أراد فريش أن يختار طريقًا مختلفة عن مجايليه الذين انغمسوا في الكتابة عن مآسي الحرب العالمية الثانية بعد انتهائها، شارحين من خلالها وحشيّة الإنسان أو عنصريّته أو تدميره حتى لنفسه من أجل البقاء حيًا، أو من خلال قتل الآخر. بينما فريش بحث عن ماهية الإنسان وشرح فلسفة المضمون الإنساني وقيمه، من دون قنابل الحرب ولا النازية ولا خوف القتل لسبب من الأسباب المتعلقة بالحرب.

رواية «شتيلر» .. سؤال الهوية والخذلان

عارف حمزة

 

بعد انتهاء القارئ من قراءة رواية ضخمة مثل رواية "شتيلر" يشعر بالشبع الفنيّ، إن جاز التعبير. ويشعر أنه من حسن الحظ أنه تمّت ترجمة هذه الرواية أخيرًا إلى اللغة العربية، خاصة وأن طبعتها الأولى صدرت في لغتها الألمانية عام 1954، لكونها تحمل عدة ميزات سردية وبنائية وتجريبية تجعلها في مصاف الروايات الكبيرة في عالم الرواية العالمية.

والكاتب السويسري ماكس فريش (1911 – 1991) معروف عربيًا لحدّ ما؛ بعد ترجمة بعض أعماله إلى العربية، سواء مسرحياته أو روايته "ليكن اسمي غانتنباين" أو قصته التي أثارت الجدل أدبيًا وعائليًا "مونتاوك"، ولكن أعمالًا مثل "هومو فابر" أو "شتيلر" لا يمكن نسانهما بسهولة.

 ماذا لو؟

منذ البداية أراد فريش أن يختار طريقًا مختلفة عن مجايليه الذين انغمسوا في الكتابة عن مآسي الحرب العالمية الثانية بعد انتهائها، شارحين من خلالها وحشيّة الإنسان أو عنصريّته أو تدميره حتى لنفسه من أجل البقاء حيًا، أو من خلال قتل الآخر. بينما فريش، ضمًن تلك القيم الإنسانية ذاتها، بحث عن ماهية الإنسان وشرح فلسفة المضمون الإنساني وقيمه، من دون قنابل الحرب ولا النازية ولا خوف القتل لسبب من الأسباب المتعلقة بالحرب.

عندما حصلتُ أخيرًا على رواية "شتيلر"، الصادرة عن دار ممدوح عدوان ودار سرد، تذكرت روايته "ليكن اسمي غانتنباين"، التي صدرت في عام 2010 عن وزارة الثقافة السورية للمترجم أحمد حيدر (1941 – 2007)، وما فيها من تجريب ولعب روائي. فهو يتحدث عن ذلك الإنسان الذي ينقاد تحت سؤال "ماذا لو؟" إلى تجارب غريبة وشيقة. كأن يلاحق البطل شخصًا ما في الشارع، ويبقى يسير خلفه لساعات، ويحكي لنا عن الشخص الذي يراقبه، ويُخمن لنفسه وللقارئ حياة ذلك الشخص أو يومه. حتى أنه مرة كان في أميركا، وتبقى على موعد طائرته ساعات قليلة، ويصادف شخصًا غريبًا فيلحقه عدة كيلومترات، محاولًا ألا يفلت ذلك الشخص من المراقبة خلال الحشود الكبيرة للناس. يقوم بهذه المراقبة المضنية دون أن يكون مكلفًا بذلك، ودون أن يكون تحريًا أو مخبرًا. ولكنه ربما انقاد تحت ضغط السؤال: ماذا لو كان الشخص مكلفًا بمراقبة شخص ما؟.

ضمن تلك الرواية أيضًا يشترى البطل نظارة عميان ويتصنّع العمى، وينتبه للناس ومعاملتهم له كأعمى، وينتبه كذلك للشخص الأعمى الذي تقّمصه ويقوم بدوره. وهكذا يجرّب فريش حكايات وحالات جديدة في أسئلة ومواضيع الكتابة الروائية.

