كتاب الروائية والشاعرة الإماراتية ميسون صقر «مقهى ريش.. عين على مصر» الذي أصدرته دار نهضة مصر، ليس مجرد كتاب عن القهوة التي صنعت التاريخ دون مبالغة ودون بلاغة فارغة، بل هو أيضًا كتاب عن مصر وعن المحروسة (القاهرة) في مراحلها المختلفة. عن الزمن والوقت والأيام والناس والحكام والحرافيش في سبيكة واحدة. لذلك ليس غريبًا أن تبلغ صفحات المجلد 653 صفحة، ويحتوي على عشرات الوثائق والصور التاريخية التي يعود تاريخ بعضها إلى ما يزيد على مئتي عام، ولذلك أيضًا فإن هذا الكتاب -المجلد- وثيقة من وثائق الوطن.
أما المؤلفة التي أنفقت سبع سنوات لإنجاز هذا السجل الحافل، فهي روائية وشاعرة إماراتية تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ثم اختارت أن تقيم في مصر منذ سنوات طويلة. عشقت ميسون مصر، ووقعت في غرام القاهرة، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح في مجلدها. وقهوة ريش بالنسبة لأجيال من الكتاب والشعراء والفنانين، منذ ستينيات القرن الماضي وحتى التسعينيات من القرن نفسه، كانت هي المسرح الذي دارت على خشبته معارك وعواصف وآمال وطموحات وهزائم. بل ومنه خرجت تيارات ومدارس أدبية جديدة، ومظاهرات صاخبة، وأعمال أدبية وحكايات حب. كما راقبتْ من خلاله أجهزة الأمن حركة المعارضة السياسية ومنظمات الكفاح السياسي على مدى عدة عقود.
قبل القاهرة الخديوية
على أي حال، كان من الممكن أن تخصص ميسون سجلّها بكامله عن ريش، لكنها رأت أن تبدأ من البدايات الباكرة، وإلى جانب التمهيد الذي تضمّن لمحات سريعة عن المكان الذي شغلته القاهرة في ما بعد، خلال العصور الفرعونية، تابعتْ بدأب الموقع نفسه خلال الفترة الرومانية، ثم بعد الفتح العربي، وصولًا إلى تأسيس القاهرة عام 972م في بداية حكم الفاطميين.
من جانب آخر، كتبت واحدًا من أطول فصول الكتاب وأكثرها بحثًا وعكوفًا عن القاهرة الخديوية، وهي وإن كانت امتدادًا للقاهرة المُعزيّة، نسبة للخليفة المعز لدين الله الفاطمي مؤسس الخلافة الفاطمية في مصر، إلا أنها أصبحت في ما بعد الأساس والبداية لكل التغييرات الحاسمة. وكانت حدود القاهرة آنذاك تبدأ من سور المدينة بين بابي الفتوح والنصر شمالًا، إلى الفسطاط جنوبًا، ومن الخليج المصري غربًا (السيدة زينب وقلعة الكبش) إلى القلعة وجبل المقطم شرقًا. وبعد أن تولى محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر، شهدت مصر مرحلة جديدة. وعلى الرغم من استبداده وقمعه، إلا أن إصلاحاته كانت ذات طابع جذري، وهو ما تذكره بوضوح وتفاصيل هائلة عشرات المصادر والمراجع، غير أن ما يعنينا هنا أن بدايات التوسع ومغادرة المدينة القديمة كانت في عهده.
وهكذا، بدأ العمران خارج أسوار القاهرة. في اتجاه شبرا وبولاق أبو العلا وروضة المنيل والعباسية والحلمية. وبتولي الخديوي إسماعيل الحكم بدأت مرحلة جديدة، بل بدأت القاهرة الخديوية التي نعرفها اليوم، بعد تحويل المستنقعات المترامية على جانبي النيل إلى أحياء ومبانٍ وقصور تحيط بها الحدائق والمتنزهات، وتشكلّت الملامح الأولى لمِا بات يُعرف بوسط البلد الآن. وكان الخديوي إسماعيل أثناء زيارته لباريس عام 1867، قد طلب من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المهندس هاوسمان، الذي خطّط باريس، بالحضور للقاهرة لتحقيق حلمه في أن تكون القاهرة قطعة من أوروبا، ومنحه تفويضًا بأن يستقدم معه من يحتاجهم من المهندسين والمشتغلين بالبستنة والفنانين.
