الرواية بين السرد والوصف/
لا خلاف في أن السارد في الرواية الأحادية الصوت ــ موضوعياً كان أم ذاتياً ـــ هو الماسك بزمام السرد والمتحكم فيه، يوزع الأدوار بين شخصياته توزيعاً مقصوداً. وإذا حددنا القول في السارد الموضوعي وجدنا أحادية الخطاب بادية في طريقة تماهيه مع شخصية ما من شخصياته، معطياً إياها مركزية سردية أكثر من غيرها، مبئراً الأحداث لصالحها وقد يتمسرح في أفعالها ويشارك بفكره في حواراتها برؤية من الداخل أو الخارج. وهو ما يجعل هذه الشخصية محورية ببطولة دراماتيكية حية وحرة أكثر من غيرها من الشخصيات الأخرى التي لا يتاح لها التعبير إلا في سياق ما تؤديه الشخصية المحورية من أفعال وأقوال.
وليس مثل اللغة وسيلة بها يتمكن السارد من التماهي مع هذه الشخصية فيستعمل مختلف أساليب التعبير الكلامي مفيدا من تقانات تيار الوعي كالمونولوج والتداعي الحر والحوار المروي أو أنا الراوي الغائب والحوار المباشر وغير المباشر. وأهم ما تعنيه مركزية السارد الموضوعي أنه ذو منظور إيديولوجي يعبر عن وجهة نظر أحادية.
وعلى الرغم من وجود الشخصية المحورية، فإن دور هذا السارد يظل فاعلا في السيطرة على الشخصيات التي لا تستطيع شيئاً من دونه لأنها غير مؤهلة لأن يكون لها صوتها الحر والمستقل ولا هي قادرة على بلورة وجهة نظر أيديولوجية خاصة بها تعبر عن ذواتها بمفردها.
وهذا الذي يشيع توظيفه في الروايات المونولوجية أو الأحادية يخالف ما في الروايات البولوفونية التي فيها تتعدد الشخصيات بتعدد السرّاد ومعهم تتعدد وجهات النظر، وأهم ما يعنيه التعدد اللساني في وجهات النظر المؤلفة للخطاب السردي هو أن الشخصيات قوية غير مهزوزة تفيد من ديمقراطية السارد/ المؤلف فتعبر عن ذواتها بصوتها غير مراقبة ولا مرصودة مجازاً.
فتغدو الرواية موسومة بانها ذات منحى حواري، وخطابها يكون دراميا. ولا يعني التعدد أن كل شخصية تعيد سرد أحداث القصة، بل قد تتناوب في سرد الأحداث فيكون التعدد (مدركا بوضوح على صعيدين: على صعيد السارد وحسب منظوره الغيري الدلالي والتعبيري ثم على صعيد الكاتب الذي يعبر عن نفسه بطريقة منكسرة داخل ذلك المحكي ومن خلاله والسارد نفسه وكل ما هو مسرود يدخل سوية داخل منظور الكاتب)[1]
وصارت لهذا التعدد في بنية الخطاب السردي تبعات وصلت بالرواية الى اللارواية أو الرواية المضادة أو الميتارواية. وعلى الرغم من ذلك، فإن التعدد لا يلغي التجنيس الروائي مما كان باختين نفسه قد أقرّ بمعياريته.
وشتان بين حوارية تريد إفراد كل شخصية لوحدها وبخصوصية واستقلالية متحررة من ربقة سارد ليس له أية نيابة أو وصاية أو تبعية عليها، وبين شخصية تتكلم بصوت ساردها الذي ينوب عنها في التعبير عن خصوصيتها. ومحصلة هذين الحالين أن يغدو المنظور الروائي واحداً من اثنين؛ فأما هو متعدد الاصوات والرؤى، وأما هو أحادي الصوت والرؤية.
ولكن ألا يجدر بنا أن نتساءل عن مدى إمكانية السارد الموضوعي أن يكون ضامناً مركزيته وفي الآن نفسه لا يحول دون أن تكون لشخصياته استقلاليتها داخل منظومته السردية، سامحا لكل واحدة منها أن تمتلك بنفسها صوتها بحيث لا يتعارض تعددها اللساني مع مقصدية السارد في التعبير عن وجهة نظر أحادية ؟
بعبارة أخرى هل يمكن للشخصيات أن تكون حرة وتتكلم باستقلالية وديمقراطية مع انها تحتاج من ينوب عنها في التعبير عن نفسها متحكماً في مصيرها وهي تؤدي دورها السردي؟
لا شك في أن مثل هذا التصور غير معقول ولا منطقي إذ كيف يكون الخطاب أحادي الصوت على مستوى السارد وحوارياً على مستوى الشخصية وبعبارة أوجز لا يمكن للرواية أحادية الصوت أن تكون مثل نظيرتها متعددة الأصوات وفي مصاف فواعلها السردية.
بيد أن هناك حالة واحدة فيها يكون الخطاب السردي غير واقعي، أي يتجاوز منطقة العالم الموضوعي الذي تتحكم فيه المحاكاة الأرسطية ليدخل في منطقة غير واقعية تنماز باللاطبيعية سواء في أنماط الخطاب اللغوية أو في أساليب الوصف وبناء الأمكنة، وعندذاك سنتصور الخطاب السردي الاستحالي واللا منطقي خطاباً ممكناً وطبيعياً حاله حال الخطاب السردي الواقعي.