فضيحة

في روايته "شتيلر" يختار فريش شخصيتين رئيسيتين هما شتيلر وزوجته يوليكا. شتيلر كان مواطنًا سويسريًا شارك متطوعًا في الحرب الأهلية الإسبانية، وفشل في الأمر الوحيد الذي طلبوه منه؛ وبدل أن يطلق النار على أفراد الطرف الآخر، أسروه وقيّدوه ورموا بندقيته. كانت فضيحة ستلاحقه في كل مكان، رغم أنه تحدث عن تلك التجربة المريرة بطرق مختلفة، وبأنه لم يكن يريد أن يقتل أحدًا. سيعود إلى سويسرا ويتزوج من راقصة الباليه الشهيرة، ولكنه سيختفي فجأة لستة أعوام.

شتيلر سيعمل في النحت، ولن يجد بسهولة اعترافًا بعمله، وسيتلقى سيلًا من اللوم من نفسه ومن الآخرين الذين كانوا ينظرون إلى زوجته كملاك لا يستحق عقوبة الارتباط بشخص غامض وفاشل مثل شتيلر.

زوجته ستكون مريضة بالربو ومن ثم بسرطان الرئة. سيتخلى عنها شتيلر وهي في المصح، لا بل سيعشق امرأة متزوجة "زيبيله"، وسيتركهما ليختفي.

الرواية ستبدأ من مكان آخر. من زنزانة في السجن وفيها سجين أعطوه كراسات فارغة وأقلامًا ليكتب سيرة حياته. ذلك السجين سيكتب أول جملة في الكراسة، وفي الرواية، "لستُ شتيلر"!

عندما قبضوا على ذلك السجين "مستر وايت" شكت السلطات بأن جواز سفره الأميركي مزور، وبأنه أدولف شتيلر المطلوب القبض عليه بسبب قضية تجسسية سميت بقضية "سميرنوف".

يرقات العمى

سيكتب السجين ست كراسات عن حياته في أميركا والمكسيك، وبالتوازي عن المفقود شتيلر الذي يشكون بأنه هو. حكايات من أميركا والهنود الحمر وجرائم قتل ارتكبها وايت هناك. وسيرة سويسرية لشتيلر الذي يحاصره محاميه والقضاء من خلال جلب زوجته وأصدقائه وحتى خصومه ليتعرفوا عليه. بل يذهبون به إلى أماكن سابقة له وكذلك الأتيليه الخاص به. ولكن دون أن يكون هو الشخص المطلوب.

عندما تأتي إليه زوجة شتيلر تشعر أنه شتيلر نفسه وليس وايت، رغم أنه تغير شكلًا وسلوكًا. طوال 400 صفحة يأخذنا فريش في رحلات غريبة وعجيبة في المكسيك وأميركا، ويقدم حكايات، بعضها طويل يصلح كرواية منفردة، مثل حكاية ريب فان فينكله. بل يصنع حكايات قصيرة تبدو مجلوبة من مكان لا يخص السرد الأوروبي؛ مثل ما جاء في الصفحة 38: "في مزارع البن تعيش ذبابة تتسبّب قرصتها بداية في حدوث دمامل يمكن التخلص منها؛ لكن ليس هناك طبيب، ولا نقود من أجل طبيب. عندئذ تتغلغل اليرقات وتصل إلى الدم، وفي النهاية إلى العينين اللتين يسيل منهما سائل لزج أبيض يميل إلى الصفرة. تشبه العينان عندئذ بيضتين مقليّتين". لكي يشرح لنا الأعداد الهائلة من المتسولين العميان هناك. حكايات كثيرة مثل حكاية إيزيدور الصيدلاني الذي كان يحب امرأته ولا يتحمل أسئلتها، وهجر بيته بسبب ذلك. وعندما عاد بعد سبع سنوات، غادرها وغادر أولادهما الخمسة بعد عشر دقائق، لأنه لم يتحمل سؤالها له عن غيابه وعن عدم إرساله ولو بطاقة بريدية واحدة طوال سبع سنوات.