وإلى جانب تخطيط الشوارع الرأسية والأفقية على الطراز الباريسي، أنشئت العديد من الميادين مثل الإسماعيلية (التحرير حاليًا) وسليمان باشا (طلعت حرب حاليًا) والتوفيقية والأوبرا، وغيرها، كما أقيمت حدائق كبرى من أكبر حدائق العالم، مثل الأورمان وحديقة الحيوان. وقبل أن يصل ملوك أوروبا إلى القاهرة لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس، كانت أول دار أوبرا في الشرق قد تم بناؤها خصيصًا ليحضر الملوك العرض الشهير «أوبرا عايدة». وفي الوقت نفسه، أنشئت خطوط السكك الحديدية والترام، وسرعان ما تأسس قصر جديد للحكم بدلًا من القلعة، وهو قصر عابدين عام 1872، كما أنشئت العديد من الكباري على النيل، ولا تزال موجودة حتى اليوم.
قطعة من أوروبا
ومع ذلك، فقد انتهى التحديث الهائل، والهلفطة حول أن تصبح العاصمة قطعة من أوروبا، واللحاق بالحداثة والعصرنة. ودعك من أنها كانت حداثة مفروضة من أعلى، مستوردة، ولم تكن تطورًا طبيعيًا للمجتمع، إلا أن كل ذلك انتهى بتوريط البلاد في الديون وفوائدها، وبدأ التدخل الفظ في الشؤون الداخلية، وتعيين وزيرين أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي في الحكومة المصرية لمراقبة مالية البلاد ليحصل الدائنون (وهم لصوص في واقع الأمر) على الأموال الطائلة وفوائدها، بل إن واحدة من النتائج المأساوية للقصة عزل الخديوي إسماعيل نفسه، الذي استضافه ملك إيطاليا، وأمضى بقية حياته منفيًا معزولًا. وتنتقل الكاتبة إلى وسط البلد، حيث تذكر أنها سرعان ما نَمَت، وبلغ عدد العمارات التي تعد تحفًا جمالية في حد ذاتها ما يزيد على 400 بناية، بل على حد تعبيرها «أيقونات» وتضم المنطقة الممتدة بين شارعي شريف باشا وعبد الخالق ثروت، وبين ميدان طلعت حرب وحدها، ما يقرب من 24 عمارة.
قدّمت الكاتبة مسحًا شاملًا ودقيقًا وتفصيليًا لكل البنايات والمهندسين المعماريين الذين قاموا ببنائها، سواء كانوا أوروبيين أو مصريين، والمتاجر الكبرى، مثل عمر أفندي وصيدناوي وشملا، ومقاهي الأوروبيين، مثل جروبي، والفنادق الفخمة في وسط البلد. من جانب آخر، بدأت أحياء جديدة تظهر إلى الوجود، مثل شبرا وروض الفرج وبولاق. وفي شبرا، على سبيل المثال، وبعد بناء مجموعة من قصور أسرة محمد على والمرتبطين بهم، وصف الشاعر الفرنسي والرحالة، جيرار دي نيرفال، الشارع الرئيسي بأنه «بالتأكيد أجمل شارع في العالم».
ما زالت جولة ميسون القاسمي حافلة، فقد قدّمت على سبيل المثال سِيرًا ذاتية موجزة لأغلب المهندسين المعماريين الأوروبيين والمصريين الذين قاموا ببناء تلك الأيقونات المعمارية، كما تابعت أحوال البنايات نفسها، أي التغييرات التي لحقت بها، وكيف مرّ الزمن عليها، كما أفردت لمقاهي القاهرة الشهيرة فصلًا خاصًا. كل ذلك قبل أن تدلف للمهمة الأساسية لمجلدها، أي مقهى ريش.
عام 1908
بدأت ميسون عملها عام 2013 بمسح كامل لمعظم الجرائد والمجلات الورقية التي يحتفظ بها العقيد طيار مجدي عبد الملاك، صاحب المقهى بعد وفاة والده (رحل مجدي قبل صدور الكتاب)، وقامت بحفظها إلكترونيا، وأنقذت تلك الثروة الهائلة من الضياع، وحفظت تاريخًا حافلًا للأجيال القادمة. على أي حال، يعود تأسيس المقهى إلى عام 1908 في عمارة يملكها محمد أفندي الجوهري، وهو جد والدة الروائي الراحل فتحي غانم الذي روى لكاتب هذه السطور هذه الواقعة بنفسه، على قطعة أرض كان مقامًا عليها قصر الأمير محمد علي، ولي العهد، الذي هرب من الزحام والضوضاء، وبنى القصر الهائل الذي ما زال موجودًا حتى اليوم وتحول إلى متحف بالمنيل. قام أجانب بتأجير المكان، وهو أمر كان غالبًا في تلك المنطقة، ومنذ تحويله إلى مقهى ومطعم لم يتغير اسمه حتى الآن، وبعد أن تملّكه مجري ثم فرنسي ثم يوناني ثم إنجليزي، آل في النهاية إلى المصري عبد الملاك ميخائيل، وما زالت أسرة الراحل عبد الملاك تملك وتدير المقهى.