وهذا التلاقي المجازي الذي يجعل غير الواقعي كأنه واقعي وما يتبعه من اختلاف في استراتيجيات قراءة مظاهر هذا النوع من السرد هو ما صار يهتم به علماء جمعوا السرد بالعقل بدءاً من نظرية ديفيد هيرمان في السرد المعرفي ومروراً بنقاد السرد ما بعد الكلاسيكي مثل جميس فيلان وجيرالد برنس وروبين وارهول وانتهاءً بطروحات السرد غير الطبيعي عند كل من جان ألبير وبريان ريتشاردسون وهنريك سكوف نيلسن وستيفان إيفرسن وماريا ماكيلا والصيني بيو شانغ وغيرهم.
وقد كشف هؤلاء النقاد عن منهجيات في دراسة الفواعل اللاممكنة في السرد غير الطبيعي وتحليل تمثيلاتها الخيالية غير المتجانسة وإمكانيات السارد بضمير الشخص الأول أو الثالث في تجاوز نمطية السرد الواقعي وصنع عوالم مستحيلة باستعمال أساليب وأشكال جديدة على المستويين الثيماتي والبنائي مما هو حاصل في أعمال قصصية وروائية لبيكيت وبورخيس وكالفينو[2].
ومن الاستراتيجيات المعتمدة في السرد غير الطبيعي ـــ والتي لا فرق فيها بين رواية ذات صوت واحد ورواية ذات أصوات متعددة ــ إستراتيجية(العناصر غير الطبيعية) التي طرحها الناقد الصيني بيو شانغ، مبيناً أنه كلما زاد عدد العناصر غير الطبيعية في النص السردي، تضاعفت اللاطبيعية وغدا الخطاب هو الوسيلة في التجسيد السردي وهو الغاية أيضا في التعبير عن نفسه بنفسه وليس التعبير عن الواقع وهو ما سماه شانغ "الانتباذ الوجودي".[3] الذي من خلاله يكشف السارد أو السراد عن وجهة نظر ايديولوجية واحدة أو متعددة تستاء من العالم مغتربة عنه ومتطلعة الى عالم آخر فيه تجد ذاتها.
ويمكن للمكان أن يكون عنصراً غير طبيعي بالوصف كتقنية تجعلنا (أمام علم عروض معمم مليء بالمغامرات التي لم يسبق أن سمعنا بها)[4] وذلك من خلال جعل الموجودات غير الحية فاعلة بصوت سردي، فيه ومن خلاله تتمظهر الحيوات المسرودة وصفياً. وبالشكل الذي يسمح للسارد الموضوعي أن يؤدي دوراً مختلفا تمويها ومخاتلة فلا تبدو الشخصيات واقعة تحت سيطرته وإنما هي منقادة ظاهرياً للمكان الذي صارت صوره الوصفية هي المحركة للشخصيات باطنيا وفعليا.
وبهذا يغادر الوصف وظائفه المحددة التي اعتاد النقاد التعامل معها من قبيل انفصال الصورة الوصفية في الرواية الواقعية عن الصورة السردية أو من ناحية توظيف رواية تيار الوعي وصف الاشياء لاظهار دواخل الشخصيات أو من ناحية ما استعملته الرواية الجديدة من وصف شعري به يصنع السارد عالما يعاكس العالم الموضوعي ويدخل معه في صراع[5].
إن وظيفة الوصف في السرد غير الطبيعي هي الاستثمار اللساني الذي يجعل مهمة الكتابة تتلخص في( أن تجمع بجرة قلم واحدة بين واقعية الافعال ومثالية الغايات ..حيث المسافة الفاصلة بين العمل والقيمة ملغاة في فضاء الكلمة ذاتها)[6] وكان فلوبير قد أسس لهذا النوع من الكتابة التي تجعل القارئ يسرح ( كما لو أنه في طبيعة صاخبة بالاصوات الاضافية حيث تميل علاماتها الى الاقناع اكثر مما تميل الى التعبير)[7].
ولا شك في أن هذا التجريب لعنصر المكان بطريقة غير طبيعية يكشف عن أمرين: الأول ما للحيوات من تهميش واضطهاد تمارسه الموجودات غير الحية عليها، والثاني مركزية المكان التي تجعل له صوتا يغيب فيه صوت السارد الموضوعي الذي سيبدو كأنه غير موجود. وهو ما يجعل هذا النوع من الروايات أحادية الصوت منضوية في خانة الأدب ما بعد الحداثي.
والقصد من وراء توظيف المكان عنصرا غير طبيعي ـ به تخرق الاشياء أو الموجودات العالم الموضوعي ـ هو إعادة إنتاج هذا العالم. وبتحول الوصف المكاني إلى فاعل سردي يصبح كل شيء ـــ كان خارجا عن المألوف ومضادا للتقليد ومنافيا للمنطق ــــ مألوفاً وتقليدياً ومنطقياً.
ومركزية الوصف المكاني تعني أن له وجهة نظر فيها تتكشف القطيعة بين حياة ذات علاقات اجتماعية تعيشها الشخصيات وبين حالة انعزال نفسي واغتراب ذاتي تتسلطان عليها. وهو ما يكون التعبير عنه بسيناريوهات مستحيلة أو بمشاهد دراماتيكية وبارانومية غير محتملة، كل شيء وارد فيها على سبيل الاستعارة كتعابير لسانية غير ممكنة واقعيا لكنها منطقية سرديا.
ومن الروايات أحادية الصوت المبكرة التي فيها اتخذ الكاتب الوصف عنصراً غير طبيعي، رواية( خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان. والمنشورة عام 1967 وفيها نجد أن( ما يحدث ..هو اللغة وحدها.. مغامرة اللغة التي لا ينقطع الاحتفال بمجيئها أبدا)[8].
