هذا الكتاب يبرز معضلة محاولة موسكو الممتدة من الماضي إلى الحاضر، لضم تنوع أوراسي كبير ومتشابك إلى ما تسميه البيت الروسي، وهو ما يغفل هوية وأسماء عشرات الأعراق الأخرى المضطرة لأن تنسب نفسها إلى الهوية الروسية.

«تاريخ روسيا: من القبيلة إلى الأمة»

كتاب يتناول جذور الصراع بين بلدين شقيقين

عـلي عـطا

 

في ظل الحرب التي تشنها روسيا حالياً على جارتها أوكرانيا التي كانت تدور من قبل في فلك الاتحاد السوفياتي السابق، وتسعى راهناً للانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو المناوئ لموسكو، بات من المهم التعرف إلى كثير من المعلومات الخاصة بتاريخ تلك المنطقة وجذور الصراع الراهن. هذه المعلومات يمكن للقارئ العربي أن يجدها في واحد من الكتب المهمة في الجيوبولتيك والتأريخ السياسي وهو كتاب: "تاريخ روسيا: من القبيلة إلى الأمة" (المركز القومي للترجمة – القاهرة) والذي ترجمه حديثاً إلى العربية كل من عاطف معتمد، وسعد سيد خلف، ووائل فهيم.

الكتاب من تأليف ليف غوميلوف، وهو أحد أشهر علماء الجغرافيا والتاريخ في روسيا القرن العشرين. ويتناول الكتاب نشأة روسيا الحديثة وتطورها من مجموعة قبائل بدائية إلى قوة عظمى وتداعيات ذلك على المستويين الإقليمي والعالمي، ومنها الحرب التي تشنها روسيا حالياً على أوكرانيا ويدخل فيها الغرب ممثلاً في أميركا والاتحاد الأوروبي طرفاً مناوئاً للأولى ومسانداً للثانية عبر مساعدات عسكرية ولوجستية لكييف (التي يبن الكتاب أنها كانت يوماً مركزاً لحكم الروس عبر قبائل من الفايكنج) واستقبال لجحافل من اللاجئين الأوكرانيين، وفرض عقوبات شاملة وقاسية على موسكو.

من روس إلى روسيا
العنوان الأصلي لهذا الكتاب هو "من روس إلى روسيا" وقد عدَّله المترجمون إلى "تاريخ روسيا"، ثم ذيَّلوه بعنوان فرعي هو "من القبيلة إلى الأمة". وتشير مقدمة الترجمة العربية إلى أنه على الرغم من مكانة روسيا كقوة عظمى في فترات طويلة أو قوة إقليمية كبيرة تشارك في صنع القرار العالمي، فإن روسيا التي نعرفها اليوم بهذا القدر وتلك المكانة لم تكن في الأصل سوى مجموعة من القبائل البدائية التي عاشت حياة متخلفة بائسة في شرق أوروبا واحترفت القنص والصيد والإغارة وقطع الطرق. كانت هذه القبائل تحمل اسم "روس" وعرفت في بعض المصادر الأجنبية خارج روسيا باسم "روث"، وحمل المنتمي لهذه القبائل اسم "روثيني" أو "روسي". سمع العالم بالروس بوصفهم قوة مؤثرة في التاريخ منذ القرن السادس عشر؛ أي أن عمر روسيا كلاعبٍ في التاريخ لا يزيد على خمسة قرون. لكنها عاشت حياتها قبل ذلك التاريخ وبصفة خاصة منذ القرن السابع الميلادي في مكانة ثانوية تتأثر بالقوى المحيطة بها وتخضع لها أو تعمل لحسابها. كانت هذه القبائل في الأصل جزءاً من مجموعة عرقية أكبر تحمل اسم "سلاف" Slav  انتشرت في المنطقة الفاصلة/ الواصلة بين آسيا وأوروبا من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب.