من جانب آخر، هناك محطات رئيسة في تاريخ المقهى، من بينها مثلًا موافقة أجهزة الإدارة على تقديم النشاط الفني والموسيقى منذ عام 1923، وأنشئ مسرح غنّى فيه عمالقة ذلك الزمان مثل صالح عبد الحي وزكي مراد وأم كلثوم، وبعد سنوات قليلة، اشترى أحد الملاك الأوروبيين قطعة أرض تعد امتدادًا للمقهى، وأنشأ كشكًا للموسيقى تُعزف فيه الموسيقى العالمية، جمع من أجله توقيعات من السكان، عندما تعنتت أجهزة الإدارة في إصدار التراخيص اللازمة. شارك المقهى في الأحداث السياسية، بل صنع التاريخ منذ وقت مبكر، فعلى سبيل المثال، اكتُشفت مطبعة قديمة في قبو خفي، أثناء الترميمات التي أجريت بعد زلزال 1992 وهي المطبعة التي كان قد أشار إليها بعض المصادر التاريخية بوصفها إحدى المطابع السرية التي كانت مهمتها طباعة منشورات ثورة 1919. شاهدتُ هذه المطبعة بنفسي وهي صغيرة وقديمة وبدائية بطبيعة الحال.
كما جلس هناك طالب الطب عريان يوسف، منتظرًا مرور موكب رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا، ليلقي بقنبلتين يدويتين، إلا أن رئيس الوزراء نجا من الحادث. أما سبب محاولة الاغتيال فهو تنفيذ قرار الجهاز السري لثورة 1919 لقبول وهبة باشا تأليف الوزارة، في الوقت الذي كانت مصر بكاملها ملتفة حول سعد زغلول، وبعد رفض القوى السياسية التورط وتنفيذ أمر الاحتلال، بل وتدخلت الكنيسة المصرية وطلبت من وهبة باشا الاعتذار لكنه رفض، فتم تكليف قبطي باغتياله تجنبًا لحدوث فتنة بين الأقباط والمسلمين (الطريف أن العقيد طيار مجدي عبد الملاك صاحب المقهى نجح بعد عقود في ترتيب لقاء ودي بين حفيدة وهبة باشا الكاتبة د. فوزية أسعد، وحفيد عريان يوسف، وحضر اللقاء عدد من الكتاب والفنانين).
وبعد سنوات، وتحديدًا عام 1945 جلس على ريش محمود العيسوي الذي تناول قهوته في صباح أحد الأيام، ثم توجه إلى مبنى البرلمان واغتال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء. وفي هذا السياق يذكر يونان لبيب رزق -أحد المؤرخين الثقاة- أن مقهى ريش «منذ عام 1919 وحتى 1952 كان الحلقة الوسطى الصغيرة في القضايا المشهورة التي تسمى الاغتيالات السياسية، هكذا كان يُطلِق عليه البوليس». لاشك أن موقع ريش في وسط البلد بالقرب من مراكز الحكم والمصالح ومناطق النشاط المتميزة، أسهم في أن تحتل تلك المكانة. فتذكر بعض المصادر مثلًا أن جمال عبد الناصر قبل يوليو 1952 كثيرًا ما تردد عليها. كما أن حاشية الملك فاروق اختاروا ريش للسهر منتظرين جلالة الملك فاروق الذي اعتاد السهر للعب القمار في نادي السيارات، وهو على مرمى حجر من ريش.
عصر نجيب محفوظ
وفي عام 1963، طلبت أجهزة الأمن من نجيب محفوظ فضّ الندوة، التي اعتاد أن يعقدها صباح يوم الجمعة من كل أسبوع في كازينو أوبرا، بدعوى تنفيذ قانون منع التجمهر، فانتقل إلى ريش، وكان يعلم أن هناك عددًا من الكتاب والفنانين الشباب اعتادوا التردد عليها، لكنه غيّر الموعد إلى مساء الجمعة، وكان بوسع من يحضروا ندوته المفتوحة أن يضبطوا ساعاتهم على الساعة الخامسة تمامًا على مدى سنوات وسنوات.