ويعد الدكتور شجاع العاني من أوائل الذين درسوا الوصف في الرواية العراقية وتوصل إلى( أن عنصر الوصف في هذه الرواية كان وما يزال عنصرا ضامرا وثانويا تابعا للسرد الذي يعد العنصر الأول في هذه الرواية)[9]. علما أنه درس الوصف في روايات غائب طعمة فرمان جميعها باستثناء رواية (خمسة أصوات) لم يقف عندها، ربما لأنه لم يجد فيها ما يماشي الوظائف الواقعية للوصف وهي التزيين والايهام والتفسير.
ولاجل الوقوف بدقة على الآلية التي اتبعها السارد الموضوعي في توظيف الوصف عنصرا غير طبيعي في هذه الرواية، فإننا سنقف عند المسارات التي سلكها والاهداف التي سعى إلى تحقيقها.
اولا /مسارات الوصف غير الطبيعي /
ابتدأ غائب طعمة فرمان مشواره الإبداعي مع الشعر، فكتب القصيدة قبل أن يكتب القصة ثم تحول إلى كتابة الرواية فكانت( النخلة والجيران) عام 1966 أول رواية له، وهي تحفل بمناح شكلية وسردية تدلل على أن هناك مرحلة تجريبية تمخضت عنها ولادة كاتب روائي لا تعنيه الواقعية بقدر ما يعنيه الإنسان، ولا يستهويه تصعيد الحبكة بقدر ما تستهويه اللغة في بعدها اللساني كأشكال تعبير وطرائق كلام في شكل حوارات ومونولوجات، تجعل القارئ في تماس مباشر مع عالم الشخصيات وهي تعبر عن مكنونات دواخلها.
وهو ما أكدته روايته(خمسة اصوات) التي كانت كسابقتها ( النخلة والجيران) بسارد موضوعي ووجهة نظر ايديولوجية بيد أن هناك أمرين جديدين جرّبهما الكاتب لأول مرة فيها؛ الأول تجلى على المستوى الكتابي بفضاء وصفي ذي ميزة لسانية غير طبيعية، والآخر توضح على المستوى القرائي بفضاء سيميائي، فيه العنوان الرئيس تجميعي( خمسة أصوات) وعنه تفرعت العنوانات الفرعية في شكل فصول تحمل ترتيبا عدديا غير منتظم من الأول إلى الخامس وتنتهي بجمعها في آخر فصل مرة أخرى بـ( خمسة اصوات).
وتلخص دور السارد الموضوعي ــ الذي تقلصت مهامه السردية بسبب مركزية الوصف غير الطبيعية ــ في مجرد التناوب على مسروداته الخمسة لتكون حصة كل شخصية في السرد متفاوتة عن غيرها، فكانت حصة الشخصية الاولى( سعيد) اثني عشر فصلا والشخصية الثانية( ابراهيم) خمسة فصول والثالثة(شريف) سبعة فصول والرابعة( عبد الخالق) خمسة فصول والخامسة( حميد) ستة فصول. وقد عد النقاد هذا التفاوت يشي بتوال موسيقي وبسببه تعددت الأصوات بحسب الناقد فاضل ثامر[10] وتعددت الرؤى وليس الأصوات بحسب الناقد د. شجاع العاني[11].
ولعل السبب في اختلاف الناقدين حول هذه الرواية يكمن في أنهما عُنيا بسيميائية البعد القرائي عنوانا ومتنا، مهتمين بالطريقة التي اتبعها السارد وهو ينتقل من شخصية إلى أخرى وقد أعطى لسعيد الثقل الأكبر في التعبير عن منظوره الايديولوجي.
إن توظيف الكاتب للوصف بطريقة غير طبيعية هو الذي يجعل المكان عنصرا خارقا لواقعية الرواية فيغدو العالم الموضوعي غير واقعي وصفياً لكنه منطقي بوجهة نظر إيديولوجية. وهو ما يجعل القارئ موهوما بالبعد اللساني للصورة الوصفية التي فيها يبدو المكان متكلما يسرد قصة الشخصية من جهة، ومتصورا من جهة أخرى غياب السارد صوتا واستقلال الشخصية حضوريا، لكن المفارقة أن هذا الخرق المكاني في رواية(خمسة اصوات) ليس سوى إيهام يعزز دور السارد الموضوعي ويمكنه من توصيل وجهة نظره الإيديولوجية عبر إتباعه المسارات الآتية:
1 ) انشطار العالم السردي: إذ على الرغم من تعاكس توظيف الوصف بصورة غير طبيعية داخل خطاب واقعي، فإن كلا من الوصف والسرد بديا متناغمين وطبيعيين، بدءا من المستهل وفيه يصف السارد سعيدا وصفا بانوراميا بضمير الشخص الثالث، وهو بلا حول ولا مشيئة إزاء موجودات تمركزت فصارت ذات إرادة وعنفوان( تقاذفته الأزقة مثل أرجل إخطبوط هائل كل زقاق يسلمه الى زقاق اخر مثله ازقة تتشابك. تتفرع وتضيق. تدور حول نفسها. ومناظر تتكرر وبيوت متلاحمة الجدران وابواب حافية وابواب على عتبات وشناشيل ملونة بالوان حزينة مثل جو المواكب الدينية واطفال يتراكضون وقطط شاردة.)[12] فلا طبيعية الوصف جعلت المكان هو الفاعل السردي بينما غدت الحيوات خاضعة له مسلمة لمشيئته.
