كان من مظاهر زمن الرواية أن هجر بعض الشعراء الشعر إلى الرواية. هكذا هجر الكاتب المصري الشعر بعد خمسة دواوين، ويثبت أقدامه فى فى بحور الرواية، فيثبت فى روايته أن (المؤلف) مهما شطح به الخيال، وطار إلى المشكلات الكونية، والأسئلة الوجودية، فإن جذوره فى الأرض، منها ينطلق، وإليها يعود.

المؤلف (رواية العدد)

صبحي موسى

 

1

في اللقاء الأول قالت أريدك أن تكتب قصة ليس بها أصدقاء أو شخوص، ليس بها سوى امرأة وحيدة كلما أحبت رحل عنها من تحب، وكلما تمسكت بشيء رحل عنها، ولا يبقى في جعبتها سوى العناء والموت. لم يكن في ذهنه سوى مشهد هذا العالم الغريب عليه، فنظر إلى البحر حيث مياهه  الساكنة، وحيث لا طير ولا أسماك ولا حياة، تعجب من مشهد الرمل المتسع على امتداد البصر، كأن عاصفة أتت فمحت كل شيء ماعدا تلك القباب وما عليها من شواهد بلا أسماء، كاد أن يقول لها لا أعرف عنك شيئاً، لكن رجفة شملته فانتفض كسمكة خرجت للتو من الماء، استدار ليقول لست رباً كي أكتب عما أجهل وكأنني أعلمه علم اليقين، ولست شيطاناً لأدخل في الصدور وأعرف ما تختلج به أنفس البشر؛ لكنه حين ولى وجهه للبحر لم يجدها.

رأى على البعد ظلَّ مرجانةٍ خرجت من الماء واتجهت إلى حيث ما يمكن أن يسميه بقايا بيت أو ما يشبه الفنار القديم، كانت هنا فكيف حملها الرمل كل هذه المسافة وبهذه السرعة الخاطفة، ولِمَ سألتني أن أكتب عنها ما لا أعرف عنه سوى هذه النافذة التي تطل منها كل حين؟ هل يمكن أن يكتب المرء قصةَ من لا يعرفهم وكأنه عايشهم مئات السنين؟‍‍‍‍‍‍‍ البحر نفسه بكل عبابه وهياجه العظيم يرفض أن يقبل عملاً لا يقوم به سوى الآلهة، حتى هؤلاء أنفسهم تنزهوا عن ذلك فارتقوا بأنفسهم إلى السماء. البشر أصعب من أن تحكمهم كتابة حتى لو كانت ذات علم يقين، فكيف أزج بنفسي في مغامرة كهذه وأنا أضعف حتى من الوقوف على أبوابها، كيف؟

كان المؤلف يتحدث إلى نفسه كما لو كان يعاتب إلهاً كلفه بمهمة لا يستطيع حملها،  يعاتب إلهاً لا يعيره سمعاً ولا انتباهاً، إلهاً غاضباً أو على أقل تقدير عاتباً عليه، لكنه ليس حانقاً، وكأن ثمة عهد قديم بينهما وثمة خيانة تمت لهذا العهد، لكن إثمها القديم لا يبلغ مبلغ الحنق، فلم لا يصفح قليلاً وينظر من عليائه؟ إنني الآن أحوج ما أكون إليه، فليستدر وينظر إلي نظرة واحدة، نعم نظرة واحدة فقط لأعرف أنه لم يبلغ مني هذا الحنق، نظرة فقط ولا ينتبه لي بعدها مطلقاً.

حين ألقى ببصره إلى البحر وجده قد استيقظ وبدأت أمواجه تدب فيه، وقليلاً..قليلاً أخذ يتدفق بموج عالٍ كأنه جبل ينهار ناحيته، أو حوت خرافي سيقفز على الشط ليبتلعه، شعر أنه خائف، وأن مفاصله ترتعد ولا تقدر على حمله، شعر أنه هالك هالك، فأغمض عينيه ووقف بثبات من أدرك أن الجحيم لم يطق صبراً فأتى إليه بنفسه، إن كان هذا عقابك أنا قابل، وإن كنت غاضباً إلى هذا الحد فأنا متلقٍ عذابك، فليبلعني موجك أو يمحوني بحرك، ولتفعل ما شئت لتعلم أنني ما أردت يوما إغضابك مني، وكيف أجرؤ وأنت أنت،وأنا أنا، وأنا أنت، فافعلها إذاً ولا تنظر ناحيتي.

حين أفاق المؤلف كانت النجوم قد تناثرت في السماء كنهود فتيات خدر، وكان البحر هادئاً كظبي ينام تحت أقدام صاحبه، جال بعينيه في الفراغ فرأى الأفق صافياً، لا سحاب ولا غيوم، لا شيء سوى الدفء والسكون والنافذة المضاءة في الفنار والعري الذي يشمله من كل جانب، فتساءل : أين أنا؟ وأين ملابسي وأين الفتاة؟ ولمَ كل ما حولي يدعوني للنهوض؟ آهٍ أشعر أن أعضائي جميعها تتحرك، وأنني مولود تواً، ولا شيء في ذهني الآن يُذكَرْ.

 

2

انتابت الشيطان على الشاطئ البعيد رجفة، فهب  منتفضاً من إغفاءة يوم طويل، دار بعينيه في الأفق فرأى صديقه القديم مازال ممسكاً بحربته الطويلة، هدَّأ ذلك من روعه  قليلاً، فما دام هذا الملاك متشبثاً بفكرته القديمة فأنا في أمان كبير، وكل ما يطرأ على الأرض ـ مملكتي الجميلة ـ يمكنني أن أسيطر عليه بجهد لا يذكر، فلا شيء يمكن أن يفلت من حيلتي، ولا شيء يمكنه أن يتخطى ما حددت له سلفاً، ولم تعد لدي رغبة في مواجهة هذا العالم، فهذه الرغبة قد أشبعتها منذ زمن بعيد، وما زلت أتسلى بها، أحاصرها، أتخللها، وأخرج منها لأعود من جديد، تماماً كرقعة الشطرنج، لا شيء يخرج عن خطتي،ولاشيء يتمرد على ما غرسته فيه، لا شيء.

 المرة الوحيدة التي شعرت فيها بالخوف حين أقدم عبدي اللطيف على الخلاص من نفسه، ساعتها رأيت الدنيا تظلم، ورأيتني أختنق، وكل أعضائي يصيبها الشلل، وأن كل ما فعلته أصبح هباء في لحظة واحدة، كان علىّ أن أتحرك بأقصى ما أستطيع لأحافظ عليه من جديد جثماناً ميتاً، أتجسد فيه وقتما أشاء، وأفعل به ما أريد، فهو جنتي وكل ما يربطني بالعالم، وما سواه عدم أنفذ إليه وقتما أشاء، وآمره فيستجيب دون أن أدخل فيه أو أخرج منه. لا يمكن للآلهة أن تدير عوالمها بمثل هذه البساطة واليسر، ولا يمكن لها أن تتحكم فيها مثلما أفعل، فأنا القابض عليها، وأنا الأقرب لمن فيها إلى أنفسهم، وأنا الذي يدخل الأجساد ويخرج كل حين، فأنا سيدهم الأول والمباشر وصاحب الحكمة والمجد والعمر الطويل، أنا الطاووس الذي يمشي زاهياً بينهم، مشرقاً كمن يطمئن على عماله في الحقول، فكيف يخرجون عليّ وأنا أعلم ما في صدورهم وما يحلمون به وما سيتحتم عليهم فعله وما سيصيرون عليه في نهاية المساء.

شعر الشيطان براحة تملأ صدره من جديد، ففكر أن يمارس هوايته في أوقات الفراغ مرة أخرى. كانت رقعة الشطرنج مازالت في موضعها على الشط، وكان الملِك الأبيض ما يزال مُهدداً من الجواد الأسود، تذكَّر أنه أكد لنفسه مدى حبه للجياد، فدائماً ما تتحرك في أماكن يصعب التنبؤ بها إلا بحسابات طويلة، تذكر أيضاً أنها دائماً ما تضعه في مواقف حرجة، رغم أنه لا يلاعب سوى نفسه.

كان البحر قد تمدد على الشط، كمن استيقظ منذ قليل، وكانت رقعة الشطرنج قائمة على المنضدة المستديرة وسط الفراغ والرمل، فعرَّج إليها متجرعاً رشفة من زجاجة النبيذ الملقاة أسفل قوائمها. رشفة واحدة تكفي لأن تعيده إلى الدفء وتجعله ينتفض بالحياة.

تأمل الرقعة كمن يحاول أن ينتصر لشخص ضعيف يشفق على موقفه التعس، كان الجواد الأسود قد أغلق يمين ويسار الملك الأبيض مستمداً ظل قوته من بيدق الطابية المنتصب في مؤخرة الخط الطويل، لا بد أن الحركة القادمة ستكون تحرك الجواد مخليا بين وجه الملك وحربة البيدق، يمكن للملك أن يهرب، فليست هذه هي المشكلة، لكن إلى أين سيتجه الحصان الذي سيتمتع فيما بعد بحركة مجانية لا يمكن محاسبته عليها , بينما سيكون الملك الأبيض مضطراً أن يواجه حركة إجبارية يحتمي خلالها بين جذوع ومؤخرات عبيده العسكر، فإلى أين سيتجه هذا الجواد؟ هل للخلاص من الوزير الكامن في خلفية المشهد أم  للإطاحة بالبيدق المخنوق في الركن المظلم، أم أنه سيكون  رحيماً و يأكل الفيل حاصراً الملك في خانة وحيدة لليمين، تمهيداً لمجيء البيدق في حمايته ليطعن ذلك الضليل في الظهر.. يا لها من لعبة تحمل آلاف الاحتمالات، ولا شبيه لها سوى نفوس البشر، لكننا بحسابها جمعاء نستطيع معرفة القادم من جوف الغيب، فليس هناك أكثر من حركة واحدة وكلما شددنا الحصار تمكنا من المعرفة، وغازلنا الآخرين برحمة أسوأ من القتل.. يا لها من لعبة لا يجيدها سوى الشيطان وحده.

كاد أن يأتي بفيل الشمال أمام الملك ليحميه من مواجهة البيدق، ومن ثم يفرغ لمواجهة الجواد، لكنه شعر برعشة تنتابه، رعشة تعصف بمفاصله حتى كادت أنامله أن تسقط الجيشين من على الرقعة، فصرخ صرخته الطويلة ليرددها البحر والموج والفراغ من بعده. كان البحر قد هاج مرة واحدة بينما توقفت آلاف الغيوم على رأسه فجأة، ثمة ما يحث في العالم، ثمة شيء غريب مفزع، لا يمكن أن يكون عبدي اللطيف قد أقبل مرة أخرى علي الموت، إنه الآن سعيد ومنتش تماماً، يمارس مع ابنته أو حفيدته كل ما يريده البشر، و هي أيضا تطيعه كدمية في يديه، كلاهما تصالح مع وضعه المعتاد، فلا أظن أياً منهما يرغب في الخروج عن هذا المسار الذي رسمته بنفسي منذ أعوام طويلة، حتى ابنته البلهاء تلك التي تركتها ليتعذب بها لم تخرج عن هذا المسار أيضاً، وحين ماتت أخذ يربي ابنتهما في رضاً غريب، حتى إذا ما جن المساء نام مع الجسد الميت في لذةِ قِطٍ يضاجع الهواء، فما الذي حدث؟ صديقي القديم ذلك الملاك الطيب الأحمق، مازال واقفاً كخادم عجوز على بوابة السماء، متفاخراً بجسده العملاق ومبتسماً بطيبة الأغبياء، ولا يمكنه أن يفكر للحظة في أنني ما زلت حياً. فأنى له أن يتخيل أنني جعلت العالم مملكتي وتركته واقفاً كنصب قديم للشهامة والفداء، من المؤكد أنه لا يعلم؛ لأنه لو علم لطعن نفسه بحربته أسفاً على كل هذه السنين من الحمق، ولو فعل ذلك فلن تتحرك في الوجود شعرة من أجله، فما الذي حدث حدث؟

 

3

رأى المؤلف على البعد ضوء النافذة يهتز كأن موجة من البحر قد دخلته، تساءل في نفسه ترى ما الذي يحدث للفتاة الآن، ثمة عائق في حجرتها، لابد أنها تقدم على الموت، لكنها لو كانت تفعل ذلك من تلقاء نفسها ما اهتز في العالم شيء، رأى قدميه تأخذانه رويداً رويداً ناحية الضوء، ورويداً رويداً كان يسرع دون أن ينتبه إلى الرمل الذي يغوص فيه، ولا الموج الذي يزبد كجمل هائج، ثمة شيء يحدث الآن في الوجود، أعلم ذلك عن خبرة، فمنذ زمن بعيد وأنا أرقب الآلهة وأعرف منطق الحياة لديها،أرقبها مثلما ترقب البشر عن بعد؛ حتى أنني صرت أتكهن بكل شيء، فأعرف ما ستكون عليه الحياة في الغد أو ما بعده من نظرة واحدة إلى الأفق، نظرة تكفي ما دمنا نستطيع خلالها معرفة الفروض التي تؤدي إلى المأزق، هذا الذي يتجلى أمام البشر كأنهم  أحرارٌ يعانون من لعبة الاختيار وليس أمامهم إلاّه كحل فريد، فبديله الوحيد هو الموت، وجميعهم لا يحبونه، يرتعدون أمامه وكأن بمقدورهم أن يهربوا منه.. يا لهم من أغبياء لو طلبوه لأبطلوا قدرته، وقتلوا تلك الأسطورة التي تحاصرهم طيلة الوقت. أنا فعلت ذلك حين لم يكن أمامي حلاً سواه، صعدت إلى الشرفة وألقيت بنفسي، كان الموت يحاصرني، ولو انتظرت كانوا سيقتلونني بأيديهم، لو هربت كان أعوانهم هم الذين سيقتلونني، فلمَ علىّ أن أؤجل الموت طالما لا خيار لي، وكل البدائل محض تأجيل لفعل أصبح محتماً، كل البدائل لها ضريبتها القاسية، وكل ما لدىّ هو الخوف من الفضيحة وانتهاء المجد، فما الذي يجعلني أنتظر محققاً تافهاً ليقض علىّ؟ ! لكن الموت كان أجبن مني، وأقل شجاعةً من جرأتي المفاجئة، فما الذي حدث؟ لا أدري، فقط وجدتني في مدينة القبور هذه، أمام قرد يتقافز، ينظر في وجهي ويضحك، ثم يتقافز من جديد، لم يحدثني لكنه انتحى إلى إحدى الشواهد وأخذ يبكي :

لابد للأحياء من مــــوتى

ولابد للموتى من قـــبـور

ولابد للقبور من حـارس مثلي

أنا حارس القبور الوحيد

أنا حارس القبور.

ووجدتها تجيئني لتسألني أن أكتب لها تاريخاً ومستقبلاً لا أعرف عنه شيئاً، تطلب بيقين من تعرف أنه يعرف كل ذلك ولكنه لا يرغب في أن يمسك بقلمه ويسطر لها مستقبلاً أفضل مما عانت منه كل هذه السنين. وحين وجدتني عارياً على هذا الشط الغريب وجدتها تلبسني ملابس جديدة تناسبني تماماً، كأنها صنعت من أجلى، فعلت ذلك بآليةِ من أصبحت مهنته أن يكسو العراة على هذا الشط. كيف جئت؟ كان هذا كل ما صرخت به في وجهها، لكن عينها الميتة لم تزدد سوى خواءٍ ووحشة، قالت : اذهب، وما كان على سوى أن افعل، فكل ما هنا مسحور ومجبول على الحركة دون تردد، وكأنه مأمور من قوة عليا.