وقد أشار عدد من المصادر التاريخية العربية إلى هذه الشعوب السلافية باسم "الصقالبة"، وهو مسمى يبدو أنه محرَّف عن النطق اليوناني "صكيلاب" الذي هو بدوره تنويع على مسمى "سلاف". ومن بين كل العناصر السلافية (الصقلبية) تمكنت قبائل "روس" من الانتشار والتماسك وبناء وحدة سياسية. واستعان الروس؛ اعترافاً منهم ببدائية حياتهم، بشعوب أكثر قوة وتنظيماً ليحكموهم! وهكذا جاء القائد روريك عام 862م من شبه جزيرة إسكندناوة ومعه أفواج من الفايكنج واتخذوا من مدينة نوفغورد القريبة من بحر البلطيق مركزاً ليحكموا منه الإقليم الذي تنتشر فيه القبائل السلافية. ثم سرعان ما انتقل المركز إلى مدينة أفضل في الطبيعة والمناخ وتوسط الموقع الجغرافي هي كييف الواقعة على نهر الدنيبر. وسيطلق المؤرخون على تاريخ القبائل السلافية حول كييف مسمى "عصر روس كييف"، وستصبح تلك المدينة "أم المدائن" في شرق أوروبا. وفي ما بين القرنين العاشر والحادي عشر سيستمر صعود "روس كييف" لقرنين قبل أن ينقل الأمراء الروس الموقع إلى موسكو ويعرف تاريخ روسيا مرحلة أو عصراً جديداً يسمى "روسيا الموسكوفية"؛ بداية من القرن الثالث عشر.

كييف وهيمنة الخرز
وكييف، كما ورد في مقدمة الترجمة العربية لكتاب "تاريخ روسيا"، لم تتأسس من عدم فالأرجح أنها كانت في الأصل محطة أسَّسها أمراء دولة الخزر تلك التي امتدت ما بين البحر الأسود وبحر قزوين وبلغت ذروة اتساعها في القرن الثامن الميلادي. واتخذ الخرز من كييف نقطة تجميع الجزية على نهر الدنيبر. وسيظل الروس أسرى هيمنة الخرز إلى أن يتمكنوا من إنزال هزيمة بهم والتحرر من نفوذهم في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي ليصبح الطريق ممهداً أمام القبائل الروسية إلى محور بحر قزوين الذي كانت إمبراطورية الخرز قد أغلقته أمامها لقرون عدة.

شهدت المراحل التي ستمر بها القبائل الروسية منذ القرن العاشر الميلادي لبناء دولة، فصولاً قاسية كي تجد لنفسها مكاناً بين الأمم المجاورة، وأهمها العالم الإسلامي وعاصمته (في ذلك الوقت) بغداد، والعالم المسيحي ممثلاً في بيزنطة وعاصمتها تسارغراد (مدينة القيصر) المشهورة لاحقاً باسم القسطنطينية.

يأخذنا الكتاب في رحلة شائقة لمسيرة قيام الدولة في روسيا الذي جاء وسط تحديات بالغة الصعوبة. ففي الشمال كانت هناك قوة أكبر ممثلة في السويد وليتوانيا وبولندا، ومن الغرب كان هناك بروسيا ومن الجنوب الإمبراطورية البيزنطية، ومن الشرق مملكة الخزر، ثم الإمبراطورية المغولية، ومن وراء كل ذلك العالم الإسلامي الذي تمكَّن من الوصول إلى مشارف الأراضي التي ينتشر فيها الروس في البحر الأسود والقوقاز ووسط آسيا.

تاريخ الأعراق
صحيح أن هذا الكتاب - يقول المترجم عاطف معتمد - هو عن التاريخ، لكنه ليس تاريخ الملوك والأمراء والمعارك فحسب، بل هو بالأحرى تاريخ "الأعراق" وهو ما يعطيه مزايا عدة كما يضعه في خضم عدة تحديات. فمن حيث المزايا يتناول الكتاب سلسلة شاملة من أسماء الشعوب والقبائل التي ساهمت في تكوين روسيا كدولة وشعب وحضارة. هذا الحصر الشامل لكل شاردة وواردة في تاريخ روسيا منذ أن كانت قبائل هائمة على وجهها حتى بلوغها مصاف دولة قوية على الساحة الدولية سيرهق من جانب آخر القارئ المعني بالتاريخ "الوطني". وهو ذلك التاريخ الذي يضعه مؤلفٌ ويقرؤه أبناءُ وطنٍ واحد. ولذلك تكثر في عبارات مؤلف هذا الكتاب صفة الانتساب، فتقرأ دوماً: "وطننا"، و"شعبنا"، و"أمتنا"، و"أرضنا". وهو ما دعا المترجمين في بعض الأحيان إلى تغيير طفيف في هذه العبارات لتناسب القارئ العربي لتصبح "الشعب الروسي"، "الوطن الروسي"، و"التاريخ الروسي." 