وبالوصف الشعري تصبح موجودات العالم الموضوعي ناقمة على الشخصية ومتضادة معها واكثر قربا منها واحتكاكا بها تضادا وعداء، كالقميص( من بعيد قتم قميصه الاخضر ولسع وجهه لمعان احمر محتقن.. احس بدبيب الرهبة يتمشى تحت جلده هذا هو الدكان اذن وفي هذا الزقاق بيتها)[13] وكالعباءة( ليل العباءة الاعمى المنتهي بمجرة النجوم عند انعكاس الشمس على الشريط البارز من شعرها عند حد العباءة )[14] وكالثياب السود(كانت جيوش الظلمة تتجمع ..من داخل السوق المسقف ليسود سلطان الظلام وكان المقهى وراء ظهره قد همد)[15]
وبسبب هذه التضادية التي عكستها الصور الوصفية احتلت الأشياء مكانها كفواعل داخل السرد بينما تنازلت الشخصيات عن فاعليتها بطريقة غير منطقية، وبدا السارد الموضوعي مشطورا بصورة تمويهية بين وصف فواعله حاضرة( موجودات مكانية) ووصف فواعله( الحية) مغيبة وخامدة. اما اهداء الروائي عمله إلى( أصدقائي في صراعهم مع أنفسهم ومع الآخرين) فإن فيه دلالة على نوع آخر من الانشطار، تجسد في شخصيات الرواية الخمسة التي كلها رجالية تجمعها الثقافة والخمرة وتفرّقها الردة الثورية والتبعية الاستعمارية، فغدت على مستوى الوصف مهزوزة النفس ومسلوبة الإرادة واقعة تحت ضغط عالم لا يرحم، مثل سعيد الذي قهرته الهيلكوبتر وهي تريه بغداد الغريقة من الجو، فعرف أن العالم هو(كل شيء قابل للفرجة حتى مآسي الناس والبيوت المغمورة بالماء والناس المشردين)[16] والخمرة هي التي تتحكم فيه( الخمرة التي تتمشى في اوصالي الان ارتخاء، اعجز عن رفع يدي رؤى صامتة على خلفية مظلمة كالليل ذكريات سيل عات من الذكريات ..ان هذه القطعة من الارض ستلحد فيها في الساعة الفلانية من اليوم والشهر الفلانيين ..ستكون مفتح العينين ولكنك ميت وستتكلم مع الناس ولكنك ميت ستاكل كما ياكل الاموات)[17]
وقهرت شريف تناقضات باب المعظم بينما قهرت الخمرة حميدا، فصار يداوي بالإدمان استياءه من العالم حوله وعدم توافقه معه( كرع جرعة اخرى في ياس من امره وكراهية وبدات الاشياء تتضخم في خياله وتكشف عن عدم احتمالها وتزرع في نفسه النقمة اللارادية مثل فواق جاء غير مدعو وصارت للاشياء ظلالها ومحموميتها وتوهجها الاسود وكأن دخانا اخذ ينتشر في ماقيه ويغلف كل المنظورات ويجعل الليل ليلين)[18] ولهذا وصف سعيد( الخمرة ينبوع الأوهام)[19]
ومثل الخمرة الثقافة التي قهرت سعيدا( انا والسل جرثومتان تقتاتان على عافية أبي)[20]
وهذه اللاطبيعية في سلب الانسان إنسانيته والحاقها بالأشياء هي تغليب لعنصر المكان على حساب عناصر السرد الأخرى، مما يوحي للقارئ بغياب السارد واستقلال الشخصيات وبمنظور تعبيري متعدد بينما الحقيقة أن التضاد لساني بين لا واقعية الوصف وواقعية السرد فتعزز مركزية السارد الموضوعي بشكل غير مباشر لكنه ظاهر ومترشح من خلال المنظور الايديولوجي الأحادي في رؤية العالم.
2) دراماتيكية الوصف الشعري: فالوصف لا يأتي قارا بصور ساكنة وانما هو مفعم بالحركة بما يحقق مزيدا من اللاطبيعية فتغدو الموجودات المكانية أكثر أنسنة وسطوة على الحيوات المسرودة وأشد قسوة عليها، فمثلا صورة النهر الوصفية وهو كالحبلى في مكان مقفر( كانت دجلة تفوح برائحة طين نقي وهي تجري منتفخة البطن وراء صف المقاهي المقفرة)[21] أو رسم المحلة كائنا مريبا( كل محلة من هذه المحلات عائلة واحدة موزعة على بيوت قد يتخاصمون فيما بينهم ويتناطحون ولكنهم في الشك بالغريب سواسية)[22]
أو وصف بناية الجريدة التي عمل فيها سعيد وابراهيم كعجوز تقادم عليها الزمن ومعها تقادم الحلم ولم يعد فتيا( كانت الجريدة بناية هرمة حدباء متطامنة شهدت جانبا من العهد العثماني وكل الحكم الوطني وفيضانات دجلة السخية واصداء المعارك الوهمية في دائرة الاختام المجاورة لها .وفي البناية غرف وثلاثة سراديب سقوفها شبيهة بصدر حمال عجوز يحمل اكثر مما يستطيع..وامتلات الحجرة في الطابق الثاني بزوار كثيرين وتحولت الى بوتقة حامية تغلي شكاوى واخبارا واشاعات ومشاريع عن الحكم الديمقراطي في العراق)[23]
وبالدرامية غدت مقاهي شارع الرشيد وازقته والنهر الذي يحاذيه اكثر هيمنة على الشخصيات وبلا رحمة( هذه المناضد الفارغة ستجلس عليها العفاريت في الليل لتحرس اثار خطاه وهذا النهر المعدني المعربد المسمى شارع الرشيد سيعبره ليطل على زقاق منحدر مثل قائد مغولي يطل على ارض المعركة قبل ان يخوضها)[24]
ودراماتيكية وصف الخمرة ولا طبيعية اثرها جعلت منها الاكثر جبروتا على الشخصيات من كل الموجودات( كانت تستل إرادته بخفة وتضع مكانها إرادة أخرى طافت في رأسه أفكار جديدة مثل نيازك صغيرة كانت تمر في سماء نفسه بسرعة خاطفة ثم تختفي. خلقت الخمرة آلاف البوادر والاحلام باشياء جديدة ثم ماتت في الحال طيوف الاشياء لذيذة تركض في دروب شرايينه بسرعة لا يلحق بها عقله المتاني المهموم) ص81.