أنا الآن على الشط تغوص أقدامي في الرمل، ولا أستطيع الرجوع أو الوصول. الضوء مازال يهتز و الصرخة الخاوية ما تزال تشتعل، والقرد العجوز يتقافز في النافذة، يتراقص فرحا، يخرج نازلاً درجات الفنار العتيقة متقافزاً،منتشياً كأنه شيطان يتجرع خمره الأثير. فما الذي حدث؟ ليتها تجيئني في الصباح، أو أنني أذهب إليها الآن. لو صدق حدسي لقلت أنني سأبقى مثبتاً في الرمل حتى تروح النجوم، فأعود إلي مقعدي علي الشط، لأفتح عيناي علي عينيها الميتتين وقد غازلتهما بعض الحياة. ستقول من جديد أكتب عني، وسوف ألمح في عينيها ابتسامة تجعلني أرى أني مؤلف يجلس على مكتبه القديم في بيت ريفي غير واضح المعالم، يمد يده ويخرج دفتراً طويلاً يشبه الدفاتر الحكومية، سوف يفتش عن الجزء الخاص بها، سوف يتأمله كثيراً، وسوف يحزن لأنه كتب عليها كل هذا الألم، حتى أنه سيخاف مما قد يكتبه من جديد، سيهم أن يمزق أوراقه ويكسر قلمه ويقذف بكل شيء من النافذة، لكنه سيفاجأ بهدوء غريب ينتابه؛ فيمسك بقلمه من جديد ويكتب في نهاية الصفحة " سوف تموت هذه الفتاة ميتة بشعة، وسوف يأتي المحقق ليجدني وحيداً بجانب جثتها، فيسائلني عن موتها وموت آلاف غيرها، ولن أجيب عن شيء "

 

4

آه.. تعبت، لا أحد في الوجود كله يمكن أن يدرك مدي تعبي، ولو صرخت بكل ما لدي من ألم فلن يصدقني أحد، حتى هذا المجنون الذي يرقبني من بعيد، يقف مغروزاً في الرمل طيلة الليل والنهار، كأنه شاهد جديد، شاهد لم أقمه بيدي، لكنه خرج من بين هذا الخراب، خرج وحيداً مغشياً عليه. لا أحد يجتاز هذه المفازة و لا يموت، وحده نجا، لم أسأله من أنت، ولم أقترب منه، فقط تشممته من بعيد، كانت رائحته رائحة إنسان، وكانت فرحتي عارمة، فمنذ زمن وهذه الرائحة لم تلفني، إنسان.. إنسان ! أرقص وأطير من النشوة، فهذه أول مرة منذ أخذت الصاعقة أولادي وكل من أعرف ترى عيناي بشراً لا يحمل رائحة الموت، بشراً ليس محتماً علىّ أن أحمله بيديّ وأدخله هذه القبور، تلك التي بنيتها كماض مزيف فأصبحت كل ما أملك، ما كان للناس أن يتقبلوا إنساناً بلا أهل ولا جذور، وما كان لأبنائي أن يحيوا بلا جدود وإن لم يخرجوا عن محض وهم زائف تمخض عنه ذهني اللعين، فلا أعرف لي أباً يستأنسون به، ولا أماً يمكنها أن تدعي ذلك من أجل أحفادها، لا أعرف سوى ذلك العجوز الذي حملني من بين النفايات في عباءته السوداء مهرولاً إلي بيته كمن عثر على كنز يخشى أن يعلم به الناس.

من كان يراه في تلك اللحظة ما كان يتوقع ـ ولو أقسم له نبي ـ أن يصدق ما حدث، فما أن هرعت زوجته لتحضر القنديل وترى حظ زوجها الذي سيدخله الجنة، حتى صرخت مرة واحدة توقف بعدها لسانها عن العمل للأبد. أما الشيخ فقد أنتفض مذهولاً كمن اكتشف فجأة أنه يحمل جيفة في ثوبه، فما ذنبي في ذلك وقد خلقت مسخاً يحمل ملامح آدمي برائحة تشبه القبر؟! وما الذي يمكن أن يبدل الفرح في عيني هرم كهذا إلى نفور بكل هذا الحجم؛ ألست مخلوقاً مثلهم؟

وهكذا تناسى أنه رجل دين يأمر بالصلاة والتقوى، فأخذني كمن يحمل بولاً بين يديه إلى راعٍ فقير على تخوم البلدة في تلك الآونة من ليل أمشير المرعد. كان نفوره بلا حد، حتى شعرت كم أنا كريه، وأيقنت أن حياتي كلها لن يغسلها من هذا النفور شيء. كانت يده تطرق باب الراعي طرق المستغيث،  " خذ هذا وارعه، ولك ما تشاء " , ما كان للراعي أن يرفض عرضاً كهذا، أبناؤه كثر، وفقره مدقع، ورائحته لا تقل نفوراً عني، فلمَ يعامله كآدمي بينما يشملني بكل هذا النفور؟‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍وهكذا أصبح لمسخ مثلي مكاناً يعيش فيه أسفل أظافر الأغنام، فيصحو على بولها الدافئ ينساب على عينيه ليبدأ كل صباح يوماً جديداً من الاحتقار والنفور والذل.

فلم ينظر لي هذا المخبول هكذا من بعيد؟ هل ما زالت رائحتي منفرة إلى هذا الحد؟ ‍‍‍يا لي من بائس ستطارده لعنته حتى يموت، لكن هذا البغيض إلى النفوس لا يجيء، أفتح القبور وأنتظره بالساعات، أنام بالأيام وسط الجيف والجثث فاعلاً كل ما قد يستفزه ولا يجيء، كأنه هو أيضاً ينفر من رائحتي، كل من تعاملوا معي كانوا ينفرون منها، كنت أسمعهم يقولون قردٌ ومسخٌ وشيطان، وكنت أبكي صمتاً، حتى الذين كانوا يعملون عندي، هؤلاء الذين تكبلهم آلاف الديون لمئات الأعوام، كانوا بمجرد أن يبتعدوا يهرقون ما بأمعائهم ويدعكون أنوفهم في الرمل لاعنين اليوم الذي جعلهم يتعاملون مع مسخ مثلي.

حتى اسمي ـ عبد اللطيف ـ هذا الذي أوصى العجوز الراعي بأن يلقبني به يذكرني دائماً بأنني كارثة تستحق اللطف من خالقها، وقد أيقنت ذلك، مثلما أيقنه الراعي حين ماتت زوجته ومن قبلها نعاجه وبنيه، حتى ابنته التي أحببتها رغم معاملتها لي ككلب يأوي كل ليلة إلى حظيرتهم، كلب أجرب يُنصح الجميع بعدم الاقتراب منه، أجرب بلا مشاعر ولا قلب فقط بوابة للموت والخراب ولا شيء أكثر. وهذا ما أدرك ذلك الراعي المسكين، فلم يملك غير أن ثار فجأة على بوابة هذا الشؤم، فأشبعه ضرباً وركلاً ولعناً، وأحضر حبلاً فربطه على عمود في بيته، أقصد خرابته، وأحضر فأساً وهمّ أن يأتي برأسه نصفين، لكنه لعنه الله في كل كتاب وسماء وأرض تراجع، وفضّل أن يتركني هكذا لا حياً ولا ميتاً، ويرحل إلى حيث لا يعود مطلقاً.

 

5

في الصباح شعر المؤلف بنوع غريب من التعب، لم يستطع أن يحدد هل هو مريضٌ بالفعل أم أنه متكاسلٌ بعض الشيء، لكنه كان مستغرقاً في التفكير. ليلةٌ طويلة من الهلاوس والوجوه التي تتراءى ثم تختفي، مئات الوجوه لأناس يعرفهم ولا يعرفهم، حين يتبدون في مخيلته يشعر أن ثمة خيطاً عظيماً يربطه بهم، كأنه عاش حياة مليئة بالشجار والحب والصراع والدفء معهم. كان لسانه يلهج بأن ينادي عليهم، لكن ذهنه لم يستطع أن يقبض على الاسم المناسب، كلما همّ أن ينطق الاسم الكامن في طرف لسانه يجده اسماً مغايراً فيرفضه، يحاول أن يتذكر شيئاً من هذه الحياة التي يشعر بها عله يساعده على النطق بالاسم؛ لكنه يرى كل ما كان يعتقد أنه يعرفه يغور في بئر سحيق بينما صورة صاحب الاسم تتوارى بعيداً، بعيداً.

مئات الصور تبتعد في لحظة واحدة، فلا يمسك بواحدة منها، إلى أن يشعر أنه لا يعرف صاحبها، وأن كل ما يملأ رأسه محض كابوس غريب، فإذا ما استراح إلى هذا الوهم بزغت صورة أخرى، فهمَّ أن ينادى عليها لكن ما حدث مع الأولى يحدث مع الثانية، والثالثة، والألف. ليلة طويلة من الهلاوس لم يتعرف فيها على اسم أو صورة واحدة بينما تغزوه آلاف الشخوص وآلاف المشاهد.

ظل جسده مسجىً على الرمل ثلاثة أيام حتى صار شبحاً متكوماً، تعبٌ غريب لكنه لذيذ، فرغم أني أشعر أنه يدنيني من النهاية، غير أنني أستعذبه وأشعر بلذة تدغدغ كل جزء مني. حين تحامل على نفسه وجاهد للوقوف على الرمل شعر بدفء ينثال بين ساقيه، فترك يديه تتحسس سائلاً لزجاً يذكره بحياة ممتعة عاشها يوم ما، لكنه لا يتذكر تفاصيل شيءٍ منها. حتى طفولته لا يذكر منها سوى بيت قديم وأم مريضة بشكل دائم، لا يذكر أنه رأى له والداً أو حتى زوج أم، وكلما تراءت له صورة البيت القديم، وهي صورة أصبحت تلح عليه أكثر من غيرها؛ يشعر تجاهها بالحنين ومعرفتها عن ظهر قلب، لكنه لا يتذكر أياً من التفاصيل عنها و لا عن حياته السابقة، فقط ثمة إشارات ضئيلة تند فجأة في ذهنه ثم تختفي، إشارات لا تدل على شيء ولا تخلو من شيء. آه.. لو أنني أستطيع فك طلاسم هذه الرموز، كنت سأعرف من أنا، ولمَ جئت إلى كل هذا الخراب والموت، كنت سأعرف أيضاً من ذاك القرد المتقافز، وما قصة كل هذه القبور، سأعرف الفتاة و قصة منارتها التي تنتظر سفناً لا ـ ولا أظنها ـ ستجيء، كنت سأكتب قصة ذلك كله، فهل يمدني الآن إلهي القديم بشيء؟

كانت الأفكار تجتاح ذهن المؤلف في البدء بوداعة، كفكرة بسيطة تغزو رجلاً يهوى ممارسة الألعاب الذهنية، رجلٌ يستطيع أن ينتج من الفكرة آلاف الأفكار بطريقة هندسية متوالية، إلى أن تصبح الفكرة آلافاً والصور ملايينَ، فيشعر أن ذهنه الذي لا يزيد عن تكويرة يديه قد تضخم وأصبح بحجم حجرةٍ سوف تنفجر في أي وقت. الشيء الغريب أنه لا يستطيع أن يوقف انثيال اللعبة متى بدأها، ولا يستطيع أن يهرب من تبادلات المواقع والأحداث والشخوص للحظة واحدة، وحتى لو أراد فسوف تطارده في كل مكان حتى يرضخ لقانونها التوليدى، فلابد من أن تنتهي اللعبة، ولا نهاية لها سوى الموت، إما موته أو موت كل من دخلوها. ولا يمكنه أن ينسف الجميع بضربة واحدة، إذ لابد أن يموت الجميع كلٌ على حدة، وطبقاً لنفس المتوالية التي دخل بها إلى ذلك الوجود. وكأن الكل يحمَّلُ بطاقة موته الذي سيأتيه من داخله ومن جنس طبيعته.

الموت .. الموت، ضجرت من هذا الاسم، ضجرت من أن أرى كل من أحبهم يموتون أمام عيني، حتى أنني أُتَهَمُ بموتهم، ورغم أن كل ما أفعله هو معرفة طبائعهم , والطريقة التي يفكرون بها، ثم أُدخلهم متوالية الأحداث، وبوداعة أن نسحب خيط تريكو تدور الماكينة الجهنمية، فتتوالى الأحداث عشرة، عشرين، أربعين، مائة عام أو يزيد، حتى تجيء النهاية ومشاهد الموت الأخيرة، هذه التي أرصدها بنزق عجيب وكأنني صانع الحدث ومدبره، وكأنني القاتل الذي يضع الخطة لكل الشخوص فيتحركون طبقاً لمشيئته، هذه النهاية التي لا أستطيع الهروب منها أو تجنبها. فما دامت الماكينة قد دارت والمتوالية قد بدأت؛ فلابد أن تجيء هذه النهايات التي تطاردني في الحلم واليقظة ورموز الأشياء، فأراها تكتمل ولا أقدر على إيقاف شريط أحداثها الأثيم، الكل يموت، واحداً تلو الآخر ومن نفس البذرة التي غرستها فيه، أو أدركت أنها لديهم وبنيت عليها فكرتي الأولى.

 

6

جلس عبد اللطيف أمام قصره الذي بناه خارج حدود القرية على شط بحرٍ عظيم، كانت متعته الوحيدة أن يصعد أعلي هذا المبني الجميل حيث ابتنى لنفسه غرفة وحيدة يطل منها علي الموج كل غروب. لا شيء يمنعه الآن من فعل ما يريد، كل البلاد تحت قبضته، هو السيد الوحيد لهذه القرى، فمنذ عقد مزاوجة بينه وبين صديقة الشيطان في تلك الليلة الراعدة المظلمة؛ وهو يرفل في خير وفير، منذ فتح كل منهما جرحه ووضع فيه دم صاحبه كرمز للإخاء والشراكة التي لا تنفصم بينهما وهو يشعر بقوة لا حدود لها ورغبه في الحياة لا تنتهي. من الآن فصاعداً لن ينفر الناس مني، لن يكرهوني لقماءة وجهي أو زناخة جلدي، لن ينظروا في عيني حيث هذا المنبع الذي يصيبهم جميعاً بالنفور، فقط سينظرون إلي أناملي وهي تعد المال وتعطي و تمنع، إلي رجالي الذين سأشتريهم وقصري الذي سأبنيه.

سوف أتزوج بكل فتاة ترغبها عيني، وسوف أنجب، نعم.. لا بد أن أنجب قبيلة أو شعباً يملأ هذا الفراغ ويمحو هذا النفور من وجهي، فما أبأس الحياة حين تكون فرداً واحداً بلا أهل ولا أبناء، ما أوحشها حين يصبح البرد صديقك الوحيد، وكل ما تعيشه نفور وبرد، فما حاجتي بنصيحة ملاك طيب كل ما في جعبته محض مواعظ من قبيل " كن جميلاً وطيباً يحبك الجميع "،ياله من طيب يعتقد أن البشر يمكن أن تخضعهم سلطة أقل من سلطة المال.

عشرون عاماً وأنا إنسان طيب لا أقدم على فعل واحد يسيء لأحد، عشرون عاماً أفعل ما يأمرونني به وأتجنب ما يغضبهم ولا أنال سوى لقمة  يأنفون أن يلقوا بها إلى كلابهم، أخدمهم طيلة النهار ولا أحصد سوى بصاقهم في الليل. وحدها الظلمة كانت مملكتي، وما كان لأحد أن ينازعني إياها حين تحل، ما كان لأحد أن يجرؤ على قطع الفيافي أو الحقول سواي. حتى هذه الأشباح التي يرتعدون منها تخافني أنا صاحب المقابر وعاشق الجثث النافقة، رائحة الموت تنعشني أكثر من رائحة الحياة. أنا إله العطب والخراب والخواء، كيف يمكنني أن امنح عهدي لملاك طيب كل حيلته الأمر بالطاعة والصلاة، مسكينٌ هذا الملاك لم يجرب الحياة والبشر، هؤلاء الذين لا يقهرهم سوى الفقر وسلطة المال، نعم سأعانق الشيطان واخلط دمي بدمه وأجعله شريكاً لي في كل ما يشاء، لأنني لا أملك سوى التشرد والنفور والكره، فليمنحني سلطانه وقدرته، ليمنحني على الأقل الحب وإقبال الناس ولو رغماً عنهم و كذباً علىّ، ليمنحني يوماً واحداً فقط أشعر فيه أنني آدمي.