حكايات وحكايات يكتبها فريش بسرد ممتع ومذهل، ولكنه يحكي كذلك عن ماهية هذا السرد أيضًا. "فالقصص المخيبة للآمال تحديدًا، القصص التي ليس لها نهاية صحيحة، وبالتالي ليس لها مغزى حقيقي، هي التي تبدو قريبة من الحياة".

الاستغراق في الهوية

كثير من الصفحات تبدو مثل محاضرات عن الاشتراكية والشيوعية والعمران القديم والحديث، وعن طبائع الشعب السويسري وتشريح أسباب هذه الطبائع، ولكن أهم من ذلك هو استغراق ماكس فريش في تشريح الدواخل الإنسانية وكيف تخضع للهوية، وكيف تهرب من الهوية، وكيف تقضي على حياة الشخص بسبب عدم فهم الهوية. هذ الاستغراق في الفلسفة الإنسانية للفرد والجماعية لا تأتي فقط سرديًا، بل يستخدم حتى الحوارات لشرح مقولاته الفلسفية. وكيف أن الإنسان يعيش ليخفي حياته الحقيقية، وعندما يقدّمها للناس تكون غير قابلة للتصديق. وهم الحقيقة ووهم الهوية استغرق أكثر من نصف هذه الرواية. "ماذا يعني الحب؟ أنا لم أستطع نسيانه. هذا هو كل شيء. مثلما لا ينسى المرء الهزيمة. لماذا عدتُ؟ بدافع من السُّكر يا عزيزي، بدافع من العند. يا لآرائك النبيلة! اذهبْ إلى كازينو قمار، وتطلّع إلى الذين يواصلون اللعب عندما يخسرون، ويواصلون. هكذا تمامًا! لأن ثمّة نقطة إذا وصلت إليها لا يعود ثمّة معنى للاستسلام. بدافع من العند، نعم، من الغيرة! قد تفقد امرأة عندما تربحها.." (الصفحة 508). بعد 400 صفحة يقول وايت الحقيقة؛ بأنه شتيلر، ولكن بعد حكايات ومغامرات وبعد اختلاق حكايات ومغامرات، وبعد مقاومة شديدة منه، ولكنه يعترف وينتهي به المآل بأن يعيش في فقر مدقع مع زوجته الجميلة الفاتنة في مزرعة مستأجرة. سيعيش مع زوجتيه لعامين قبل أن تموت بسرطان الرئة، وينهار شتيلر تحت مطارق أسئلة الحب والزواج والخذلان وعدم المغفرة وعدم الشعور بالآخر.

رواية تستحق عناء قراءتها، وهذا العناء هو بسبب موجات الفلسفة العالية والمختلفة، وهي ليس رواية واحدة، بل كثير من الروايات القصيرة والجديدة والمثيرة لكل قارئ.

لم تكن الترجمة وحدها تستحق هذا الامتنان؛ بل حتى غلاف الرواية. فما إن ينتهي القارئ من الرواية ويغلقها حتى يُشاهد الغلاف الذي وضعته نجاح طاهر. سيشاهد القارئ في الخلفية حشدًا من الوجوه لجنود خائفين، وفي المقدمة وجهان لرجل وامرأة. وجهان بملامح ممحية. الرجل له أذنان ولا شيء سوى ذلك. والمرأة ممحية الملامح بصورة أقل. عمل فني مبدع كذلك من نجاح طاهر التي ترى بأن "الغلاف صورة موازية للنص".

رواية عظيمة هي رواية "شتيلر"، وهذا الشعور الفائض من السعادة في القراءة الذي ينتاب القارئ لا بدّ أن يجعله ممتنًا لتلك الترجمة السلسة، رغم صعوبة مزاج الكتابة لدى كاتب إشكاليّ وتجريبيّ مثل الكاتب السويسري ماكس فريش، وضخامة الرواية من حيث عدد الصفحات، التي أنجزها المترجم المصري المعروف سمير جريس.

 

عن (ضفة ثالثة)