وكلما زادت دارماتيكية الوصف اللاطبيعي، خمدت الشخصيات وتباعدت عنها حيويتها مشيأة ازاء موجودات مؤنسنة بسلبية وحاكمية موجهة اياها الوجهة التي تريدها، فكان سعيد في هذه الصورة الوصفية محاصرا تخنقه موجودات العالم من حوله( رأى سعيد الزقاق يمتد امامه ضيقا عميقا الى مالا علم له به .. وخطا الخطوات الاولى في الزقاق مضطربا وكانه لا يدلف بين حائطين بل بين صفين من الجنود)[25] .
وعلى الرغم من هذا الوصف الدراماتيكي الذي تصنعه مخيلة شعرية لا تخضع لقانون المحاكاة، فان خط السرد الواقعي لا يتضارب مع خط الوصف غير الطبيعي( إن هذه الازقة الملتوية المؤدية إلى شارع الرشيد تشعره بطمانينة اكثر مما يشعر بها ببيته الهادئ عبر شارع الرشيد أمام وزارة الدفاع واحتواه ضجيج الحياة الذي يبدو فيه متوحدا مستقلا بذاته هنا في بحر الأصوات المتلاطمة يجد صوت نفسه مثل رائحة جريدة يمكنك ان تشمها بين عشرات النسخ القديمة)[26] بمعنى أن التضاد بين اللغة الواصفة غير الطبيعية وسردية الواقع الموضوعي، لا يؤثر في مسار الحبكة وتطور الشخصيات على طول الرواية وعرضها، بل هو يولد شعورا بالخوف واللا طمأنينة التي منها تتشكل وجهة النظر الايديولوجية.
والمتحصل من وراء دراماتيكية الوصف غير الطبيعي أن جسَّد الخطاب السردي واقعا مشهديا ممزوجا بوصف غير واقعي فيه الأشياء فواعل مصورة وواصفة والحيوات مفعولات موصوفة. وهو ما يحفز السارد على التدخل ليؤكد وجوده بطرق مختلفة منها أن يفكر بأسئلة غير منطقية يضعها على لسان المسرودات( ألم تسمع بناس ولدوا متزوجين؟ .. أليست مأساة حقيقية ان يولد الإنسان متزوجا مثلما يولد الحمار وعلى ظهره حمل) وقد يعمل العكس بأن يجعل المجردات هي التي تفكر كالضمير مثلا الذي بدا في هذا المقطع فاعلا يسأل( عجيب هذا الضمير الانساني مع انه يعيش في داخل الانسان الا انه لا يخضع لنظام جسمه ولا لقوته وضعفه احيانا يمرض بامراض فتاكة بينما يظل في عافية الثيران جسميا وأحيانا يتحجر كالغرانيت في جسم ما يزال يحتفظ في الظاهر بطراوة الدم واللحم)[27] وهذا ما يضفي على السرد مزيدا من اللا طبيعية الموهِمة بالواقعية.
والمتولد من تضاد الشعري والفكري أن مركزية السارد الموضوعي لا تتمظهر إلا من خلال وجهة النظر الايديولوجية المعبرة عما في العالم الموضوعي من صراع نفسي واحتدام شعوري.
وعلى الرغم من أن هذا التضاد يبدو جليا في الفصول الأولى ويتناقص كلما تقدمنا في الرواية، فإن مركزية المكان ظلت حاضرة مع كل شخصية ينبري السارد لسرد قصتها من دون أن يتنازل المكان عن دوره ومن دون أن يغفل السارد لحظة أن يستعيد مركزيته منه. وما مداومة المكان على تأكيد مركزيته سوى تعزيز للصورة الوصف غير الطبيعية ونفي لأن تكون للشخصيات فاعلية سردية مستقلة.
ولأن التعبير عن الشخصيات ونظرتها المستاءة من العالم هو مراد الوصف غير الطبيعي، لم ينس السارد دوره الواقعي من أول فصل في الرواية إلى آخرها. ولم يترك موقفه على صعيد اللغة بل عززه عبر نقل نواياه من نسق لغوي إلى نسق آخر مازجا لغة الحقيقة باللغة المشتركة متحدثا عن المسرودات بصيغة وصفية خاصة به.