هل كان الشيطان هو الذي أوحى إليه برغبته في الحياة، أم أنه فقط سمع ما في نفسه، فنزل على الفور لينزع منه قيوده ويمنحه ما يشاء كان طلبه الوحيد أن يكون شريكه من الآن في كل شيء، وألا يترك نفساً يدخل إليه أو يخرج منه دون مشاركته إياه. الآن اذهب حيث شاطئ البحر واحفر على مبعدة مترين من الماء، ستجد جوالاً به كنز دفين اخرجه وانتظر ساعة على الرمل، سيجيئك رجل يشتريه منك، بعه قطعة واحدة، اشتر بها أرضاً وابن قصراً وتزوج بنت من شئت، وتاجر في كل ما تره عينك، فسوف تربح، ولو وضعت يدك على تراب فسوف يصير ذهباً، فأنت من الآن سيد هذا الوجود، أنت القوي المانع المانح القاطع الساطع، فافعل ما شئت وأحرق ما شئت.

لم يكن في ذهن العبد اللطيف من فكرة للانتقام، كان همه الوحيد أن يكون سلطاناً على الأرض، فبنى مكان  كنزه قصراً من ثلاثة أدوار، أعلاها غرفة يتطلع منها كل غروب إلى الوجود، لكن رغبة اجتاحته ذات مساء في أن يمحو من الوجود وجه  العجوز الذي يطارده بنظرة نفوره المقيت في كل مكان. كان كلما خلا بنفسه يرى وجهاً مشرقاً يسود مرة واحدة وبلا مقدمات، ألهذا الحد أنا كريه؟ كلما أغير الجهة التي أنظر إليها أراه يسقط على الأرض من شدة النفور، هذا العجوز هو كل ما يذكرني بالماضي البغيض، هو الذي يكسر بداخلي كل ما صنعت. الناس جميعاً يرغبون في رضاي، يتذللون لي، ولا يجرؤ أحدٌ أن يرفع عيناً في وجهي، ألقبهم بأسماء الكلاب والخنازير وأركلهم  وأبصق في وجوههم، فيلهجون بالدعاء لي رغم أنني المسيء. وحده وجه هذا العجوز يخرج علىً من بين كل هذا السلطان ليذكرني كم أنا كريه، لابد أن أمحوه من الوجود، لابد أن أنسل جلده وأتركه للذباب والنمل والنتن، فلا بد أن يكون كريهاً ومنفراً ويقلب أمعاء كل من يمر عليه.

في الصباح أرسل عبد اللطيف رجاله فانتزعوا العجوز من زاويته وتركوا الناس في صلاتهم ساجدين، أقام له عاموداً أعلى من كل البيوت وخوزقه عليه، قطع لسانه وطمس عينيه ونسل جلده وعلقه ليموت من الجوع والعطش واجتماع الذباب على جسده المسلوخ، حتى إذا ما تفصدت روحه عنه جعل الرجال يجمعون القذارة ويكسحون المراحيض ويلقون عليه، وكلما أنهكهم التعب أمرهم بالمزيد، حتى أصبح العمود هرماً تعلوه بيضة من الذباب والفئران والكلاب والقطط، وما من أحد مر حتى أصابه النفور، وما من أحد شم رائحته على أطراف القرى حتى أفرغ ما بجوفه إلى الأرض. ساعتها شعر عبد اللطيف أنه تطهر من نتنه وأصبح عبيراً يمشي على الأرض، لكن ذلك لم يدم.

 

7

لمعت في ذهن المؤلف صورة فتاة صغيرة في حانة، تذكرها بوضوح، كانت فتاة شعثاء غبراء لكنها لا تخلو من جمال ما. حاول الإمساك بالصورة  بقدر ما يستطيع، نعم أعرفها، فهذه هي المرة الأولى التي جربت فيها قدرتي على وضع البشر في متوالية الأحداث بشكل خيِّر، قلت هذه الفتاة تبحث عمن ينقذها مما تعانيه، سوف أسلط عليها شعاعاً من الحب حين تلتقي عيناي بعينيها، وسوف تأتي. في البدء لن تستطيع أن تتخلص من خجلها لكنها ستجيء، وسوف تتمسح بقدمي كقطة أليفة تود ألا يزجرها أحد. سوف أمد لها يدي فتمسك بها، وسوف أسألها عن اسمها، سوف تقول " لا أعرف، فقط أنا أعمل في هذه الحانة، ولا أشعر بود تجاه أيٍ ممن حولي ".

الجميع يراها غبية مقززة، والجميع لا يود حتى أن ينظر لها، فيركلونها بأقدامهم. ترقص وتبيع المناديل و تغني، تفعل كل ما يحبه الناس ولا تنالا منهم غير الزجر هكذا. سوف تطلب مني في النهاية أن أنقذها، لن أمانع، ولن يمانعني أحد في أخذها معي، لن يسألني أي منهم إلى أين أو لماذا؟ وسوف آخذها في يدي، حيث بيتي الأنيق، فأنا الآن رجل نصف مشهور، تتناول الجرائد اسمي بأخبار صغيرة وربما حوار قصير، ينشرون صورتي على استحياء مع أسماء مؤلفين كبار، رغم أنهم لا يفوقوني موهبة أو قدرة على الخلق، فأنا الوحيد الذي لديه هذه الماكينة الجهنمية لصناعة متوالية الأحداث، هذه التي سأغذيها بصورة الفتاة، لأكتب لها تاريخاً من المجد لن تصل إليه مطربة في زمانها، ذلك الذي سيجيء بعد عشرين عاماً، فهي تتمتع بمهارة عالية وذكاء متوسط وقدر ليس ضئيلاً من الجمال، وتتمتع أيضاً بنوع من البلاهة يمكن أن يصبح سبباً في قيام مجدها ونهايتها أيضاً. سوف تحب  وسوف تكون مطمعاً لكافة أصناف الانتهازيين من البشر لأنها ستصدق كل ما يقال لها، فامرأة بهذه الموهبة والذكاء والبلاهة قادرة على خلق المجد والموت أيضاً.

لكن أين دوري أنا؟ تساءل المؤلف ابن الثلاثين عاماً وهو يجلس في الحانة المجهولة على أطراف المدينة البدينة الصاخبة، وأجاب على نفسه : سوف أجعل الماكينة تدور وتجعلني رجلاً مشهوراً تتصدر أخباره و أسماء أعماله عناوين الصحف، سأحرص أيضاً على ألا تنشر لي صورة واحدة، فمجدي يكمن فقط في رؤية مشروعي الذي أكتبه، وفي أعمالي حبيسة الأدراج وهي تتحقق كغيرها واقعاً على الأرض. مجدي يكمن في أن أرى العالم يلهج باسمي دون أن يعرفني، فقط " المؤلِّف "، هذا كل ما أريدهم أن يعرفوه عني، فالمجد أن تسمع ثناء الناس عليك دون أن يربطوا بين اسمك ووجهك.

أتساءل أيضاً ماذا عني في حياتها؟ هل يمكن أن أكتفي بدور المشاهد أو الراوي هكذا؟ أنا أيضاً أريد أحداً أشعر تجاهه بالدفء، أشعر أنه ينتظرني على العشاء، ويسهر بجانبي إذا مرضت، وينفجر غضباً مني إذا أسأت إليه، نعم أريد علاقة بها. سوف أجعل الماكينة تجعلها تحبني وتجعلني أحبها، وسوف أحميها منهم جميعاً، سوف أذهب لرؤيتها كل مساء متخفياً من هؤلاء الصحفيين الذين يحيطونها في كل مكان، فأرتمي في أحضانها وسريرها الذي سأكتب كل تفاصيله، منذ أن كان فروعاً في غابة بعيدة تناوب الحطابون قطعها بمناشيرهم الكهربائية، حتى توافر النحاتون بأزاميلهم الصغيرة ليجعلوه تحفة نادرة. سأكتب تفاصيله مثلما سأكتب تفاصيل حياتها و حياة أصدقائها التفَّه، هؤلاء الذين سيتصورونها أفضل مشاريع حياتهم، فمن أجلهم جاءت بالمال والشهرة، ومن أجلها توافدوا كالذباب عليها، سيصدمون جميعاً بمعرفة وجودي في حياتهم، وسوف يقررون التخلص مني دون أن يعلموا أني كتبت عليهم الموت والتشرد في هذه الليلة.

 

8

في الصباح كان المؤلف مستريحاً إلى هزهزات الموج المتكاسل على جسده، ليلة طويلة من الأرق لا يعرف متى بدأت ولا كيف انتهت، لكنه فتح عينيه على خيط رقيق من الشمس، ساعتها كان ما يزال يفكر في الفتاة، ثمة شيء غريب شده إليها، ربما كان أبعد من تلك السنوات التي بزغ فيها نجمه كمؤلف، بل أبعد بكثير، حيث حقول قريته ووالدته المريضة، شيء يشبه أيامه الأولى وهو يتعثر في جلبابه المخطط، شيء بعيد لكنه قريب منها. لا أذكر هل رأيتها من قبل أم أنها جزء من خيالاتي المريضة على هذا الشط، آه.. لو أنها تجيء كنت سأعرف منها كل شيء، فتاة في العشرين من عمرها، وحيدة، ولا أظنها رأت عالماً غير هذا البحر والخراب، أعرف أنها ستجيء لكنني لن أمتلك القدرة على محادثتها، لن أعرف منها شيئاً، وسوف تكرر طلبها الوحيد، ليتني كنت إلهاً أو ملاكاً أو حتى شيطاناً لأعرف ما تريد.

         كان المؤلف غارقاً في هلاوسه، بينما الشمس ترتفع قليلاً؛ قليلاً لتصبح في جوف السماء، ليس من طائر في هذا المكان. ليس من شاهد واحد هنا على الحياة، حتى الأسماك لا تجيء، ولولا بعض ما يلقي به البحر إليه من أعشابه لمات. كاد أن يطرق من جديد سؤاله المعتاد عن الموت وبحثه الدائم عنه، هذا الموت الذي يفرمنه كلما التقيا، لكنه رأى على البعد سمكة منسدلة الشعر، بينما نسمة خفيفة تجسد تضاريس جسد لدن. رآها قبل أن تنساب في الماء. ظل ينتظرها حتى ظهرت كقطرة تتأرجح على الشط، فأخذ يصيح عليها، ليس لديه اسم يناديها به، ليست لديه علامة يطلقها عليها، فتعجب من نفسه، كيف يسرع خلف شخص لا يعرفه، وكيف ينادي إنساناُ لا يعرف اسمه، لكن موجة تحركت على البعد كأنما جاءت على الفور لتلقي تحت قدميه اسماً، فقال : موج، نعم سأسميها من الآن موجاً حتى أعرف اسماً لها. 

لم يكن يعرف بالطبع أن الأسماء لا تعنيها، فليس من أحد هنا يناديها، ربما كانت أمها هي التي استعملت لها اسماً، وربما لم يكن لها اسماً على الإطلاق، فهذه الأم قد ماتت دون أن تراها، وهذا القزم العجوز لا يحادثها، فقط يضع الطعام ويأكل ثم يتركها لتأكل ما تبقى منه، فما حاجتها إذاً إلى الأسماء، ظل يفكر حتى كادت الشمس أن تسقط في البحر، فرآها تجيء، نسمة ترفرف على الماء، قالت ماذا كتبت؟ قال: اسماً.

كانت جامدة كالمساء الذي يلفهما، تبحث عن شيء ما في أقصى الأفق، لكنه كما اعتادته لا يجئ، حتى أن الذي يعرفها يعتقد أنها تبحث لأجل البحث فقط، قال : ألا تحبين الاسم؟ قالت : ما هو؟ "موج" قالها كمن يلقي حجراً خلف الشمس الغاربة، وظل وجهها بعيداً كما هو " ليكن؛ لكني أريد شيئاً عن ماضٍ لا أعرفه، عن أجدادي الذين لم أرهم، ومستقبلي الذي أخاف منه  لكنني أسير إليه، فقط أسير، وهذا كل ما أشعر به الآن ". كانت قد خطت خطوات كثيرة على الرمل تجاه بيتها المشطور، حيث سلم الفنار الذي تتسلقه لتدخل غرفتها ذات النافذة الوحيدة على البحر، تلك التي قبع فيها عبد اللطيف سنواتٍ طويلة ينتظر اخوته الذين لم يأتوا مطلقاً.

 

9

أسند عبد اللطيف رأسه إلى حائط إحدى المقابر، مدد ساقيه تجاه البحر، بينما عيناه أخذتا تغيمان ناحية السماء كأنه يبحث عن شيء خلف الغيوم، سبح بوجهه في الفضاء كله ولما أعياه التعب أستقر على البحر، هذا الذي كان مستسلماً كمن خرج من معركة مع ند قوي، جروح وآلام وتراب يملأ وجه العبد اللطيف، حروق وصمت ودموع تتهادى على مُحيّاه العجوز، قضى ليلة طويلة يناجي أبناءه و حبيبته وأهله الذين لا يعرف منهم سوى هذه الشواهد والقبور، كان يبكي في خشوع من يرجو عفواً على ذنب لم يرتكبه. خمسون عاماً والبكاء لا يفارق وجهه كل مساء، كأنما خُلِقَ النهار لارتكاب المعاصي، وخلق الليل لطلب الغفران.

وحدها رائحة الموت تبهجه وتعود به قرداً يتقافز بين الحقول، ووحدها رائحة الخراب ترده إلى الحياة، ووحدها الجثث الميتة تجعل الدفء يتسرب إلى أعضائه. خمسون عاماً لا يعرف لذة الحب إلا في أحضانها. حين يراها يشعر أنه جواد جامح، فلا يملك سوى أن ينهال عليها مخصّباً الوجود، يفك قماطها الأبيض ويفتح عينيه مشدوهاً كمن عثر على كنز يفوق أحلامه، فيبدأ من منبت الشعر تقبيلاً حتى مكمن الحياة، ثم يدغدغ أعضاءها ويذيب العظام، وخفيفا‌ً  خفيفاً يقترب، ورويداً رويداً يداعب الحياة بداخلها حتى تستجيب. لكنه المحنك الأريب لا يرتمي في أحضانها كحيوان يبحث عن إفراغ غريزته، ولا يتكاسل كخنزير يُفقِدُ الحبيبة لحظة عشقها، فعلى مهل ينضج سياط الرغبة في جسمها، حتى إذا فتحت الأرض أبوابها وبكت بين يديه استجمع التاريخ والعشق والجدود والصمت وقذف بكل ما يملك في جوفها. حينئذ يكون قد أتم للأرض دينها، فيلملم كنزه ويغلق عليه بحنان شديد منشداً ترنيمته الأثيرة :

أنا حارس القبور

وسيد أعضائها

أنا الفناء والحياة والنفور

وظل الشيــطان الآبق

على هذه الأرض

ولا حياة لي

بغير هذه الجثث

لا حياة لي بغير هذا الموت

لا يكفى أن يبكى بالساعات لاطماً خديه وضارباً رأسه في جدران المقابر، لا يكفى أن يمزق ملابسه باصقاً على نفسه وباحثاً عن خلاص يكفر عن خطيئته التي لا يعلم مداها سواه، وحين لا يجيء هذا الخلاص يدرك أنه ليس إلا شيطاناً ميتاً في جسد يتحرك، فيغالب صوته الحي بداخله بقهقهةٍ تهشم سكون الليل، ورقصٍ دائب يهد الأعضاء حتى يخر مغشياً عليه.