ويتساءل معتمد: هل يمكن التعامل مع روسيا التي تعد قوة دولية ولاعباً أساسياً في التاريخ المعاصر ومسيرة الإنسانية من خلال عناوين الأخبار فحسب؟ متى نعرف تاريخ وحضارة هذا الشعب؟ هل إذا عرفنا مسيرة تاريخه ومركب أعراقه سيساعدنا (يقصد العرب) ذلك في علاقات متبادلة قائمة على النور والوعي والإدراك وليس فقط على معالم القشرة الخارجية؟ ويجيب: لنعترف أن الروس يعرفون عن عالمنا العربي أضعاف ما نعرفه عنه. جاء ذلك بحكم الاستشراق وجهود المستعربين الروس والاهتمام ببلادنا لغة وثقافة واقتصاداً. في المقابل فإننا لا نعرف عنهم ولا نترجم لهم بالقدر الكافي.

الشغف الخلَّاق
هذا الكتاب – بحسب مترجميه- يقدم صفحة بالغة الأهمية للقارئ العربي ولصانع القرار ولكل مهتم بالمراكز الحضارية والسياسية في خريطة العالم المعاصر. ويضاف إليه - على سبيل المثال – كتاب "جغرافية السياسة في روسيا"، للجغرافي والسياسي ألكسندر دوجين، وقد ترجمه إلى العربية لحساب لمركز القومي للترجمة، الفريق نفسه الذي ترجم كتاب "تاريخ روسيا".

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن مؤلف كتاب "تاريخ روسيا"؛ ليف غوميليوف (1912- 1991)، لم يكن قريباً من الدولة أو على الأقل محايداً تجاه سياستها، بل كان معارضاً في كثير من الأحيان، وهو ما انتهى به إلى السجن عدة مرات في ريعان شبابه. وعلاوة على المعلومات التي يتحفنا بها غوميليوف والخرائط التي يزودنا بها، فإنه يصنع أطروحته التي اشتهر بها في علم الجغرافيا التاريخية والتي يمكن - بحسب معتمد الذي سبق له العمل مستشاراً ثقافياً لمصر في موسكو- أن نسميها أطروحة الشغف الخلَّاق في الفضاء الأوراسي". فقد تناول المؤلف تاريخ روسيا من حيث أنه في الحقيقة تاريخ للشغف الخلاق للشعوب الأورآسيوية. وهو لا يوقف قصة الشغف الخلاق على أسلاف الروس من القبائل السلافية التي سيطرت على شرق أوروبا، بل يعود إلى ما قبل هذا التاريخ بأكثر من ألف عام متتبعاً الفصول المتلاحقة من دفقات ودفعات الشغف الخلاق التي انتشرت في آسيا وأوروبا بمعنى أشمل وأكثر اندماجاً. ويحسب لهذا الكتاب أيضاً أنه من الكتب النادرة التي تؤصل لجذور علاقة اليهود والروس منذ القرن العاشر الميلادي وتدخلهم في شؤون روسيا خارجياً وداخلياً.

وأخيراً فإن الكتاب يبرز معضلة محاولة موسكو الممتدة من الماضي إلى الحاضر، لضم تنوع أوراسي كبير ومتشابك إلى ما تسميه البيت الروسي، وهو ما يغفل هوية وأسماء عشرات الأعراق الأخرى المضطرة لأن تنسب نفسها إلى الهوية الروسية. ومع ذلك هذا السعي يظل له ما يبرره من جانب روسيا لجهة الفرصة الكامنة في هذا الثراء الطبيعي للأرض التي ضمتها بالتوسع والحرب وما تحويه من معادن وخيرات، فضلاً عما يعيش عليها من شعوب وحضارات متنوعة تثري الحضارة الروسية وتدعمها وترفدها بروافد إبداعية لا نهاية لها وتجعل منها ما يسميه مؤلف هذا الكتاب "شعباً فائقاً" أو ما يقوله حرفياً في مسمى "السوبر إثنوس"، أي "العرق السوبر".

 

 عن (اندبندنت عربية)