3 ) الأشياء هي المسرودات: أهم غايات الوصف اللاطبيعي هو تفعيل الأشياء أي جعلها فواعل سردية ليتكشف من خلالها اهتزاز الشخصيات وانقسامها الداخلي مفردة ومجموعة أو رئيسة وثانوية أو بسيطة ومركبة، فالمسمار فاعل بينما (سعيد )عاجز( كان في داخل سعيد مسمار حار امتعاض يخربش مزاجه ويسد شهيته كان يريد ان يفكر )[28] ومقهور( غاب حتى احس بيدين تنزلان على كتفيه وكانما ترصانه على الكرسي حتى لا يطير رفع راسه بتوجس)[29] والنكبة فاعل ليس لها أي تأثير على شعب خالف ما ينبغي أن يكون عليه( أحس أن العراقيين سيتحركون تهزهم النكبة لكنهم يلقون الصفعة صامتين لا يتململون، هذا هو العراق أبو العجائب والنكبات مرة يتلالا وجهه بالأمل ومرة يتحجر)[30]
وعادة ما يناوب السارد بين وظيفته الوصفية غير الطبيعية ووظيفته السردية، محاولا صنع توازن بإيقاعية لا يصنعها سير السرد جنبا إلى جنب الوصف وإنما يصنعها التغالب في تبئير الوصف وليس السرد.. وهذا التغالب هو دليل الخرق اللساني الذي فيه أفاد السارد من الشعر في رسم صور وهمية غير واقعية. الأمر الذي يجعل الرواية في مشاهدها السردية طبيعية بينما هي في صورها الوصفية غير طبيعية( تشنج عزيز في ضحكة ولوى راسه وعكف ذراعه وبدا مثل طائر يريد ان يحك رقبته بمنقاره)[31]
ولا يعني هذا أن تمثيل العالم في الرواية متلكئ أو غير مكتمل، بل هو الاحساس بالاستحالة على المستوى الوصفي وبالطبيعية على المستوى السردي، وما يسفر عنه من اندماج المستويين مع بعضها بعضا بشكل عميق أحيانا حتى لا مجال لفصلهما عن بعض( بحث عن بيت قرب مصبغة في زقاق في راسه دكان نجار ملعونة تلك الكلمات ملعونة الرسالة كلها في الليل كان يسهر معهما يرددها في سره ورقة مخلوعة من دفتر وكلمات ربما خطتها يد خشنة زعمت انها نسائية لها ماساة عظيمة)[32]. فالإدراك الحسي للأشياء بالوصف هو مكمل لإدراك الواقع فالإنسان يتفاعل مع الأشياء التي يراها( ولكنه يرفض تملكها، يرفض أن يمارس معها أي تفاهم مبهم أو أي علاقة تواطؤ. إنه لا يطالب الأشياء بأي شيء، إنه لا يحس تجاه الأشياء باتفاق ما أو باختلاف.)[33].
4 ) سيميائية الوصف اللاطبيعي: من ناحية الأسماء الفاضلة التي اختارها السارد للأصدقاء الخمسة وهي لا تنطبق في معانيها عليهم، فسعيد مهموم وإبراهيم متأزم وشريف كذوب وعبد الخالق حالم وحميد ساقط. ولا فضيلة تجمعهم سوى فضيلة الثقافة وما تحققه من وعي لكنه وعي غير مستثمر على الصعيد العملي. وكل ذلك جعل الوصف مبأرا بإطار متناغم مع السرد وإن كان متضادا؛ أولا بالمسار الحياتي الذي يعيشه الأصدقاء المثقفون والمتقاطع مع ما يؤمنون به من مبادئ وأفكار. وهذه هي المفارقة التي تجعل( الصعوبة الخاصة في وضع المثقفين ترجع إلى أنهم لا يستطيعون أن يمثلوا مصلحتهم الحيوية الأولية بصورة فعلية إلا حين يجابهون صراحة السياسة الرجعية للطبقات الفاسدة ..وحين يساندون الجماهير)[34]
وثانيا لم يجابه أي من الاصدقاء الخمسة الواقع السياسي فكانوا سلبيين بعكس الثقافة التي صارت بالوصف غير الطبيعي فاعلة ولكن بسلبية أيضا( نظر إلى مدام بوفاري وهي مطروحة على فراشه جامدة اليوم ماتت منتحرة بسم.. سأل سعيد نفسه إلى أين تشير أصبع فلوبير؟ وفكر طويلا ولم يجد جوابا معقولا)[35]
وهذا الاختيار لرواية معروفة بواقعيتها والتناص معها بطريقة لا واقعية هو الذي جعل سعيدا يصفها وهو المغرم بها( انها تعذبني) وتتأتى لا واقعيتها من كونها( كتابا عن لا شيء إنها تعلن خطاب اللاشيء الذي تؤول اليه كل الاشياء عندما يخترق الستار ويكشف الحجاب المتوهج والتافه عن شكلها المرئي على هذا المستوى يؤدي الأدب دور نقد حقيقي للتصورات)[36]
وصحيح أن سعيدا كان دائم القراءة في الروايات فكانت ترافقه في البيت وفي مكان عمله، ولكن ذلك لم ينفعه في أن يكون مثقفا عضويا بل صار مثقفا انهزاميا ولذلك قال له إبراهيم وهو يهم بمغادرة البلد في نهاية الرواية ( أنت سعيد يا سعيد..) في إشارة اليغورية مفتوحة على زمن قادم ليس فيه سوى استمرار حالة التعاكس المريرة بين الواقع والطموح. فكان مثقفو الأمس خفافيش ليل واهمين وعاطلين وحالمين بين عاشق فقد حبيبته أو ثوري خسر ثوريته أو منتم فشل في انتمائه أو عامل خسر عمله أو طائر سلبت حريته. ومثل ذلك مثقفو اليوم المتطلعين الى الحرية والعيش الكريم من غير فاعلية. وهذا هو لب المنظور الايديولوجي الذي جسدته رواية( خمسة اصوات) اعني بقاء الحال على ما هو عليه بلا تغيير.
ولا ننسى أن انحدار الانتلجينسيا مطلع الخمسينيات من طبقات الشعب الكادحة هو الذي جعلها تتصادم مع مثيلتها المنحدرة من طبقات أعلى. مما ولّد نوعا من الخلخلة الثقافية والتباين الفكري والانشقاق المبدئي المتسم بعدم الاستقرار الحياتي والتورط الطوباوي بشعارات فردوسية ألهمت مخيلة السارد الموضوعي وعيا شعريا جعل الواقع موصوفا وصفا غير طبيعي.