 

10

لا أحد يعرف من أين أتى الشيطان. هل كان فكرة نشأت في ذهن مؤلِّف فتحقق ما يراه، أم أنه موجود من قبل وجود المؤلف ذاته، وظل كامناً بلا معنى حتى أتى الأخير فنفخ فيه الحياة؟ أنا نفسي لا أعرف، وكل ما أدركه جيداً أنني أنفذ دوري المرسوم بعناية فائقة، فهذه أمور تصعب على، بل أنني سأكون صريحاً؛ فأقول أنها أكبر مما أحتمل ولا شأن لي بذلك. لم أسأل نفسي مرة من الأفضل فينا، أنا أم المؤلف، ربما كان هذا التساؤل مثيراً لبعض الحمقى، لكنه بالنسبة لي لا يعني شيئاً على الإطلاق، فلولا ما كتبه ما كنت سأشعر بوجودي، ولولاي ما خرجت كتابته إلى الوجود، وما كان أبطاله الخاطئين، ولعناتهم التي تطاردهم دائماً. لو أنني كنت صاحب الفعل ومطلق الحرية لادعيت أنني الأفضل، وما كنت سأرى داع لوجوده، لأنني ساعتها كنت سأكون المؤلف والشيطان معاً. لكنني ـ وللأسف الشديد ـ لا فضل لي في شيء، فكل ما لدي من خطط  هي محض سطور أقرأها وأنفذها كما كتبت بالضبط، ولا يمكنني -ولو لمرة واحدة - أن أخون ما كتبه في أوراقه.

كان الشيطان يصارح نفسه وكأنه اكتشف الحقيقة اليوم، رغم أنه لا يمل من تكرارها كلما خلا إلى نفسه، وكلما شعر بالخوف من اليوم الذي سيلتقيان فيه، ويحاسبه على كل شيء. إنه الآن يشعر بقوةٍ أن هذا اليوم أصبح وشيكاً ولا بد أنهما سيتحاسبان، فمنذ تناول الرواية الصغيرة من درج مكتبه القديم وأخذ يفك طلاسمه ويبحث عن الشخوص الذين يصلحون لتنفيذها وهو ينتظر هذا اللقاء. يوماً ما سيجيء و يسألني عما فعلت وعما لم أفعل، يوماً ما سأسرد عليه ما قرأته وما فعلته بالضبط، وأنتظر منه العقاب أو الثناء. كنت أقول دائماً لنفسي أن هذا اليوم مازال بعيداً لكنني موقن أنه قريب، ويبدو أنه أصبح أقرب مما أظن.

استدار الشيطان ونظر إلى البحر وكأنه يبحث عن شيء ما على ضفة غير موجودة، أو كأنه عائد من زمن مجهول ليحدق في قوس قزح المنحني - في هذه اللحظة - أسفل بطن السماء، لكنه لا يراه بقدر ما يرى حياةً طويلة تمر أمامه، حين انتبه تمتم لنفسه " وها قد جاء "، لم يكن ذلك يدور بخلدي يوم حملته من أسفل شرفة المغنية، كان قد فقد الوعي وكانت المساقة بين الأرض وجسده لا تزيد عن بضع سنتي مترات، ساعتها كنت مشغولاً بالبحث عن مليكي الأبيض الذي اختفى في الرمل، ما كان لي أن أجيء لأختلي بنفسي أمام رقعتي المنعزلة على شمال العالم، ما كان لي أن أجيء فقد كان مكتوباً لي أن أظل مرابطاً حتى يظهر في الشرفة فأحمله على كتفي ليرى عالمه الذي كتبه بيديه، وأشرفت على إخراجه بنفسي. كنت أظنه سيكون سعيداً، لكنني أراه مكتئباً دائم البحث على الشط المهجور، تائهاً، يرقب عبدي اللطيف تارة ليعد عليه أنفاسه وحركاته وسكناته وأحلامه المزعجة وبكائه الذي لا ينقطع، وتارة يرقب الفتاة ويقف أمامها مشدوهاً يتأمل كل شعرة فيها، كأنه لم يخلقها بذهنه ويديه، وكأن كل هذا العالم جديد عليه.

كنت أرقبه عن بعد طيلة أيامه السالفة، كنت أراه يعانق الفضاء فرحاً ويرفرف بجناحيه كطائر كلما تحققت له رواية على الأرض، كنت أشعر أنه يود أن يعانق الشياطين كلها في لحظته هذه. لكنه الآن يبدو غريباً،بارداًًً، غير فرح ولا غاضب، غير سعيد ولا حزين، غير مبالٍ على الإطلاق رغم أن هذه أولى رواياته وأكثرها بؤساً. علىّ الآن أن أذهب لأخبره بأنني المهندس الذي سهر الليالي الطويلة ليحيلها إلى عالم من لحم ودم، فربما كانت مكافأتي رواية جديدة أكثر تعقيداً، أوـ على أقل تقدير ـ ربما منحني تتمة هذه الرواية لأكمل مسيرة عبدي اللطيف وما سيلقاه من شقاء مبهج في هذه الحياة.

 

11

سكت عبد اللطيف وأشاح بوجهه عن الحَوَل الذي يجعل عيني ابنه البكر متخاصمتان دائماً، أشاح عن الوجود كله، وأخذ يحدق في زبد البحر المنسال أمام عينيه. كان وجه الشيخ العجوز ما يزال يتقافز فيهما، نفس الوجه الممتعض المشمئز، نفس الخرس الذي أصاب زوجته، ونفس الريح التي تصفر في عظامه وهو في حِجر العجوز الذي يهرع به إلى راعي السحت في تلك الليلة السوداء من شهر أمشير اللعين. كانت الكلمات التي ألقاها ابنه المعتوه مازالت ترن في قاعه المظلم السحيق " من أقاربنا؟ ومن والدك؟ ومالذي يعنونه بأنك ابن زرع شيطاني؟ وهل لنا جدود؟ كان الغلام يتحدث وكأنه حامل رسالة لا يهمه معرفة معناها بقدر ما يهمه تبليغها بالضبط، كان يتحدث والبحر يهيج أمام عبد اللطيف مردداً السؤال وكأنه صدى كلما انتهي يبدأ في ترديده من جديد، وكان وجه العجوز يضحك بملء شدقيه، كلما استدار عنه يراه يغرغر ضاحكاً.

لم يكن الغلام ينتظر الإجابة فقد فر هارباً بمجرد أن ألقى برسالته، ولو شئنا الدقة لقلنا أنه نسى أصلاً ما قاله، لكن عبد اللطيف لم ينس، وظل طيلة اليوم يتأمل وجوه أبنائه ويشرد إلى البحر، حتى أسفرت الشمس عن وجهها الغاضب وشوت الوجوه كلها بفحيح مكتوم، فحمل عباءته واتجه إلى تكعيبة العنب، تلك التي تغطي عدة قراريط أمام البيت وثلة من الرجال يعملون في دأب لينتهوا من تحميل العربات التي تتوافد على هيئة قوافل كل ساعة. توجه إلى كرسيه المنتصب أمام فرع من النهر حفره الرجال خصيصاً منذ سنوات ليمر أسفل قدميه وهو جالس. لم ينهر أحداً كما أعتاد أو اعتادوا هم، لم يصفع أياً من الخدم آمراً إياه بإشعال النار في طرف الشجرة الممدة على الأرض؛ ليجهز له الشاي، لكنه ارتمى على عرشه المفروش بفرو دب أُحضِرَ لأجله من إحدى دول الجليد، وضرب يده في جيب صديريته في بطء من يفكر في شيء أعظم من أن ينتبه فيه إلى صغائر الأمور؛ فأخرج علبة مذهبةً بحجم اليد محفور عليها جواد جامح إلى مجهول بعيد.

كان صوت العجوز ما يزال يتردد بضحكاته المتزايدة، وكان السؤال ما يزال يرن في أذنيه كصدى يتردد بين جدران جبال من نحاس لا يراها، فأشعل سيجارته وألقى بعود الثقاب إلى النار فرأى وجه العجوز أنصع ما يكون " هذا العجوز قتلته أبشع قتلة لكنه صار أكثر حياة مما أظن، فكيف أقتله من جديد؟ " قهقه العجوز بصوته الذي أصبح أكثر خواءً ووحشة، فلم يملك عبد اللطيف سوى البصاق في النار، وولى صارخاً ينادى على السائق ليحضر العربة الفارهة أمام القصر في الحال، نهره بأكثر مما اعتاد وارتمى على الكرسي الخلفي ليذهبا إلى جهة لا يعلمها أحد.

حين عاد كانت ثمة عربات كثيرة تتبعه، وثمة أناس كثيرون يحملون خرائط ومعدات وطوب وحديد وأشياء لا حصر لها، وكان يتقافز أمامهم كقرد منتش بشعره الكثيف وانحناء ظهره للأمام كرسالة تكاد أن تطوي، ولم يهدأ إلا برحيل الجميع مخلفين وراءهم مدينة من القباب تتخللها شوارع وميادين، تعلوها شواهد من رخام عليها مئات من الأسماء، بينما في الوسط - في الوسط تماماً- انتصبت مئذنة أسفلها مسجد على عدة قراريط، وله قبة شغلت بالفسيفساء والقرميد، أسفلها ضريح تحيطه حوائط من الأرابسك، وأمامه شاهد من الذهب الخالص محفور عليه:

هنا ينام شهيد غزوة أحد

الصحابي الجليل"أبو دجانة"

 

12

ثمة محقق كان يقف حائراً على مبعدة عدة أميال من هذا البحر، حيث المدينة بضجيجها المتواصل وحركتها الدائبة، وجريمة القتل التي وقفت كل أجهزة الأعلام تطالبه بسرعة القبض على مرتكبها. كانت القتيلة سيدةً في الأربعين من عمرها تتمتع بثراء وقبول وشهرة لم يشهدها أحد من قبل. حين ذهبت أجهزة الشرطة إلى بيتها الكائن وسط المدينة، والمحاط بسور يشبه أسوار القلاع القديمة ذات الأحجار البارزة، وجدوها على سريرها ذي الرياش الناعم غارقة في دمها، وثمة خنجر طويل كأنه من العصور الوسطى قد غرز بين نهديها ليثبتها في سريرها إلى الأبد. لم يكن هناك ما يدل على صراع أو حتى مقاومة، لم تكن النوافذ ولا الستائر مفتوحة، ولم تكن هناك بصمات على الخنجر أو أي من المقاعد. كل الشهود من الخدم والمصورين والصحفيين المقيمين بحجرات سفلية في المنزل أقروا بإلحاح كاتبٍ معروفٍ بقصصه الكئيبة في الدخول عليها، ولكنهم لم يسمحوا له، ولم ينتبهوا لغيابه عنهم إلا بعدما حدث ما حدث، فقد صعدت الخادمة لتوقظها وتخبرها بمواعيدها التالية، فرأت السيدة مثبتة في رياش سريرها بهذا الخنجر الطويل.

الكل أجمع على غرابة أطوار المؤلف وإلحاحه الشديد على رؤيتها، ومن ثم لم يكن في أيدينا سوى أن نأمر بالقبض عليه لكننا لم نعثر له على أثر، فتشنا منزله دون جدوى، بحثنا عن ذويه وأقاربه دون جدوى، لكن الأمر الأكثر إدهاشاً أننا لم نعرف له زوجة ولا ابناً ولا حتى أقارب على الإطلاق، كأنه وحيد منذ بدئه وحتى منتهاه، ولا دلائل عندي على غير ذلك، أما اختفاؤه فهو شيء غريب يتسق مع غرابته هو، وغرابة قصصه أيضاً، بل الأكثر إدهاشاً أننا لم نعثر على صورة له رغم ماله من شهرة ذائعة الصيت، ومعرفة كل الناس بتوقيعه " المؤلف " هكذا دون اسم واضح يدل عليه، حين سألنا الناشر الذي توافر على إصدار أعماله منذ سنوات طويلة قال " كانت تأتيني بالمراسلة وكنت أبعث بحقوقه ـ بناء على طلبه ـ على عنوانه الذي كان يدلنا عليه، ولم نتقابل مطلقاً، لم يكن بيننا سوى المراسلة ". أما الصحفيون فقد أدلى أغلبهم بأنه كان منعزلاً لا يفضل الحوارات ولا توجد لديهم صورة له، لأنه كان دائم التنكر ويكره التصوير، والمدهش أيضاً أنه لم يكن له منزل أو عنوان معروف لديهم، وجميعهم ـ بالإجماع ـ أنكر أن يقتل سيدة كهذه وبلا سبب واضح، بل رفضوا إمكانيته على القتل من الأصل.

أشعر أنني أمام لغز غامض وليس جريمة قتل، وكل ما يشغلني الآن معرفة من هذا المؤلف؟ وكيف استطاع قتلها؟ وكيف يمكن الوصول إليه؟

 

13

تحدث أيها البحر، تحدث، لماذا أنت صامت هكذا؟ لا حياة فيك ولا صخب، لا طيور ولا أسماك، لا شيء سوى هذه الأعشاب وتلك القواقع التي فارقتها الأرواح منذ زمن بعيد، منذ ذلك الزمن وأنا أشعر أنني وحيد ومنعزل أمام شط لا حدود له، وليس أمامي سوى جبل من الموج يتدحرج ناحيتي دائماً، وكأنه مبعوث العناية لقتلي، لكن ذلك لا يحدث أبداً. أنزل إليه لكنه لا يجيء، أضرب بساعدي الماء قاطعاً المسافات من أجله ولا يجيء، أصرخ فيه بكل ما أمتلك من قوة ولا يجيء، فكم سأنتظر من السنوات حتى يأتي هذا الموت، أم أنني الوحيد الذي لا موت له؟ لو أنني أذكر الكثير عن حياتي السالفة لعرفت هل أنا ميت عاد إلى الحياة أم حي يرجو مجيء الموت؟ لكنني لا أذكر سوى أشياء تبدو كحلم يتكشف بعضه ويختفي منه الكثير، محض رموز تتراءى من البعيد وعلىّ أن أعصر نفسي كي أخمن مدلولاتها التافهة، ورغم ذلك لا أشعر أنني غريب عنها ولا عن البحر أو الخراب أوالفتاة أو حتى هذه القباب. أشعر أنني الذي بنيت هذه المنارة الشامخة وسط الفراغ، وأحضرت أحجارها من بطون الجبال، وفي ثورة غضب مني شطرت ما كان ملحقاً بها من أبنية وبشر وحيوانات، وقتلت البحر الصاخب مثلما قتلت الحياة بداخلي. أشعر أنني المسئول عن كل هذا الوجود وما يتراءى فيه من رموز وكوابيس، مثلما أشعر أن كل ذرة من ترابه وهوائه وحصاه خرجت من ذهني، حيث هذا القابع داخلي يتفكر في الكائنات فيصورها، ويكتبها فتصير حياة تدب على أرض. أشعر أيضاً أنني مطارد، وثمة من يرغب في الوصول إلىّ، ثمة من يهفو لأن يرى ملمح وجهي،هذا الذي لا أعرف ملامحه أنا؛ فكيف يحلمون بذلك؟

كان المؤلف يصرخ في الموج الميت، وكلما أشتعل الغضب في رأسه ثار الموج حتى أصبح جبالاً تتخابط، بينما الريح تصفر من بعيد لتحمل إلى الشط طاحونة من الغبار والسديم , كان يصرخ والموج يشتعل , يصرخ والغبار يعلو كعمودٍ يسابق نفسه إلى السماء، يسابق شخصاً يصعد الفنار القديم، حتى أظلمت الدنيا واحتجبت الشمس من الوجود، وثمة شبح كان يتراقص على قرصها الحمر كعين الفتاة الرمداء، شبح أخذ يشق كل هذا الغبار والسديم ليصل إلى الأرض في غمضة عين، مهشماً كل أرقام السنين الضوئية ليستقر تحت أقدام المؤلف.

