تشير هنا إلى فضاء آخر ممكن؛ وهو فضاء الصحراء المحمل بالحكايات، أو فضاء الحضور الاستعاري؛ وكأنه يوحي بفعل تعبيري يدعم الفضاء الممكن / الصحراء، ثم يشير إلى المؤشر السياقي الذاتي بوصفه تمثيلا استعاريا لأطياف الفضاء، وأصواته، وتكويناته المحتجبة.

وأرى أخيرا أن شخصية البطل الغريب / إسان في رواية البحث عن المكان الضائع لإبراهيم الكوني قد أضافت نموذجا فنيا جماليا جديدا في منجز الرواية العربية الحديثة، وبخاصة في علاقة الذات بالمكان، وتمثيلاته التأويلية لبنية الحضور في مواقف التواصل.

*هوامش الدراسة:

(1) إبراهيم الكوني، البحث عن المكان الضائع، المركز الثقافي العربي ببيروت، 2003، ص 9.

(2) راجع، نورثروب فراي، تشريح النقد، ت: د. محمد عصفور، الجامعة الأردنية بعمان، 1991، ص 134.

(3) إبراهيم الكوني، السابق، ص 22.

(4) Read, Jerry Fodor, The Modularity of Mind, Cambridge, MA: MIT Press, 1983, p 36, 37.

(5) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson,Relevance Theory, in L. Horn and G. Ward (eds.) Handbook of Pragmatics, Oxford, Blackwell Publishing, 2006, p. 614, 615.

(6) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Pragmatics, in Cognition, 10, 1981, Elsevier Sequois, p. 281: 286.

(7) راجع جاك موشلر، وآن بيبول، القاموس الموسوعي للتداولية، ترجمة: مجموعة من الأساتذة بإشراف: عز الدين المجدوب، دار سيناترا والمركز القومي للترجمة بتونس، ط2، 2010، ص- ص 298، 299.

(8) Read, Bruno G. Bara, Cognitive Pragmatics: The Mental Processes of Communication, Translated by:  John Douthwaite,  A Bradford Book, 2010, p. 67:79.

(9) إبراهيم الكوني، السابق، من ص 17: 21.

(10) السابق، ص*ص 240، 241.

(11) السابق، ص 252، 256، 257.

 

msameerster@gmail.com