ولو وجد السارد في شخصياته المثقفة القدرة على التكلم بديمقراطية لوجه عمله وجهة متعددة الرؤى والاصوات مما يشي به عنوان الرواية لكن المتحقق لم يكن كذلك فالسارد ظل أحادي المنظور أوتوقراطيا لم يمنح مسروداته حرية التحدث بصوتها لا لأنها غير قادرة حسب، بل لأنها أيضا غير مؤهلة للتعايش الثقافي في جو ديمقراطي.
ومن سيميائية الوصف غير الطبيعي أن اتخذ السارد أبطاله من الرجال فقط وجعل النساء ثانويات على مستوى السرد بينما جعل المرأة على مستوى الوصف فاعلة كفاعلية الموجودات غير الحية. أما على مستوى السرد فكانت ثانوية وسلبية لكنها مع ذلك أثرت في الشخصيات الخمس لاسيما شخصية القاص عبد الخالق الذي وجد شبها كبيرا بين النساء وحالة الكاتب السلبية في المجتمع العراقي، لان كليهما يتحمل ظلم المجتمع الذي يراهما مجرد حلية وتسلية ولهذا شعر بتعاطف مع المرأة( متى ستكون المرأة..قيمة في حد ذاتها)[37]
فكانت (حليمة) شخصية ثانوية وهي ترى نفسها في هذا الحوار المروي مظلومة لا ظالمة ( يجوز أنا غلطانة بس شغل البيت علي كله تاركة اولادي يلعبون بالسيان ومن الصبح للمغرب اشتغل واختك بالمدرسة وانت مشغول بدروسك)[38] بينما هي دمرت حياة حميد بزواجها وطلاقها منه، فكانت المتسببة في سقوطه في آخر الرواية وقد سمت نفسها في أول الرواية( نجاة ) وأرسلت رسالتها الى سعيد فغيّرت حياته( كان اسمها يمس قلبه بدفء غريب نجاة هكذا بالضبط تحت كلمات ربما نقلت من كتاب كيف تكتب الرسائل ربما قضت عشرة ايام لتنتقي هذه السطور الخمسة)[39] وما كانت حليمة نجاةً بل كانت النقمة التي كشفت لسعيد عن فشله وعدم قدرته على تغيير الراكد والمعتاد فقرر في النهاية الاستسلام، تاركا عائلته والبلاد إلى الأبد.
ومثل ذلك الدور النسوي الثانوي دور صبرية مع شريف، ودور سلمى مع إبراهيم، ودور زوجة كريم مع عبد الخالق.
وساهم التكرار لالفاظ وعبارات في تعزيز البعد السيميائي للوصف، فتكرار ألفاظ بودلير وشهريار وفنادق الدرجة الرابعة ظلت مقترنة بشريف، والفم الجاف والخمرة والصنم الأسود مقترنة بحميد، والمثقف الثوري الفاشل مقترنة بسعيد، وسطوة الاب والعائلة مقترنة بإبراهيم، والمبدع الحر الباحث عن قصص الناس وحياة الريف مقترنة بعبد الخالق.
5 ) مخطط صناعة المثقف/ رسم غائب طعمة فرمان للمثقف العراقي في رواية( خمسة اصوات) مخططا فيه يبدو هذا المثقف بصورة قوية وبرؤى ناصعة وذات واثقة وبشعور غيري ثائر وتطلعي لكنها بالوصف غير الطبيعي انتهت محطمة وبائسة وذات أدوار سالبة وبشعور انتكاسي قاهر. وتشيئية المثقف العراقي هي التي عليها بنى السارد مخططه الوصفي غير الطبيعي كما بنى فلوبير لا واقعيته من واقعية( إنسان يمتص الأشياء يستهلكها يعيد صنعها على صورته .. امحاء المؤلف امام الحقيقة الخارجية للاشياء وإعادة امتصاص للواقع تخضع لتحولات كيمياء سردية داخلية يظهر بهذا الوضوح التضاد في واقعية فلوبير)[40]
فكان (فرمان) الوصّاف غيره (فرمان) السارد، وظلت اللا واقعية والسريالية ممزوجة بمنطقية، وهو يرسم شخصياته المثقفة منقسمة ما بين رهان على حلم ورهان على حقيقة حتى انتهت تلك الشخصيات هوامش على متن الحياة بلا فاعلية ولا استقلالية وقد صدمها الواقع بواقعيته فهربت منه الى اللا واقع. لتكون مفاصل المخطط الوصفي للمثقف العراقي مصنوعة من:
ـــ مفصل التألم/ فعبد الخالق يرى بعينيه ما لا يستطيع تغييره بيديه( كان بين الرجال نساء لحن في عباءاتهن مثل لحظات سود افلتت من يد فنان مهمل كن واقفات على بعد من الرجال في خوف ومسكنة..وجد وجوها شبه كثيرة من حالتهن وحالة الكاتب في المجتمع العراقي كلاهما يتحمل اقسى ظلم في المجتمع كلاهما في عين المجتمع حلية وتسلية )[41]
ــ مفصل التيهان/ فشريف إنسان واهم يرى نفسه شاعرا كبودلير حالما وهائما لا قرار له يطارد طيف امرأة لا يعرفها( تامل الشمعدان ذا الشناديخ الخمسة الطرية المنتهية باحمر اللهب وقال لنفسه: لو مستني هذه الاصابع لاثارت اللهب في كل مسامات من جوارحي وكل ما تلبد من حواسي)ص107( ظهر شمعدان يدها من جديد فعصرته معدته عصرا شديدا وكانما كلبة لوحت له بعظمة دسمة عليها قطعة لحم هشة والعظمة مملوءة نخاعا)[42]
ـــ مفصل السأم والكآبة/ فبيت سعيد أصبح ( كئيبا .. كان يتهرب من ابيه كان يخاف ان يجد على وجهه آثار العبء الذي اضافه على ظهره المكسور من الفقرة الرابعة كانت معاملتهم الرقيقة له اهانة وشفقة)[43]
ـــ مفصل الخنوع والانهزام/ وهو آخر حلقة في مخطط المثقف الخانع والانهزامي، فانفصل حميد عن اصدقائه ورحل سعيد وبقي الاصدقاء( الثلاثة يقولون لسعيد اذهب مشيّعا بالعار أما نحن فباقون بين الرصافة والجسر ولو أن رأس الجسر مملوء بالشرطة السرية)
ومحصلة هذه المفارقة الساخرة أن المثقف مخدّر بالأوهام والأحلام، وما من مصير ينتظره سوى مصير الاستسلامـ أيا كان هذا الاستسلام سفراً أم انعزالاً أم موتاً.