أتذكر جيدًا أن صديقي الكاتب الراحل، يحيى الطاهر عبد الله، اصطحبني إلى ريش عام 1969 على الأرجح، وكان عمري آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشر. لم أذهب معه أصلًا من أجل نجيب محفوظ، بل من أجل أن أعيش وأرى هؤلاء الذين كنت أسمع الحكايات عنهم، بل وقرأت بعض أعمالهم في جريدة المساء، التي كنتُ قد نشرت فيها قصتي الأولى «كرنفال» عام 1968 . كنت طالبًا في معهد الخدمة الاجتماعية بالقللي، ومبناه قريب من مبنى دار التحرير، حيث جريدة المساء. وكان أصدقاء شقيقي الأكبر الراحل، عبد العظيم، قد قرأوا القصة وشجعوني للذهاب إلى عبد الفتاح الجمل بقصتي لنشرها. لم يكن الجمل موجودًا، فتركتها له، وقام بنشرها بعد يومين فقط دون أن يراني.
أحكي هذه القصة لأبيّن أنني ولجتُ إلى هذا العالم وأنا في غاية البهجة والسعادة، ولحُسن حظي أنني شاهدتُ مبكرًا المراحل الأولى لإصدار مجلة «جاليري 68» من على مقاعد ريش، وبواسطة جيل من الشباب الناقم الغاضب على هزيمة فادحة كانت قد مرّغت كرامتنا في الوحل، وهي هزيمة 1967. ولعل أهم ما يمكن قوله حول هذه المجلة أنها المحاولة الأولى للاستقلال عن الأجهزة الثقافية والخروج عن وصاية الدولة. جمع هؤلاء الشباب القروش من بعضهم البعض، ودفع كل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس 50 جنيهًا، وأقام الفنانون التشكيليون المؤمنون بالفكرة معرضًا خُصصت حصيلة بيعه لدعم المجلة الوليدة، وشكلّوا من بينهم مجلسًا للتحرير.
كانت «جاليري 68» مختلفة عن السائد والرائج في كل شيء، ودشّنت وقدّمت جيل الستينيات الذي كانت أعماله هي أهم المحاولات التجديدية، وخرجت منه كل الموجات اللاحقة. أصدر هؤلاء الشباب ثمانية أعداد خلال الفترة من أبريل 1968 وحتى فبراير 1971. لم تكن ريش مجرد قهوة في وسط البلد يجلس عليها البعض، بل كانت مقرًا ومستقرًا لهذا الجيل، وكان عمال القهوة مثل فلفل وملك وغيرهما، يسمحون بالشُكك لمن يثقون بهم. وكانت هناك قصص حب أيضًا، وأتذكر جيدًا أن الفنان التشكيلي ثروت فخري انتحر بسبب قصة حب فاشلة، وهو في أوائل العشرينيات، وشكّل موته صدمة مخيفة لنا. ولكن، كانت هناك قصص حب ناجحة مثل قصة الكاتبة عبلة الرويني التي تعرّفت على الشاعر الراحل أمل دنقل في ريش، عندما التقت به لإجراء حوار صحفي لجريدة الأخبار.
ريش أيضًا شاركت في انتفاضة الطلاب عام 1972، وكانت مقرًا لكتابة البيانات المؤيدة لمطالبهم ليلة 24 يناير 1972 بعد أن قام السادات بفض اعتصام جامعة القاهرة، واعتقل قرابة ألف طالبة وطالب، فخرج زملاؤهم في اليوم التالي وقاموا بمظاهرات صاخبة انتهت باحتلال ميدان التحرير. وهكذا خرج أول بيان لمساندة الطلاب من ريش التي كانت على مرمى حجر من الميدان. وفي رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان مشاهد عديدة، يتوجه فيها بعض الكتاب إلى المسارح القريبة لجمع توقيعات من الممثلين والفنانين لمساندة انتفاضة الطلاب. كما خرج منها البيان الشهير عام 1973، الذي وقّعه توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغالي شكري ولطفي الخولي وإبراهيم منصور وبهاء طاهر وعشرات غيرهم، يتضمن رفض حالة اللاسلم واللاحرب التي استمرت ست سنوات متواصلة، وهو البيان الذي ردّ عليه السادات بفصل 111 كاتبًا وصحفيًا من أعمالهم ومنعهم من الكتابة بطبيعة الحال. على إحدى موائدها كتب نجيب سرور «بروتوكلات حكماء ريش»، واتخذها مستقرًا له طوال فترة اضطرابه النفسي، ودارت على موائدها أيضًا المعارك الكلامية بين البعض، وإن كان من النادر أن تصل إلى الاشتباك بالأيدي.