ـ عم مساءً يا سيدي!

قالها الشيطان في نبرة عبد اللطيف متحدِّثاً إلى سيد فوض له الأمر في تصريف شؤون ملكه. لم يكن المؤلف منتبهاً إلى وجوده، فأخذ يحدق في الماء حتى هدأ الموج وسكن الغبار ونامت الريح، كان لون الماء حين استقر مشبعاً بحمرة تشبه الدم فشعر المؤلف بدهشة

ـ من أنت.

ـ إنني خادمك الأمين.

شرد بذهنه فيما يتذكر من حياته، ليس هناك ما يدل على أنه كان سيداً في وقت ما، أو أنه كان صاحب خدم وعبيد. ربما أخطأ الرجل وكان يبغي ذلك القرد المتقافز بين القباب. ود لو يقول له إنه ليس من يبغيه، وإنه أكثر البشر غربة على هذا المكان. ود لو يسأله عن الفتاة واسمها، وعن الناس والحياة، لكن الواقف في خشوع قال :

ـ ألا تذكرني؟ 

ـ ليس بالضبط.

خرجت منه هكذا فجأة، وكأنه يعرف الرجل منذ سنين، فثمة شيء بداخله يجعله مألوفاًَ لديه، تماماً كالبحر والقرد والفتاة. شيء يجعله غير قادر على رفضه أو حتى قبوله. لو أنني أستطيع أن أتذكر قسطاً أكبر من حياتي السابقة ربما عثرت عليه فيها، فثمة ما يجعله قريباً مني  مثلهم.

ـ أنا خادمك الذي حملك إلى هنا، حيث مملكتك التي رغبت في رؤيتها والعيش فيها؛ ألا تتذكرني؟ 

كانت كلمات الشيطان غريبة على المؤلف، لا يذكر شيئاً منها، فلا بد أنه أخطأ بالتأكيد في الشخص الذي يريده، هكذا أجزم المؤلف، لكنه عاد فشكك في يقينه هذا، ربما كان الرجل على صواب وأنا المعني بكلماته هذه، فجاهد نفسه من جديد، تأمل البحر ونظر إلى السماء، ساح بأقدامه على الأرض؛ لكنه لم يتذكر شيئاً. وحدها كلمات الشيطان كانت تتردد في أذنيه كالموج الهادر، وما تلبث أن تتلاشى لتبدأ في التجمع من جديد، كان يرغب في الرفض وإعلان الحقيقة "لست الرجل الذي تقصده" لكن الآخر لم ينتظر جوابه، فثمة يقين كان يؤكد لديه أن هذا الهياج الذي حدث في الكون ليس إلا غضب شديد عليه. تفكَّر فيما أغضبه، لقد جاء بمجر رؤية الإشارة ولم يتأخر قيد لحظة، فمنذ أدرك أن يوم الحساب قد حان وهو يرقب الأفق منتظراً هذه الإشارة، حتى أنه ذهب ناحية الشمس لينزل منها فتكون خلفية حمراء لأجنحته التي نشرها في مهابة إله ثم خفضها أمامه بانكسار عبد ذليل.

كان المؤلف قد قطع مسافةً على الشط فلمع في ذهن الشيطان الشيء الذي أغضبه، نعم؛ هذه هي المرة الوحيدة التي أخطأت فيها، المرة الوحيدة التي لم أنفذ فيها المكتوب بالضبط، تخيلت أن ثمة وقتٍ يمكنني أن أبتهج فيه بفعلي الذي أنجزته على أكمل وجه، وبنفس الطريقة التي كتبتها. فحين دخلت على الممثلة الشهيرة كانت قد خلعت ملابسها أمام مرآتها المذهبة، أخذت أداعبها كحبيب يدغدغ عنق معشوقته، وكانت منسابة في يدي تماماً كأن رغبة مكبوتة لديها قد بدأت تتحقق، فأخذت تتأمل أعضاءها بزهو كأنها لم ترها من قبل، حتى إذا ما بلغت نشوتها بأعضائها حداً غيَّبها عن الوجود كله،  دفعتها كالمنوَّمة إلى السرير، طرحتها على فراشها الأملس، مسدتها بأناملي وأشعلت نيران جسدي في مسامها، حتى وهبت نفسها لي راضية فاستللت خنجري العتيق ووضعته بين نهديها ببراعة جراح  يحرص على ألا يشعر  مريضته بالألم. ساعتها شعرت أنني أنجزت آخر الأعمال الموكولة لي بعيداً عن عبدي اللطيف. لم يعد - فقط - سوى أن أحمل سيدي المؤلف إلى مملكته التي أخرجتها للنور كما تصورها بالضبط. حين خرجت من غرفتها رأيتهم يمنعونه من الدخول، فتصورت أن لدي بعضاً من الوقت يسمح لأن أعود إلى رقعة شطرنجي، فأهيئ القطع لدور جديد، أين ذهبت..؟ أعترف أنني شغلت قليلاً، فثمة بيدقٍ كان مفقوداً، وكان على أن أجده حيث كان مدفوناً في الرمل أسفل قدمي.

لو كان قد كتب شيئاً عن سرعة معرفتي لمكانه ما كنت تأخرت، وما كادت أضلعه أن ترتطم بالأرض. كانت المسافة بينه وبينها لا تزيد عن عدة سنتيمترات، وكان مستسلماً تماماً كأنه يرمي نفسه بكل ما يملك من رضاً في أحضان الموت،  فانقضضت لأصنع مني بساطاً سحرياً يحمله إلى عالمه الأثير، حيث مدينة الخراب، وحيث القبة التي حددها؛ ليكون عبدي اللطيف أول ما تقع عليه عينه. أعرف أنه غاضب من تأخري، وأنه كان يجب على أن أرتد بأسرع ما يمكن لأرقب النافذة التي سيلقي منها بجسده الضئيل.

 

14

مال عبد اللطيف بجسده وتقيأ حفنة من التراب والحصى، فالأمس كان يوماً عصيباً، حين رأى البحر يكر على الشط والعاصفة تشتعل في كل مكان على هيئة دوار يربط السماء بالأرض، أيقن أنه يوم القيامة. هرع من بين الشواهد والقبور ناحية الفنار، كان يعدو كجرو رأى سيده على البعد في مأزق لا يخرج منه إلا بمساعدته. لم يشغله في تلك اللحظة سوى الفتاة، تلك التي كانت تمشط شعرها أمام البحر في النافذة. كانت أقدامه تدحرج الأحجار والدرجات والعاصفة، لم يطرق الباب، ولم ينادها أو يبكي كما اعتاد أمامه، فقط ركله بقوة صخرة سقطت من السماء عليه، لم يدر من أين جاءته كل هذه القوة، كانت ساكنة ترنو إلى البحر وهياجه العظيم. لم تلتفت لانهيار الباب خلفها، وربما ما عادت تلتفت لشيء قط، فلا مكان للخوف لدى الموتى، لكن احتضانه الذي هشم عظامها جعلها تشعر فجأة أن شيئاً جديداً في حياتها قد تغير، ربما كان الإحساس بأن ثمة من يخاف عليها قد بزغ إلى الوجود الآن، فارتاحت إلى ذلك قليلاً، وارتسمت على وجهها ظلال ابتسامة واهنة، ابتسامة وليدة لم تعرفها من قبل، ابتسامة أخذت تصَّعدُ في أعماقها حتى ضوّأت عينيها. كان وجهها بهياً في تلك اللحظة أكثر مما كانت عليه أمها، بهاءً جمع ألق البحر ولألأة قناديل الفنار في لحظة انتظار مجيء الأهل والإخوان، فشعر العبد اللطيف أن أبواب السماء فتحت له ليعلو ويرقى من جديد، وأن انتصاره على صديقه اللدود وشيك.

كان شعرها المنسدل خلفها يجسد ملكوتاً تمنى لو يدخله في تلك اللحظة، فضمها إليه برفق لم يصنعه مع أي من جثثه الأثيرة أو عظامها النخرة، ضمها وغاب عن الوجود لحظةً نسى فيها الأهل والأبناء والشيطان، نسى آلامه وحزنه وبكائه كل ليلة بين القبور، نسى وجه الشيخ العجوز وتفاصيل العظام وجريمة ابنته الملعونة التي خدعته تاركة له طفلة منه ثم فرت إلى الموت، لحظة غفر فيها للجميع ورفرف الملاك الطيب على رأسه من جديد. وتراءى أمامه البحر حياً يلعب موجه مع الطير والأسماك والسفن لعبة الأحضان والتقبيل، وحدها الفتاة كانت سماؤه وأرضه وكل وجوده في تلك اللحظة، وحدها مارست معه الحب كما لو كانت تكافئ المؤلف ذاته لأنه وهبها هذه اللحظة من الحياة.

حين انتهيا كان سعيداً وكل ما فيه يضج بالفرح، وكانت خجلة كزوجة في ليلة عرسها، ضحك أمامها فضحكت، رفع رأسه إلى السماء فرفعت رأسها، رقص فرقصت معه، لم يكن يتخيل أنه سيملأ الملكوت رقصاً وضحكاً هكذا. دار حول نفسه زارعاً الفراغ تقافزاً، وحبات الرمل تتناثر خلفه رقصاً. دار حول المقابر، ودلف إلى الجامع، صعد المنبر وخطب في الناس حتى كلت أقدامه من التعب وانتهى الكلام من حنجرته، فشعر أن الناس انفضوا وعادوا إلى قبورهم من جديد، ساعتها تململت أعضاؤه فأخذ يشدها عائداً للخراب، حيث قبته الأثيرة، وحيث ابنته التي خرج بها من شراكة الدم اللعين. ابنته التي لا وجود لها الآن إلا بين جدران هذه المقبرة وأحضان هذا الكفن الحرير، حفنة من رميم مفاصل وضلوع وهيكل طحنته ريح الجماع العاتية في لحظات استنشاق الحياة وطلب الوجود. ابنته التي لم تترك له سوى تحفةٍ بلهاء لم تنج من لعنة الشيطان أيضاً، ومثلما ماتت أمها كارهة له عاشت هي لتجسد له نظرة الكره والنفور التي تطارده مدى السنين، عاشت لتذكِّره بلعنته الأبدية وخروجه الدائم على كل مقدس وجميل.

كانت الذكريات قد بدأت تتوافد على ذهنه في نعومة الكفن الذي بين يديه، تتسلل قليلاً قليلاً إلى رأسه المخدر من التعب وجسده الذي تفرط على الأرض، فركن إلى حائط المقبرة وأسلم نفسه إلى صديقه البحر ليتذكر ابنته التي ماتت بين يديه، تاركة طفلتها التي أصبحت الآن فتاة يانعة قد  تحمل بالولد الذي سيعيده للوجود وينصره على غريمه الملعون. تذكر حين رأى وجه الطفلة وهى كتلة لحم معجونة بالدم، كان قد شعر أن انتصاره قد تحقق وها قد أنجب ولداً سوف ينجب أطفالاً لا يحملون ميراث الكره والنفور، أطفالاً لا شركاء فيهم. شعر ساعتها أن الملاك يرفرف قريباً منه، يباركه ويصلي من أجله، وأنه ليس كريهاً، وليس ثمة من ينظر إليه من خلف الأفق مشمئزاً من رائحته النتنة، فأخذ يضحك ويرقص ويزرع الوجود فرحاً، ويخطب في قوم ولوا منذ زمن بعيد، يطالبهم بالنظر إليه وإلى انتصاره العظيم، وإنجابه طفلاً لا يعرف لعنة المسخ، طفلاً لا يشاركه فيه سوى الله الرحيم، طفلاً سيبدأ به عمار هذه الأرض من جديد.

كانت فرحته بلا حدود، فظل طيلة الليل يدور حول الفنار مخاطبا البحر وصارخاً في الشيطان وأبناؤه الموتى وخدمه الذين فروا واخوته الذين انتظرهم كثير ولم يجيئوا، حتى إذا ما ولى الليل وغار القمر في خيط الفجر الكاذب سمع صرخة تتدلى من غرفة الفنار، كانت صرخة الخلاص التي أطلقتها ابنته، هذه التي لم ينج غيرها من الصاعقة التي قضت على كل شيء، وبالأحرى لم يترك له شريكه اللعين سواها لتحمل بذرة البقاء التي بداخله، فجامعها عنوة ليطفئ لظى البحر الهائج، حتى حملت بمن سيجعله ينتصر على الخراب الذي يملأ حياته ويفيض على الأرض. حين وصل إليها كان وجهها ملطخاً بالدم والعرق من كل جانب، تذكر أنه في غمرة فرحه تركها تنزف تائهاً برقصه على الوجود كله، رأى المولود منكفئاً يرضع ثديها، ورأى حبله السري مقطوعاً وثمة قماط يلفه، فعلم كم جاهدت طيلة الليل لتبقي له على ابنه حياً. مال عليها ليخفف عنها التعب ويمسح عن وجهها الدم، مال ليسألها الغفران عن القسوة والعنف وإكراهها على الذنب، مال ليجدها تركت له طفلة وليس طفلاً، وأن عليه أن يبدأ الدورة من جديد فلابد أن تنجب هذه الطفلة ولداً يمحو هذا الخراب ويكتب على الشواهد أسماءها.

 

15

قال الراوي يا سادة يا كرام

ظل المؤلف لا يعرف شيئاً عن العالم الذي وجد نفسه فيه، ولا حتى ذلك الذي أتى منه؛ اللهم إلا تلك اللحظات التي يغفو فيها فيرى صور أناس كان يعرفهم عن ظهر قلب؛ لكنه ما أن يفتح عينيه حتى يتلاشى كل شيء، فضجر من نفسه ومن العالم حوله وشعر أنه لا حيلة له تجاه كل ما يرى. تمشى على الشط، وانحنى بجذعه على الماء، التقط محارة فارغة وأخذ يخطط بها وجه الرمل. شعر أنه في زمن ما كان يعرف الكتابة، وما من شيء تصوره إلا كتبه، وما من شيء كتبه إلا رآه واقعاً يمشي على الأرض. " هل يمكن أن أكون المسئول عما يحدث هنا؟ هل قمت بكتابته في زمن ما، وجاء الوقت لأشهد ما كتبته بيديّ؟ لكن متى؟ !

توقف أمام السؤال فجأة وكأن ما دار في رأسه كان مفاجئاً له " من أين لي بكل هذا اليقين، وأنى لي الاستسلام لهذه الأفكار إذا كنت لا أعرف شيئاً حتى عن نفسي، وكيف أكتب وأنا لا أعرف شكل الحروف الآن؟ وهل يمكن أن أكون المسئول عن كل هذا الخراب حقاً، ولا أستطيع أن أغير منه أو أشارك فيه؟ آهٍ.. أنهكتني الأسئلة والخيالات، أنهكني يقيني المفزع وذهني الخالي من دليل واحد على شيء واحد مما يساورني. 

ألقى بجسده على الرمل وأخذ يبحث في الغيم المتكاثف على رأسه عن مخرج من متاهة الأسئلة. رأى على البعد ظلاً على هيئة قرد متقافز خلف الحجب فندَّت من صدره آهة مستغيثة " تعال. تعال، لماذا أنت واقف هناك؟ أريدك أن تأتي، أريد أحداً، أي أحد مهما يكن، ليس مهماً ما الذي سيقوله، ليس مهماً أن يقول شيئاً على الإطلاق، أريده فقط أن يسمع أو يغضب أو يرقص، أريده أن يقاسمني هذه الوحدة وهذا الخراب، فانزل الآن؛ انزل ".