[1] ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة( القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر، ط1 ،1987) ص83
[2]See; Un nutrual narratology ,extensions revisions,and challenges, editor by Jan Alber and Brain Richardson, Ohio State University press, p17.
[3] Unnatural Narrative across Borders Transnational and Comparative Perspectives, Biwu shang,New York,2019,P 17
[4] ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد انطويوس( بيروت: منشورات عويدات، ط3، 1986)ص35.
[5] ينظر: القضايا الجديدة للرواية، جان ريكاردو، ترجمة كامل عويد( بغداد: دار الشؤوون الثقافية العامة، ط1، 2004)
[6] رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة محمد نديم خشفة( بيروت: مركز الانماء الحضاري، ط1، 2002) ص28ـ29
[7] المصدر السابق، ص88ـ89.
[8] رولان بارت، مدخل الى التحليل البنيوي للقصة، ترجمة مبذر عياشي( بيروت: مركز الانماء الحضاري،ط1، 1993) ص93.
[9] البناء الفني في الرواية العربية في العراق، د. شجاع مسلم العاني( بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2019) ص343.
[10] عد الناقد الأستاذ فاضل ثامر( النخلة والجيران) تمرينا أوليا لكتابة( خمسة أصوات) بوصفها هي والرجع البعيد لفؤاد التكرلي اولى روايتين عراقيتين توظفان البوليفونية الصوتية بينما عد الدكتور شجاع العاني رواية( النخلة والجيران) اول رواية متعددة الاصوات بسبب ما فيها من توظيف للعناصر البوليفونية كالحوار والمونولوج والشخصيات الممسرحة. وهذان رأيان يتطلبان الوقوف عندهما لان كل ناقد منهما متخصص وله مسوغاته. ينظر: الصوت الاخر: الجوهر الحواري، فاضل ثامر،( بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1992) وينظر: البناء الفني في الرواية العربية، مصدر سابق، ص403.
[11] ينظر: البناء الفني في الرواية العربية، مصدر سابق، ص210 ـ226. يقول الناقد:( الرواية متعددة الرؤى تقوم على التسليم بوجود اوجه عديدة للحقيقة أو على تعدد اشكال الوعي للحقيقة الواحدة وعلى التعدد الحسي في ادراك هذه الحقيقة وهذه الرواية تعتبر ثورة كبيرة في الفن الروائي تواكب احدث الانجازات العلمية كنظرية اينشتين في النسبية )
[12] خمسة أصوات رواية، غائب طعمة فرمان( بغداد: دار المدى، ط2، 2008)، ص7.
[13] الرواية، ص7 ـ8.
[14] الرواية، ص45
[15] الرواية، ص47
[16] الرواية، ص170
[17] الرواية، ص21
[18] الرواية، ص81ـ82
[19] الرواية، ص284
[20] الرواية، ص339
[21] الرواية، ص12
[22] الرواية، ص8
[23] الرواية، ص10ـ11
[24] الرواية، ص48
[25] الرواية، ص10
[26] الرواية، ص24
[27] الرواية، ص56
[28] الرواية، ص134ـ135
[29] الرواية، ص17
[30] الرواية، ص302
[31] الرواية، ص123
[32] الرواية، ص8
[33] الخطاب الروائي، مصدر سابق، ص235
[34] جورج لوكاش ،دراسات في الواقعية، ترجمة نايف بلوز( بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط3،1985)ص91.
[35] الرواية، ص136 وذكر سعيد الروايات الاتية (الجريمة والعقاب مترجمة بالانجليزية والقاموس السحري وفولكنر ورواية تورتيلا فلات لشتاينبك يصور فيها الفلاحين 1935 واسرة ارتامونوف رواية لغوركي وقصص تشيخوف وسقوط باريس لايليا اهرنبرغ كاتب روسي 1954 ورواية لمن تدق الاجراس 1948 لهمنغواي ) فضلا عن كتابي (العقد الفريد والمثل السائر)
[36] ينظر: بيار ماشيري، بم يفكر الادب، ترجمة جوزيف شريم( بيروت: المنظمة العربية للترجمة،ط1، 2009) ص277.
[37] الرواية، ص125
[38] الرواية، ص296
[39] الرواية، ص8
[40] بم يفكر الأدب، مصدر سابق، ص307.
[41] الرواية، ص129
[42] الرواية، ص108
[43] الرواية، ص345