حفلة ابراهيم منصور
أما أجهزة الأمن فقد اهتمت بها اهتمامًا شديدًا، وكنا نعرف المخبرين المتواجدين بصفة دائمة، إلا أن هناك حفلة لا أنساها، وقد نصبها الأديب الراحل إبراهيم منصور لأحد هؤلاء المخبرين، الذي أمضى عدة أيام يتنصت ويحاول فهم ما يدور ليكتب كلمتين في تقريره، ولما فشل اضطر لأن يميل على إبراهيم منصور، بوصفه أطولنا وأكثرنا عصبية وزعيقًا، وسأله: «سيادتك عضو في تنظيم سري؟»
وللقارئ أن يتخيل ردّ إبراهيم منصور على سؤال كهذا!
من على ريش أيضًا خرجت أول مظاهرة في ظل قانون الطوارئ، وقادها يوسف إدريس في يوليو 1972 احتجاجًا على اغتيال الموساد للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت. لحُسن حظي أنني شاركتُ فيها، وكانت تلقائية تمامًا، ودعا يوسف أدريس من يرغب ممن كانوا حاضرين بالمصادفة، كما اصطحبتني الكاتبة الراحلة رضوى عاشور إلى أقرب محل خردوات به هاتف عٍمومي، ورحنا نتصل تليفونيًا بالأرقام الموجودة في أجندتها بأصدقائنا، وفي خلال ساعة كان قد تجمع نحو سبعين كاتبة وكاتب. انطلقنا من ريش، بعد أن كتبنا على موائدها اللافتات التي حملناها، وتوجهنا في مسيرة صامتة من القهوة وحتى نقابة الصحفيين، والمثير للدهشة أن الأمن لم يعترضنا، على الرغم من أننا لاحظنا ونحن نقترب من مبنى النقابة بدء تحركات سيارات الشرطة.
وفي ليلة زيارة أنور السادات المشؤومة للقدس، كتب إبراهيم منصور لافتة ضد السادات احتجاجًا على الزيارة وجلس على ريش، لكن المخبرين أحاطوا به ومن يجلس معه، وحملوهم إلى الداخلية. وهناك أفرجوا عن إبراهيم فتحي ومحمد البساطي وسيد موسى ومصطفى عبد العزيز، بينما اعتقلوا إبراهيم منصور الذي أمضى ثلاثة أشهر قبل الإفراج عنه.
هنا بدأت مرحلة جديدة، وبدأت شمس ريش تغيب.
بدأ الأمن في التضييق على القهوة. ليس معروفًا على وجه التحديد هل امتنع نجيب محفوظ من جانبه عن ندوته الأسبوعية، أم أن الأمن منعها. وبدأ الكثير منا يشعر أننا غير مُرحّب بنا بأشكال مختلفة، كما أن الكاتب علي سالم تجرأ على اصطحاب السفير الإسرائيلي في إحدى المرات هناك. وتقهقرنا نحن إلى الخلف، حيث مقهى زهرة البستان الذي أطلقنا عليه «الاحتياطي الاستراتيجي». بينما أغلق ريش ليس في وجوهنا فقط، بل أغلق أبوابه فعلًا لمدد متفاوتة، وقيل إن السبب هو رغبة الأمن في حصارنا، حتى عام 1992 حين وقع الزلزال الشهير، وأصيب المبنى القديم لريش بتصدعات مختلفة، واستغرق ترميمه عدة سنوات، ثم فتح أبوابه بعد إجراء ترميمات شاملة، وتم فصل واجهته الخارجية عن الشارع بحاجز مبني بالخشب والزجاج، ففصل المقهى تمامًا عن الشارع وعزله.
عادت الروح لفترة قصيرة إليه أثناء ثورة 25 يناير 2011، وعاد بعض الكتاب والفنانين للتردد عليه، لكنه فقد رويدًا روحه وملامحه، ولم يعد مقهى يخصّنا، على الرغم من أن جدرانه الداخلية تحفل بعشرات الصور لأجيال وأجيال من الكتاب والفنانين والمشتغلين بالموسيقى والغناء، اتخذت من ريش مستقرًا لسنوات. لم يعد ممكنًا للواحد أن يشعر بالراحة، ناهيك عن أن الزمان لم يعد زماننا، كما أن ريش لم تعد لنا.
تلك هي قصة المقهى الذي صنع التاريخ على مدى ما يقرب من قرن من الزمان، وفي الوقت نفسه قصة الكتاب أو السجل الحافل الذي أنفقت كاتبته ميسون القاسمي سبع سنوات من أجل إنجازه.
عن (مدى)