كانت لهجته القاطعة؛ لا تترك مجالاً للتفكير أو التراجع، وكأنه مدرب منذ خلق على إعطاء الأوامر وعلى الآخرين التنفيذ بأقصى ما لديهم من سرعة، هذه السرعة التي أنقض بها القابع خلف الغيم إلى الشط ليقف في خشوع تام. تأمله المؤلف في هدوء من استعاد ملكَةً كانت مفقودة منه، تلك الملكة التي يستطيع من خلالها السيطرة على كل شيء، ولو كان شبحاً على هيئة قرد يتقافز خلف الحجب في السماء، على كل شيء ولو كان تافهاً كهذا  الغريب الواقف أمامه الآن في مسكنةٍ شديدة لا يعرف مصدرها للآن، فذلك ليس مهماً لأنه أصبح معتاداً على كل ما هو غريب. وهل هناك غرابة أكثر من أن يصرخ في ظل الشبح الذي نسجه من مخيلته وأبخرة الغيم في الأفق ليصبح كائناً من لحم ودم يقف خلفه في خشوع منتظراً أوامره. ما المانع الآن أن يحادثه، ربما يعرف شيئاً ولو ضئيلاً عن هذا التيه، ربما يعيدني إلى الحياة من جديد، فالوحدة والصمت وعدم الفهم واليقين سوف يقتلونني هنا.

كان الشيطان قد تململ في خشوعه أسفل الشمس المشتعلة نيرانها على الرمل، فقرر أن يبدأ هو لينجز ما يريده سيده بأسرع ما يمكن فقال :

ـ سيدي.. الآن أصبح لي شعور بالزمن، أصبحت لي قدرة على الفعل، فمنذ كتبت على ألا أتحرك من مكمني وأنا قابع فيه، أنظر إلى رقعة الشطرنج الجامدة أمامي ولا أستطيع تحريكها، أنظر إلى عبدي اللطيف ولا أستطيع حصاره أو دفعه للمزيد، فقط أشاهد كل ما يحدث ولا أنقل قدمي عن الموطئ الذي حددته لها، فمرني الآن يا سيدي.

شعر المؤلف أن هذا الواقف ذليلٌ كالبحر الذي خلفه، يرتعد منه، بل أيقن أنه صاحب سلطة عليه " فها هو يناديني بسيدي، ويقول مرني ويحب لعبة الشطرنج مثلي"، تمتم في نفسه " إذاً فقد حانت الأمور أن تفسح لخيط أبيض بالظهور "، فهدأ من توتره وعزم على ألا يدرك الواقف خلفه أنه لا يعرفه، ولابد أن يظل على موقف الخادم الذليل هكذا، فقال :

ـ أريدك أن تعيد على مسامعي كل ما حدث في هذا المكان قبلما أجيء.

بوغت الشيطان بهذا الطلب الصادر من المؤلف نفسه، فما حاجته بأن أعيد على مسامعه كل ما كتبه ويراه الآن بعينيه كما تمنى وأعدّ؟ لكنه لم يستطع أن يبوح بسؤال قد يعيده إلى موقف الموات من جديد. فأخذ يسرد عن العالم منذ بدء حربه مع الملاك على عبده اللطيف، هذا الذي وجداه في ليلة مظلمة حين كانا صديقين يقطعان الأرض والسماء نقاشاً مع بعضهما بعضاً. كان دائماً الأذكى والأكثر قدرة على الحيلة والمغامرة، لكن صديقه كان الأقوى بما يكفي لإجباره على ما يريد. قلت له : " هل ترى ذلك الطفل المسكين الملقى في هذه الخرابة؟ لا أظن أن لهذا البائس من مستقبل ـ على أعلى تقدير بالطبع ـ غير أن يرعى بعض الشياه لراع جشع بخيل، يجلس وأبناؤه ليقتلوا القمل على أجسادهم طيلة اليوم، ويمشي هو طيلة النهار خلف الغنم، حتى إذا ما جاء المساء ناموا في فرشهم وتركوه للعراء، ولن يكون له من مأوى غير أجساد الغنم وبولها النتن الذي يغسل وجهه كل صباح. إنني  أستطيع أن أمنحه السلطة والجاه والأبناء وكل ما يريد على أن يكون عبداً لي، أشاركه في كل شيء، حتى النفس الذي يدخل ويخرج منه ". هنالك تملكت الملاك الغيرة والغضب فقال: " إذا كان حديثك صحيح فلننتظر حتى يتحقق ونرى كيف ستنجز عهدك؟" حينها شعرت بشيء من الضغينة تجاه الملاك الهازئ بقدرتي، وكدت أن أقول أنني وقعت على رواية ملقاة في أحد أدراج مكتب قديم في بناية مهملة آوي إليها كل مساء، وأنها في مشاهدها الأولى تقص موقفنا هذا، وتذكر بالضبط هيئة هذا الطفل وما يمكن أن يفعله كلانا تجاهه، كدت أن أقول له ـ لولا عدم معرفتي بالنهاية التي لم تكتب بعد ـ إنك أحمق ولا تعرف غير قوتك الغاشمة، ولا يمكن أن تعتمد إلا على محاباة الحظ لك، فانتظر لترى كيف أحقق نبوءتي، لكنني  تمالكت غضبي وقلت : "نعم إن ذلك في حكم الغيب ولننتظر سوياً لنرى حتى لا نجعل كائناً كهذا يفسد ما بيننا من ود ".

وحين اطمأننت إلى أنه نسى الأمر فررت من فوري إلى الغرفة القديمة لأحفظ الرواية عن ظهر قلب، بعدها كان علىّ أن أجبر شيخاً عجوزاً على العودة بعد صلاته الليلية من ذلك الطريق المهجور، حيث تلك الخرابات القديمة، ورحت أثير من الزوابع والعواصف ما جعله يفكر في اختصار الطريق والذهاب من حيث أريد بالضبط، كان عليّ أن أسبقه لألدغ الطفل في فخذه لا ليبكي ولكن ليصرخ كمن يستنجد حتى ينتبه العجوز إليه. ورحت أرافقهما إلى البيت حيث أكمل عملي، وما أن رفعت زوج الشيخ مصباحها لترى وجه هدية السماء لها ولزوجها المسن حتى جلست تحت إبط الطفل وأطلقت ضرطة معتقة من ألف عام في وجهيهما، موقظاً عيني الطفل بأعلى ما تستطيعان من انتباه ليريا وجه العجوز مشمئزاً إلى حد الغثيان إن لم يكن الموت، وبسرعة أطلقت يدي لتقبض على لسان زوجته وهى تصرخ لتصاب بالخرس المفاجئ. بالطبع أوعزت إلى العجوز باسم الراعي وهيئته والطريق المختصر إلى بيته، مهوناً المبلغ الذي سيتقاضاه، وضرورة فعل الخير حتى ولو كان في طفل عفن كهذا.

حين مرت السنوات وراح الطفل يراوح البلوغ أخذت بيديه إلى المقابر، حيث مساكني المعتادة وصدري الدافئ الرحيم؛ لأنضجه على عيني بين فتنة الجثث الطازجة، وبعيداً عن الوحدة والبرد ونظرة الراعي وأبنائه المحتقرة له في الخارج، ولا مانع لدي من أن يتشمم منيه المنساب على تلك الأفخاذ حين يتدثر بأكفانها البيضاء، لا مانع أيضاً من أن يعشق بهوس ابنة الراعي التي بدأ نهدها يتفجر أسفل ملابسها وتحتقره أكثر مما تحتقر الشيطان نفسه، ولا مانع من أن تموت في أوج بهائها ولا يستطيع حتى أن يلقي عليها نظرة الوداع الأخير، فيجلس طيلة الليل في قبرها ليرثي فتنة الجسد المخروط على قالب من شمع، وينثال تقبيلاً وعشقاً له، حتى إذا ما طالعته بنفس النظرة المشمئزة وبصقت في وجهه، انهال عليها صفعاً وركلاً كما لو كان يضرب الغنم أو والدها أو الشيخ العجوز، حتى إذا ما أفاق إلى أنها حبيبته وأنها جثة بلا روح أخذ يبكي ويسألها العفو عن خطيئته.

وحين شعرت أن نضجه قد اكتمل ذهبت إلى زوجة الراعي فطعنتها أسفل صدرها فماتت، وجعلت أشعل النيران في عقل الراعي على الفتى حتى أيقن أنه سبب شؤمه ومرض أبنائه وموتهم واحداً إثر الآخر، ولا مناص من قتله وحرق جثته، وحين أوثق قيده وشرع في قتله ذكرته بالذنب الذي سيؤخذ به، والموت الذي سيلحقه أيضاً، أخذت أكرر في صور الموت الذي ينتظره، وكيف سيقيم الشيخ العجوز الحد عليه، وكيف سيهدر دمه في مقابل قرد زنخ كهذا، حتى عاد إليه الحرص على الحياة من جديد. وهكذا وضعت الحل أمامه، فألقى بفأسه وأطلق قدميه للطريق، إلى أن حط في بلاد لا يعرفه فيها أحد ومات من فوره.

هنالك عدت إلى صديقي القديم وجعلت أذكره بما قلناه في ذلك المساء البعيد، وطلبت منه اعتذاراً وتقديراً لعلمي وقدرتي، لكنني حسبما قرأت كنت أعلم أنه سيطعنني بحربته متهماً إياي بأنني سبب كل ما حدث، فانثنيت بجذعي لأتفادى الضربة التي لحقت بخاصرتي بعض الشيء، ووجدتها فرصة سانحة لأتخلص منه إلى الأبد، فأوهمته بموتي وانتهاء الصراع بيننا. كان طيباً وساذجاً جداً، فأخذ يبكي ويرثي أياماً طويلة من الصداقة حتى أنني كنت على وشك أن أفسد كل شيء وأضحك معتذراً له عن خبثي ومادحاً طيبة قلبه، لولا أنه قال أن موتي هذا عقاب كل مفسد، فأكملت مسرحيتي حتى إذا ما مضى تحاملت على نفسي لأذهب إلى عبدي اللطيف، فوجدته خارجاً من هناك، كان وجهه رغيفاً احترق في الفرن، فعلمت أن خبزي نضج بما يكفي لأن أضع أول حجر في عالمنا هذا.

 

16

تعجب المحقق من أمر المؤلف الذي لم يترك ثغرة إلا وسدها عليه، فمنذ تولي مسئولية التحقيق في حادث اغتيال المغنية الشهيرة، وهو يبحث في متاهة لا مخرج منها. الشهود جميعاً تحدثوا عن المؤلف، الصحافة والإعلام يطالبان بضرورة إيجاد القاتل، أصابع الاتهام كلها تشير إليه.  ما من شيء في الأماكن التي أذهب إليها إلا وآثاره تطاردني ولا أستطيع القبض عليه، حتى حين توصلنا إلى بيته في الريف، حيث مئات الفلاحين الذين لا يعرفون شيئاً عنه لم نجد سوى مخطوط رواية تزيد عن الألف صفحة، رواية غريبة عن لقيط ممسوخ لم أستطع أن أفهم منها شيئاً، غير أنها أصابتني بالكآبة والكره ولا أدري لأي شيء كان كرهي موجهاً، فقد نبع فجأة هكذا وبلا مقدمات، الأكثر إدهاشاً أنني ظللت أقرأ رغماً عني حتى وصلت إلى ثلثها الأخير فوجدت ورقة تقول : ( اسمع أيها المحقق؛ لا يمكن أن تعثر عليّ من خلال أوراقي، عليك المجيء بنفسك وبطريقتك أنت، بحساباتك أنت لا بحساباتي أنا، وإذا أردت أن تمسك بأول الخيط فاذهب إلى الشارع المغلق، حيث البيت الثالث، الدور الأرضي، وهناك ستجد مكتباً صغيراً عليك أن تعالج درجه الأيسر، حينها ستقرأ رواية عن الممثلة التي تبحث عن قاتلها. اسمع أيضاً.. لا تبحث عن القاتل، وأغلق ملف القضية تماماً، وإذا أردت الحقيقة كاملة فاهتم بالأوراق التي ستقرأها، وإذا أردت الوصول إلي فعليك أن تقيم متوالية حسابية لكل ما يقع تحت عينيك، عليك أيضاً أن تعيد تفسير وتأويل كل ما وصلك وما يصلك عني. أما الآن فعد إلى معاونيك ورؤسائك، وقل لهم : هذا المؤلف مجهول ولا يمكن العثور عليه لأننا لم ندرجه في قوائم شخصياتنا المادية، ولا إثبات لدينا عليه ).

هل يمكن للمؤلف أن يدرك كل هذه التفاصيل دفعة واحدة، حتى أنا لم أنج من تفاصيله وعلاماته على الورق. كم أشعر أنني بشكل أو آخر أتصرف طبقاً لما كتبه، حتى أنني لا أخرج عن تفاصيله قيد شعرة، كما لو كنت ممثلاً بارعاً لا يملك سوى أن يتقن دوره، وإذا ما أردت أن أخرج عن هذا الدور ولو في تفصيلة صغيرة منه كان ثمة من يحاصرني ـ على رقعة شطرنج وهمية ـ فلا أجد سوى لعبة وحيدة على أن ألعبها. أحياناً أنظر إلى السقف فأجده يبتسم ساخراً مني وهو يشير على الخانة التي لا مفر من أن أحرك قطعتي إليها، كثيراً ما أكاد أتميز من الغيظ، وأحياناً أفكر في أن أهدم كل شيء وأخرج من اللعبة , لكن يقيني في لعبته الجهنمية يجعلني أتراجع، فماذا لو فعلت ذلك؟ هل لا يكون قد كتبه من قبل وأنا الذي لم أستطع القراءة جيداً، أو أن يكون هو الذي أعماني فلم أقرأ ذلك في ورقه، أو أنني قرأت لكنه كتب لي أن أنسى إلا ما يريدني أن أتذكره. المهم أنني في كل الحالات سأفعل ما يريده وأراه يضحك لي من خلف الحجب ليقول : "وها قد فعلت ما كتبته لك".

حين عدت مرة أخرى إلى البيت القديم لآخذ الرواية، ولا أعرف لماذا تركتها بالأساس في المرة السابقة؟! على أية حال، لم أجدها لكنني وجدت ورقة صغيرة صفراء تقول : (لقد استوعبت ما يخصك، ولم يبق لك سوى الإشارات فاقرأها). نعم هي الإشارات، كانت تجيء بشكل سافر وكأنه صاحب سلطة على كل شيء ولا يقبل الخطأ في شيء. هذا الصباح جاءني خطاب منه، نعم منه..حين فضضته لم يكن فيه سوى (اتبع البحر تجدني (المؤلف) ). حين سألت عن حامل الرسالة وجدته كان خادماً للسيدة القتيلة، أعطاه له قبل الحادث بيومين لكنه نسى أمر هذا الخطاب حتى الأمس، فهل نسى بالفعل، أم أنه كان يؤدي دوره الذي لا يدركه؟!

إنني أشك في الهاتف الذي يقطع علىّ تفكيري، إنه مدبر من قبله هو، فهو مغرم برسم أدوار لكل من يعرفهم، ولا أظنه لا يعرف أحداً، بل لا أظنه بعيد. إنه قريب.. قريبٌ تماماً كمن يرعى شياهه في مزرعته، حتى أنني أشك أنه لو أراد قتلي فما من أحد سيمنعه، بل سيسخرني ويسخر كل شيء حتى أذهب إلى هذا القتل بقدمي ولو كنت على علم مسبق به، فكيف لي أن أصل إلى ذلك المؤلف وهو يحاصرني في كل شيء، وأنا أشك في كل شيء حتى الهواء الذي أتنفسه، فلربما كان عميلاً له في صدري.

 

17

جلس عبد اللطيف أمام قصره حيث تكعيبة العنب، كان رجاله يحيطون به منتظرين أوامر هذا الصباح. ظل مستمتعاً بجو الألفة والشعور بالعزة الذي وصل إليه، لم يشأ أن يفرقهم من حوله ليناظرهم من بعيد، فأومأ إلى أحد الخدم أن يشعل النار في طرف الشجرة الممددة أمامه لتطير برودة الصباح، لم يبق من هذه الشجرة سوى ربعها الأخير، وعلى الرجال أن يجهزوا شجرة جديدة تتمدد بطول (التعريشة)، ليشعلوا النار فيها من الصباح إلى المساء بطريقة تضمن  بقاء النار دون اشتعال الشجرة كلها، كان الخادم قد أشعل الطرف وفتت ما صفى من الجمر ليضع عليه براد الشاي الكبير، دائماً ما تبقى النار والبراد مشتعلان لكل من يرغب في تناول الشاي أو حجر من المعسل، فقط عليه أن يجهز كوباً يناوله لعبد اللطيف، أو يعمر الشيشة ويميل بغابتها ليمنحه بركة اشتعال الجمر.

أصبح عرفاً مؤكداً ألا يتذوق أحد شيئاً قبله، وألا يمنع أحداً عن أخذ ما يريد، فقط يأخذ وجه الشيء ويتركهم ينهلون منه كما يريدون حتى يشبعوا. كان الجميع ينتظر الأمر ببدء خلية النحل عملها، لكن الشمس التي ضّوأت المكان وانسابت على وجوههم من بين أوراق وعناقيد العنب جعلتهم يتمنون البقاء في هذه الراحة إلى الأبد. وكان عبد اللطيف الذي امتلأ احتشاداً بماضي آبائه العظماء، قد بدأت شفتاه تتمتمان بالحديث، قال :" كان أبي بحاراً يعشق المياه المالحة أكثر من عشقه لأي من زوجاته، لم أره.. لكن أمي التي ظلت تنتظره في قرية مجاورة على شاطئ هذا البحر حكت لي عن أمجاده مع الماء، كان يصطاد السمكة بطول الرجل، ويشعل عوداً من الشجر ويضعها عليه، ويأنس طيلة الليل بالنار واللحم الطري. ليلات طويلة كان ينام على سطح مركبه الذي اشتراه من أبناء سيده بعد موته، حتى أنه لم يكن يرى الشط لشهور عديدة، ترك في كل جزيرة وضع قدمه عليها زوجة له، وترك في كل ميناء ابناً، كان الجميع يحبه إما لجماله أو لصدقه أو لمهارته أو لغنائه وغناه. تقول أمي أن ما سحرها فيه هو صوته الشجي، كان يغني لها بلغات تعرفها ولغات لا تعرف منها سوى صوته، خطبها من والدها وأقام لها بيتاً وأقام معها شهرين ثم قال لها : لابد أن أرحل؛ لدى مشكلات صغيرة في بلاد الروم، أيام قليلة وسوف أعود لأسمي ابننا بنفسي. حكى لها عن زيجاته وأبنائه ومدنه الجميلة، وأنه حين يعود سيجعلها ملكة على كل هذه النساء والمدن، وقال أيضاً : أبنائي في ظهورهم شَعْر، تعرفينهم من شعورهم الكثيفة ورقصهم كلما حزنوا أو فرحوا، قال سأعود يا أميرتي ومضى...  لكنه لم يعد ".

حين رأى العبد اللطيف أن حكايته قد أخذت بألباب الجالسين قال : " كل ما عاد منه ساقٌ أحضرها صديقه وقال : هذه كل ما أنقذناه، كان يعرف بموته فأوصانا قائلاً : (لو متنا جميعاً فجثتي ستصل إلى أهلي على الشط، ولو نجى أحد منا فعليه أن يوصل جثث الآخرين إلى ذويها، أما جثتي فليعلم الجميع أنها لزوجتي وابنها الذي لم أره)، وحين تتبعنا الخريطة التي رسمها بنفسه جئنا إليكم.

ترقرقت عين عبد اللطيف بالدمع كأنه يتذكر مشهد دفن ساق والده، ثم أشاح فجأة كمن يهرب نفسه من الحزن وقال : كان والده شيخاً عجوزاً في قريتنا هذه، ولم يكن يعرف من الفلاحة سوى تربية الخيل، وتدريبها على الرقص، حين سمع بموته جعل يرقص بحصانه أمام قبره ويقول " إنك لم تمت ولكنك صرت بحراً كما كنت تحب، فهنيئاً لك الخلود والحرية، وهنيئاً لنا الصبر"، وظل يرقص حتى مات الجواد من التعب، فاحتضنه ومات أيضاً.

كانت أعين الرجال تتلهف لسماع المزيد، وكان على الراوي أن يقص عن أجداده؛ فقال: " لم تع ذاكرتي الكثير عمن سبقهم، فجد أبي كان مزارعاً في بلد بالجنوب، أنجب عشرة أولاد من أربع سيدات، وأوصى ببيع أرضه وتقسيم ماله على أولاده، ليقطعوا الحياة كما يشاءون، فذهب كل إلى ما يريد، أما والده فكان سروجياً يصنع السروج للخيل والبغال والحمير، لم يعمر كثيراً ومات في داره تاركاً ابناً وحيداً، أما من سبقه فقد كان جندياً مات في الحرب تاركاً أربع زوجات كل واحدة منهن في بلد بعيدة، ومن سبقه كان شيخاً يخطب في الناس ويعلمهم القراءة والكتابة."

ظل العبد اللطيف يعدد من الأجداد العشرات ومن الأبناء المئات حتى وصل إلى جده الأكبر "أبو دجانة " الذي فدى بنفسه رسول الله في غزوة أحد، فوقف كالطود يستقبل السهام من كل جانب حتى لم يعد في جسده مكان لضربة سيف أو رشقة سهم أو طعنة رمح، ظل واقفاً يصد عن النبي حتى انتبه المسلمون إليه فهرعوا عشرات يصدون عنه، لكن موته كان أكثر ما يتمناه إنسان في دلك الوقت، فدفنه سيد الخلق وصلى عليه.

بكى الجميع وترحموا على جده الشهيد، وكانت الشمس قد اعتدلت في كبد السماء وتذكروا أن اليوم يوم الجمعة فذكروه بالصلاة، فقام وقاموا خلفه إلى مسجد " أبو دجانة " عابرين مدينة القبور يقرؤون الفواتح ويلقون السلام على ساكني دار السلام، حتى إذا ما انتهوا إلى صحن المسجد وجدوا الخطيب على المنبر يقول : لكن أبا دجانة لم يعقـِّـب فالعنوا معي من افترى على الله ورسوله وصحابته، آمين.

 

18

كان عبد اللطيف قد بنى منارة إلى جانب القصر تلتصق جدرانها بجدرانه من ناحية البحر، ويتخللها سلم من حجرته العلوية حتى أعلاها، حيث ثبت عدة فوانيس تضاء كل مساء لترشد السفن التي ستجيء. فقال : جاءني جدي أبو دجانة ذات مساء وقال " يا عبد ابن منارة لسفن ستجيء من بعيد، تحمل اخوتك الذين لم ترهم قط، فعلى ضوئها سيعبرون كما عبر آباؤك من قبل"، فقمت من نومي أبحث عمن أرسله إلى العمال والمهندسين وهاهي تنتظر السفن.

لكن الأعوام مضت إثر الأعوام حتى نسى الناس لمَ انتصبت هذه المنارة هنا، وحده عبد اللطيف ترك غرفته العلوية ليصعد إليها كل مساء فيشعل المصابيح ويلوح بيديه عسى أن تهتدي إليه السفن؛ تلك التي لا يراها أحد سواه. كان كلما أخذ البحر بلبه بكى صارخاً في اخوته - الذين لا يعرف منهم سوى شعورهم الكثيفة وظهورهم المحنية - أن يأتوا. فقد مل من الحياة وحيداً يرتجف من نظرة الناس إليه كلما مروا، فالبقاء بلا عزوة أو جذور يشبه الأشجار التي تنبت على وجه الماء، تجرفها المياه ويميتها الجفاف، فهل تدركون ذلك يا أبناء أبي، أم أن الحياة شغلتكم عن العودة للديار، لقد بنيت لكم قصراً ومنارة وعشرات الحجرات، بنيت مقابر تتسع لنا جميعاً، فلا تخشوا الموت أو الحياة، ما لدى كثير.. أكثر مما يملك البشر جميعاً، وعندي خدم لكل واحد منكم، لقد دبرت أموركم أفضل مما تحسبون، فهذا الجناح للأكبر سناً، وهذا لمن يليه، وذاك للأصغر فيكم. حتى ضيوفكم لم أنسهم فقد بنيت لهم جناحاً خاصاً، ولو شئتم سأبني العالم كله قصوراً وقباباً لكم، فلمَ لا تعودون إذاً؟

اسمعوا.. سأبني لكم على هذا الشط رصيفاً يستقبل سفنكم، سأرسل الرجال والنساء ليبدأوا فيه من الآن، سأبني أيضاً طريقاً مفروشاً بالحناء يبدأ منه حتى باب القصر الكبير، و سآمر الخدم برشه كل صباح، سأسميه طريق الحناء لأولاد أبي دجانة. هل تعرفوا لو أنني أعلم مكاناً لأي منكم لذهبت إليه بنفسي ولو قطعت كل هذه البحار على ظهر مركب كجرذ ينام في لباب الخشب حتى أصل إليه، فالحياة بلا أهل كنخلة تهزها الريح من كل جانب، موحشة ولا مكان فيها للود.

تزوجت كثراً وأنجبت من الأبناء ما لا أعرف أسماءهم، لكنهم جميعاً قطعاً من الثلج لا ينبضون بالحياة، جزر تائهة في الماء لا أفهمهم ولا يفهمونني، حتى الناس هنا لا يعرفون معناً للحب ولا يخدمونني إلا من أجل المال فقط، أقرأ ذلك في أعينهم، وأخاف منهم طيلة الوقت، فلوا أن واحداً أراد قتلى ما منعه شيء. 

ولتعرفوا أيضاً أني قديماً أقمت عهداً مع الشيطان، نعم مع الشيطان! لا تستغربوا ذلك، فلم يكن لدي ثمة ما يمنع من التعاقد مع الجحيم نفسه لأنجو من نظرة الكره هذه، وقد أعطاني ذلك الشيطان المال والسلطة وكل ما أريد.. ما عدا الحب، ذلك الذي أنتظر أن يجيء على ظهر سفينة تحملكم، أقيم له المصانع والقصور، وأجهز التاريخ من أجله، مثلما أجهز الأكفان والقباب، رغم أنني موقن أننا لا نموت، فلا يمكن لبحار مثل والدنا أن يموت في بلاد بعيدة، ولا لأولاده الكثر ألا يعودوا لأرضهم، فالموت يخاف منا ولا يعشق غير الضعفاء، وأنتم أقوياء بما يكفي لأن تعودوا، فلمَ لا تجيئون إذاً؟ !

هل تعرفون... إنني الآن ضعيف، وأشعر بالموت يتنمل في ساقي، ضعيف ولا أحتاج إلا لضمة منكم، لذا فأنا قابع هنا حتى تجيئوا أو يجيئني  الموت، فهكذا قال جدنا أبو دجانة، ولا أظن الأجداد تخطيء أبداً.

كان عبد اللطيف يتحدث كمن يملي رسالة على صبي بليد سيحملها إلى أهلها رغم يقينه بأن لا أهل لها، وأن لا موانئ تحملهم، وأنه لا جدود من الأصل. لكنه كان يحلم بمجيء عابر ما، ولو بشكل خاطئ، ليؤكد للناس أسطورته. لكن أحداً لم يأت، وظل الرصيف خالياً تنبح عليه الريح وتختلط حناؤه بالرمل والموج العاتي، وظل صاحبه منتظراً حتى بنى الناس مسجداً أسموه: مسجد العارف بالله "صاحب الخازوق "، فترك القصر والرصيف والمنارة وأتى ليبحث عن ذويه بين القبور، وكلما لم يجبه أحد كان يقول:

لابد للأحياء من موتى

ولابد للموتى من قبور

ولابد للقبور من حارس مثلي

أنا حارس القبور

 

19

دار المحقق دورتين في غرفته ثم عاد إلى مكتبه حيث كرسيه الدوار، تأرجح في الفراغ برأسه مرتين ثم أطرق يفكر من جديد، كان الموج يتدفق من أسفل قدميه ليملأ الغرفة ويفيض فينزل كشلال إلى الشارع حيث يغرق كل شيء، كان وشيشه في البدء يأتي من الجدران والأبواب والشبابيك ثم يعلو قليلاً.. قليلاً حتى يصبح جبالاً متلاطمة،وكان العابرون من حوله يغرقون والسفن تغوص والشط يتآكل زاحفاً على الأرصفة والشوارع والمباني، زاحفاً على المدينة كلها حتى يأتي إليه، ليهدر كطنين النحل، ثم يهدر.. فيهدر.. ثم يهدر.. حتى يصبح غولاً يبتلع كل شيء، صاعداً من تحت قدميه إلى حذائه ثم ساقيه ليطوق عنقه ويجثم على صدره، بينما يداه تضربان في الفراغ بكل ما تملكان ولا مخرج من الغرق.

هنالك انتبه إلى أنه مهووس بالبحر، وأن تلك الرواية القابعة أمامه على المكتب مصدر هذا الهوس، (إذا أردتني فلا تتبعني، وأقرأ إشاراتي في كل شيء)، كان يردد الجملة كأن شخص المؤلف هو الذي ينتصب بداخله ليتلو عليه وصاياه، (لا تبحث عني في أوراقي، وابحث في أوراقك أنت، فلن تصل إلى أحد من عمله بل من عملك أنت، أنت.. أنت.. أنت ). كان ضمير المخاطب يحاصره في كل ما ينظر إليه، فمنذ شهور وهو يقرأ هذا العمل، مفتشاً عن شيء واحد يدل على صاحبه، شيء واحد يستطيع أن يفهم منه بأي منطق يتصرف هذا المؤلف، لا جدوى من شيء، كل ما حوله محض إشارات تتواتر دائماً ولا يفهم شيئاً، فقط يتصاعد الدوار في رأسه، يبدأ كوشيش بحر هادئاً بعيداً، ثم ما يلبث أن يتدفق ويهدر ويعلو. هو الآن محاصر بهذا البحر، كل الإشارات تنبئ بقرب مجيئه أو الذهاب إليه، كل ما حوله يهدر ويتلاطم، هو الآن يغرق"إذا استطعت الهروب فلا تتصور أنك انتصرت، فأنت فقط تؤجِّل".

مرة أخرى تجيئه النصائح، وكل ما يدركه أنها من المؤلف، ربما لأنه قرأ كل شيء في روايته الكابوسية هذه بعناية فائقة، وخرج منها كمن قرأ قاموساً للكلمات الأجنبية، فقرأ كل شيء وخرج لا يجزم بمعرفة شيء، فثمة يقين قد أصبح قتيلاً بداخله، وثمة صوتٍ وصورةٍ لا يستطيع أن يحدد ملامحهما يجيئانه من بعيد بداخله، حيث هذا الركن المظلم الذي لا يرى فيه شيئاً؛ لكنه موقن أنه لا يخلو من شيء. فمن هذا سوى المؤلف الذي يحاصرني ببحره المتدفق وموجه المتلاطم، وأين هذا البحر الآن؟ لقد أغلقت ملف القتيلة الشهيرة وبنفس الطريقة التي قالها، فلمَ يحاصرني إذاً؟ ولمَ أوقن أن هذه الرواية القديمة واقعاَ متحققاً في مكان ما وعليّ أن أذهب إليه، وأن هذا البحر لا يأتي لكنني أنا الذاهب، حيث لا موج سوى الموت هناك.

 

20

لم يكن لأحد أن يتخيل ما حدث؛ حتى عبد اللطيف الذي كان يتمنى أن تقوم القيامة لينتهي من شراكته اللعينة تلك. لم يطرأ على باله أن يكون المشهد هكذا، فمرة واحدة تنزل الصاعقة لتحيل العالم إلى نصفين، أحدهما ظاهر والآخر خفي، لم يكن هناك حريق أو دخان، لم يكن سور ريح شديدة أخذت تضرب بكل شيء، وضباب متكاثف يهب من البحر. حين أعتمت الدنيا شعر بأن شيئاً غريباً يحدث من حوله، كانت هذه انتباهته الأولى إلى الوجود، فمنذ قليل كان قد اتخذ قراراً حاسماً وأقبل عليه بقوة ثور. لا بد من الموت، هذا اللعين لم يترك لي منفذاً سواه، حتى الأسطورة التي اخترعتها عن الأهل وقرب مجيئهم لتحميني من الشعور بأنني نبت شيطاني، وأن مالي وأولادي نتاج للشراكة اللعينة؛ لم تعد تقنع طفلاً لم يخلع ثدي أمه من فمه بعد. حتى أولادي أنفسهم ما عادوا مقتنعين بأن لهم أهل وأجداد وأبناء عمومة مثل البشر، لعنة  الله على هذا اللعين الذي أفسد كل شيء، كان الجميع قد صدَّق أننا من أبناء أبي دجانة، وكانت هالة القداسة قد بدأت تنزل عليّ، كان الناس قد بدأوا يقتربون مني، يجلسون معي برغبتهم، بعضهم كان يميل علي راغباً في تقبيل يدي، وكنت أسحبها في سرعة خاطفة لكي لا يشعرون بزناخة جلدي، فكانوا يسمون ذلك تواضعاً ويدعون لي، كان الجميع قد بدأ في تصديق أن لي أهلاً تركهم والدي البحار في أماكن بعيدة وأنهم قادمون كما قال جدي أبو دجانة. يا له من خنزير أفسد كل شيء وبضربة واحدة، وأين؟ على منبر المسجد الذي بنيته لأنال منه الدعاء والقداسة، وقف ليقول أن أبا دجانة لم يعقـِّب، كان يصرخ بأعلى صوته وكأنه يريد أن يسمع الرجل نفسه، " لكن أبا دجانة لم يعقب.. لم يعقب.. لم يعقب ولعن الله من اجترأ على رسول الله أو آل بيته أو صحابته، وأقم الصلاة، أقم الصلاة ". لعنه الله.. أقام الصلاة وهدم عرشي، فانفضّ الناس من حولي. لم يشأ واحد منهم أن يقف في الصف الذي وقفت فيه، لم يشأ واحد أن يسلم على أو ينظر في وجهي، بل لم يأت فيما بعد واحد للصلاة في هذا المسجد، وتركوني وحيداً تتصاعد رائحتي حتى كادت تخنقني، لم تجدِ معها العطور ولا الدهانات التي أحضرها عملائي من بلاد بعيدة خصيصاً لأجلي، لم يجدِ معها النقع في ماء البحر طيلة الليل أوالنوم في حفرة الرمل طيلة النهار، لعنه الله قال أن من أكل من مال الملعون كان ملعوناً مثله، ومن عمل عنده كان شريكاً له، ومن صلى في مسجده كان عليه وزر الصلاة ولن يغفر ذنبه، فطفق الناس يجمعون شواشي الشجر ويبنون في العراء بعيداً.. بعيداً ذلك المصلى الذي أسموه " مسجد العابد لله صاحب الخازوق "، فمن الذي ذكرهم به من جديد، ومن الذي أخبرهم أنني لا أكره على وجه الأرض وجهاً كوجهه، وأنني لو استطعت إحياءه ثم قتله آلاف المرات بأقذر مما فعلت ما ترددت أبدا. فكيف أحيوه ليبقى منتصباً كالفنار طيلة الوقت في وجهي؟! لو أن لي من السطوة عليهم ما كان لي بالأمس لأقمت لكل واحد منهم خازوقاً،ولجعلت لمفسِدِهم الذي جهر في وجهي باللعنة ميتةً ما شهدها أحد من قبل، فقد أفسدَ على أولادي أكثر مما هُم مُفسَدٌ عليهم، فهجرتهم زوجاتهم في ليلة وصباح، وتركنني أطالع سحناتهم الممسوخة كلها، لتذكرني بعقد اللعنة الذي أقمته في ساعة ضعف كهذه. أين هو الآن هذا الملاك ليطهرني وأكون عبداً له ما حييت، أيناه هذا الطيب الذي لا حيلة لديه سوى الكلام والكلام؟! لينزل شريكي اللعين ويأخذ ما يشاء ويفسخ ذلك العقد، فقد كرهت الأموال والأبناء وكرهت حتى نفسي. لقد كرهت كل شيء. ليأخذ ما يريد من المال والأبناء والصحة والعمر، ويتركني أحيا لحظة دون أن أرى وجه ذلك الكريه صاحب الخازوق، يأخذ ما يريد من الشركة اللعينة ويتركني أموت دون أن أسمع اسمه أو ضحكه، دون أن أُدفَن في هذه المقابر وبين هذه الجثث، لقد كرهتها، وكرهت عفونتها وكرهت الأيام التي كنت أتصبب فيها منياً عليها. لينزل الآن... لينزل، فإن لم يترك تلويحه لي في الفراغ هكذا دون أن يفعل شيئاً سوف أضع حداً من قبلي لكل شيء، فما نهاية الحياة؟ أوليس الموت؟ أنا أريد أن أموت الآن لأتخلص من كل هذا العذاب والنفور والكره، أنا أريد أن أموت... أموت... أموت ولست نادماً على شيء.

حين انكشف الوجود من جديد على صحراء قاحلة لا شيء أسفلها سوى مدينة من قباب وفنارٍ يشبه خازوق صاحب الخازوق، كان عبد اللطيف يسرح في أشتات المكان ليجمع جثث أبنائه الذين لا يعرف عددهم ويدخلهم المقابر حتى عمرّوا كل القباب، لم ينج من ملكه غير هذه المدينة وغرفة الفنار وبنت وحيدة هي أكثر الأبناء نفورا ومقتاً له. حملها على يديه حين شعر أن الحياة مازالت تجري في أعضائها، ووضعها في الغرفة الوحيدة الباقية. عاد ليلملم أجساد أبنائه باكياً مؤمِّلاً نفسه بأن الشراكة انتهت، وأن ثمة حياة جديدة سيبدأها مع ابنته من جديد، حياة ليس فيها كره ولا نفور، ليس بها وجه عجوز يطارده ولا شيطان يلوح له من بعيد ليذكره بعهده معه، ليس بها أهل مزيفون ولا جثث ينام في أحضانها، ليس بها سوى العمل لإعمار هذه الأرض من جديد، وليبكي الشيطان الآن مثلما ابكي.

فلابد للأحياء من موتى

ولابد للموتى من حارس يبكي

أنا بكاء القبور

 

21

كاد الشيطان أن ينتهي من يقينه أنه قام بدوره على أكمل وجه، ولا يعوزه الآن سوى معرفة الباقي من روايته ليكمل عمله بنفس راضية، فارتكن بجسده المتعب على الرمل وأخذ يخمش تجاعيده المتصلبة. دار في ذهنه أنه لم يَرَ حماماً ولا طيراً هنا منذ سنين، لم يرَ سوى هذا الوجود المتجرد من ردائه كعورة عظيمة أرادها المؤلف أن تنتصب على هذا البحر، فلمَ لا يكتب شيئاً عن الحياة؟ لقد سئمت أنا أيضاً الموت رغم أنه كل ما أتقن حتى الآن. آه.. ضجرت من ذلك الموت، أريد تجربة جديدة غير تلك التي اعتدتها، فلمَ لا يغير دوري في لعبته تلك، إنني أيضاً فنان وربما سأكون أكثر إبداعاً في عالمي الجديد،فليتح لي فقط فرصة الرفرفة كالعصافير في أي مكان أشاء. أريد أن أكون ملاكاً يخط بثيابه البيضاء عجز هذا العالم، ويمنحه من القدرة ما لا يستطع أحد،ليعطني فقط هذا الحق وينظر إلي من بعيد وأنا أخط العالم بفرشة فنان نزق. ياه.. هذا المؤلف عجيب ويحتمل من الصبر ما لا يمكن لأحد أن يحتمل، يفكر في كل شيء ولا تسقط منه حبة رمل دون أن يرصدها ويكتب تاريخها ومستقبلها، فلا خلل في عمله ولا ضعف يبدو عليه، كم أحبه وإن جعلني رمز الخراب في كل موطئ، فلمَ لا يمنحني فرصة خلق الوجود كما أحب؟.

كان المؤلف الذي عرف الحقيقة كاملة يجلس أمام الشمس كراهب يؤدي طقس تكفيرٍ عن خطيئةٍ لم يرتكبها , فهو المسئول الوحيد عن كل هذا الخراب. يا للفاجعة، أنا الذي كتبت بيدي كل هذا العبث وحكمت على الآخرين أن يرزحوا فيه، إلى أن أراهم بنفسي فأتم ما أريد لهم. أنا قاتل كل هؤلاء والحاكم باقتراف كل هذه الخطايا وعلي أن أتم مساراتها للأبد، يا للفاجعة. هذا الجالس أمامي مستمتعاً بعمله الفذ ينتظر أن أمنحه مكافأته العظيمة، وهذه المسكينة التي لا مصير لها سوى الموت تنتظرني أن أكتب ماضيها وحاضرها ولا تعرف أنني فعلت ما هو أسوأ، وهذا الذي جعلته كريها وكارهاً ووضعت بذرة الحياة والموت فيه لأشقيه طيلة عمره بينهما، فلا يجد الموت سوى في الحياة ولا يجد الحياة سوى في الموت، هذا الذي نفرت منه الناس وجعلته حاقداً حتى على نفسه أعطيته الحب ومنعته منه؛ لأجعله عبداً للبحث عما لا وجود له، فسكن الخراب وعشق الطيران وحلم بالخلود في العدم، هذا الذي يوقن بعقابه ويبكي كل مساء يائساً من غفران خطيئته ماذا أفعل معه؟ آآهٍ إنني خجل من نفسي، لا.. بل إنني أتعس مما يتصور العالم عني، لو يعلمون إنني صنعت كل هذا لأسري عن نفسي، لو يعلمون أنها محض لعبة سخيفة دربت نفسي المريضة عليها بين جدران بيت لا أحد فيه سوى أم مريضة لا تصحو، ولا تتألم إلا لتظهر بعض الرغبة في الحرص على الحياة. لو يعلمون لرثوا من أجلي. فما الذي كان باستطاعتي فعله غير أن أهرب من المأساة مثلما هربت من المدارس والشوارع والوجود كله لأجلس تحت قدميها عشرين عاماً في حجرة وحيدة كنا نسميها المنزل، لا أحد يزورنا، ولا أحد يفكر في أن يطرق بابنا ولو بطريق الخطأ ليعلمنا أننا لسنا موتى. عشرون عاماً تنام على المصطبة وأنام أسفلها لأمسح بولها وأجفف رائحة جسدها النتنة، جامعاً الديدان والقمل وهاشاً الذباب والنمل عن الأعضاء الشليلة، ما الذي كان بوسعي أن أفعله سوى العبث مع الكائنات، مسلطاً عيني على الأشياء صارخاً فيها بالتحرك إلى أن تلبي، وقليلاً...قليلاً أصبحت اللعبة سهلة فأسهل، فأسرع، وقليلاً.. قليلاً صارت الحجرة تتحرك كما أريد دون أن أتحرك، قليلاً...قليلاً جعلت نظري يتصلت على هذا الجسد النائم أمامي، فليمت القمل، وليرحل الدود، ولتتوقف أمي عن طلب الغذاء، ولتمتنع عن التبول، ولتعرق لتغسل جسدها من الرائحة المميتة ولتمت هي أيضاً.

لم أكن أدرك أنني قاتلها، فكل ما ساورني هو هاجس الصدفة و هذيان الوحدة، هل كان عليّ وقتئذٍ سوى أن أكتب مسخاً كعبد اللطيف هذا لأضفي عليه ما لدي من عجز وكره، وحدها الفكرة نشأت كصورة طبق الأصل مني، لكنني كنت رحيماً فلم أجعل مسخي يعاشر أمه سوى سبع سنوات فقط، ثم توالت الماكينة، فلابد من أحد يرعاه، ولابد من صراع بين ملاك وشيطان عليه، ولابد من حب يجتاحه تجاه فتاة تمقته، ولابد من نزول الشيطان ليمنحه كل شيء شريطة أن يكون عبداً له، ثم ماذا يا شيطاني الفذ؟ أنا الآن تذكرت كل شيء، تذكرت لمَ رفض الناشرون طبع هذا العمل، لأنه مقبض وكئيب، فكتبت أشياء أقل وقعاً بها طيور وحمام كما تريد، بها أناس يحلمون ولا يجيدون سوى الحلم، بها وحوش وعباقرة مثلك بها خضرة وبحر حي، كنت أكذب على نفسي وعليهم، كنت أرى الرجل صورة فأدخلها ماكينتي التي لا تهدأ، فأكتب وأنشر وأثرى، لكنني كنت أخاف أن يكتشف أمري ويعرف الجميع أنني سبب تعاسات كثيرة، سبب حروب لا تهدأ وصراعات لا تنتهي، أخشى أن تطاردني جرذان الصحافة فهذا كاتب قصة الفرح الذي عاشه فلان في مدينة كذا، والمنقذ للدمار من كذا، والمبشر بكذا، ومسئول عن كذا.. وكذا. كنت أخشى بالطبع لأن كل ما كتبته كان في الأصل محض أكاذيب من تلك التي يحبذها الناشرون والأفذاذ أمثالك، حتى رأيت بالصدفة نتيجة فعلي، فأدركت الحقيقة المحزنة، أدركت كم صنعت من عبث في الوجود، فقررت أن أحذف ذكري من جميع الأوراق الرسمية وغير الرسمية، وأن أوقع باسم مستعار " المؤلـِّـف "، وقررت أن أكتب رواية تليق بحياة تحلم بها، حياة ملؤها النجاح والعصافير والصخب. حين رأيت الفتاة الصغيرة في الحانة النائية قررت انتشالها وجعلها بطلة لهذا العمل حتى بلغت من المجد ما أريد، فقررت أن أحبها. هنالك تعطلت ماكينة الأحداث، وأدركت أن المؤلف إذا أحب أياً من شخوصه فقد قدرته على الخلق، فعشت كرجل ميت لا قدرة له على شيء، عجوز يحب فاتنة في أوج مجدها، مجهول يتطلع إلى علم، فكرهت نفسي وكرهتها وكتبت علينا الموت، فهل كنت أعلم أنني مهدت لكل ذلك في روايتي القديمة، وأنني أدفع بنفسي لأعيش ما كتبته منذ سنين مضت؟ وهل كنت أدرك أنني كتبت على نفسي مثلما كتبت عليك وعلى غيرك؟ يا للعبث !

هانحن الآن نجلس تحت الشمس على هذا الرمل الملتهب وأمام البحر الميت، كلانا ينتظر القادم، كلانا يعرف ما هو آت لكننا ميتون، أنت على الأقل أمامك جزء من العمل لتقف عاجزاً مثلي، أما أنا فلن أكتب شيئاً وعليّ فقط أن أشهد ما بقى من مصائركم، عليّ أن أنتظر مجيء ذلك المحقق ليحاسبني على كل شيء، فكم سأنتظر على هذا الرمل حتى يجيء.

 

تمت / شما 2003

صدرت في طبعتها الأولى عام 2005 عن دار ميريت للنشر