يقدم لنا الناقد المغربي المرموق نوعا من المسح النقدي التحليلي للكتابات التي تناولت تجربة السجن، والسياسي منه خصوصا، في المغرب. ويكشف عن أن تبدل بنيتها على مد العقود الأخيرة من مسيرة الأدب المغربي، فتح الباب أما أنواع مختلفة منها من التذكر والبوح إلى نوع من الكتابة السيرذاتية الشيقة.

تنامي الكتابات عن تجربة السجن بالمغرب

مقاومة الخوف والظلم

عبدالرحيم العلام

 

أتاح حدوث انفراج سياسي في المغرب، واتساع نسبي في مجال حرية التعبير والرأي والكتابة والنشر، على الأقل منذ تسعينيات القرن الماضي، المجال أمام تنامي الكتابة عن تجربتي الاعتقال والسجن، لدى الكتاب المغاربة، ممن مروا بتجارب الاعتقال السياسي، وغيرهم، بمثل ما وفر لهم مناخًا ملائمًا، لاستعادة تجاربهم الإنسانية الصعبة والمثيرة مع الاعتقال والسجن.

وفي هذا الإطار، يندرج جلّ ما كتب عن تجارب السجن في المغرب، في باب الشهادة والتذكر والبوح، وكتابة نصوص مشرعة على كل ما هو إنساني بالدرجة الأولى، وكما يقول عبد اللطيف اللعبي، أحد هؤلاء الكتاب المغاربة الذين اكتووا بنار الاعتقال، في أحد حواراته: "إن أهمية هذه الكتابات لا تكمن في الرهان الاستتيقي أو الأدبي، بل تكمن في الشهادة التي تقدمها وفي التعبير عن التجربة الإنسانية"، فضلًا عن كونها، يضيف اللعبي، "كتابات تغني المخيلة المغربية، وتغني معرفتنا بواقعنا وبتجربتنا التاريخية التي مررنا بها في الأربعين سنة الماضية، وتعرفنا أيضًا على قدرتنا على الصمود وعلى المقاومة والتشبث بالقيم الإنسانية".

وإذا كانت الكتابة عن السجن سرديًا قد بدأت محتشمة في الأدب المغربي الحديث، من خلال نصوص قليلة جدًا، تناولت تجارب السجن، في أبعاده وخلفياته المرتبطة أساسًا بمحاربة الاستعمار على وجه الخصوص، من قبيل نص "سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب (1965)، بما تُعدّ رواية- سيرذاتية تشكل، في اعتقادي، البداية الفعلية للكتابات الأدبية السجنية في المغرب، فقد ظهرت بعدها كتابات أخرى عن السجن، شكلت منعطفًا مغايرًا في تاريخ الكتابات السجنية في المغرب، وشكل الشعر جزءًا مهمًا في هذه الحركة، عبر مساهمات شعرية مؤثرة لبعض الشعراء، من قبيل الشاعر عبد اللطيف اللعبي والشاعر عبد الله زريقة، بمثل ما ساهمت المرأة الكاتبة في إثراء هذه الحركة الأدبية السجنية بشكل لافت.

ويمكن اعتبار كتاب "أشعار ورسائل السجن" (1978) للشاعرة سعيدة المنبهي، التي توفيت داخل السجن، نصًا رائدًا في مجال الكتابات السجنية النسائية بالمغرب، تلاه كتاب "مناديل وقضبان" (1988) لثريا السقاط، باعتباره يشكل، هو أيضًا، تجربة سردية إنسانية فريدة عن حكايات السجن، كتبت بشكل مغاير، على اعتبار أنها تجربة تجمع داخل السجن، حيث يقبع الزوج السجين، بخارجه، حيث تنتظر الزوجة المكلومة وتناضل من أجل تحرير الوطن، من ناحية، ومن أجل حرية زوجها من ناحية ثانية، من ثم، فهو كتاب عن أكثر من جيل من المعتقلين والمناضلين والوطنيين، وعن أكثر من سجن وأكثر من فعل إنساني ووطني ونضالي وسياسي.

تلت ذلك روايات وسير ذاتية وغيرية ومذكرات، أكثر تطورًا ونضجًا، من قبيل السيرتين الذاتيتين "مجنون الأمل" لعبد اللطيف اللعبي، و"كان وأخواتها" لعبد القادر الشاوي، باعتبارهما نصين سرديين مؤسسين لنوع جديد من الكتابة الأدبية عن السجن في المغرب، في تفاصيلهما الجديدة الجريئة بالنسبة للمرحلة، وهما عن المطاردات والاعتقالات والمحاكمات والسجن والتعذيب...

ثم تواترت الكتابات التي استوحت موضوع السجن من منطلقات وزوايا مختلفة، وبأشكال سردية وفنية متنوعة، تناولت تجارب الاعتقال والسجن السياسيين في المغرب، في ارتباطها بما سمي بسنوات الجمر والرصاص، باعتبارها تمثل فترة مهمة في تاريخ النضال السياسي والاجتماعي في المغرب، وأيضًا في توزعها على أجناس أدبية وتعبيرية وفنية مختلفة: كالرواية والسيرة الذاتية والسيرة والشعر والقصة والمذكرات واليوميات والشهادة والمحكيات والحوارات.

ويوجد من بين هؤلاء الكتاب من كتبوا عن السجن في أكثر من نص، ربما بسبب عنف التجربة وامتداد ظلالها وآثارها بقوة في المخيلة والأحاسيس والزمن والكينونة، وإن تم ذلك لدى البعض، سواء في نصهم الثاني أو فيما صدر بعده، إما من منطلق مواصلتهم سرد وقائع تجربتهم السجنية، أو من زاوية إضاءتهم لجوانب أخرى ظلت معتمة فيها، أو تم ذلك لدى آخرين من منطلق نقدي للتجربة النضالية ككل، وتعرية لعيوبها ولحيرة أبطالها وتضارب مواقفهم تجاهها، إذ حدث بعد خروجهم من السجن أن اصطدموا بواقع خارجي، أضحى واحة للسراب وانفلات الآمال، بما هو واقع يبدو أكثر قسوة وإجحافًا مما كان عليه الداخل، كما هي الحال في رواية "الساحة الشرفية" لعبد القادر الشاوي، الصادرة بعد مرور خمس عشرة سنة من صدور سيرته الذاتية الأولى "كان وأخواتها".

وقد تمت استعادة هذه التجربة في امتدادها لدى هؤلاء، إما بشكل مواز لكتابهم الأول، أو بعد مرور فترة مهمة عن تجربة الكتابة الأولى وعما صاغوه حولها من محكيات، أي بعد أن تكونت لديهم مسافة نفسية وذهنية عن التجربة الأولى التي عاشوها وكتبوا عنها، ولم يستطيعوا مقاومة امتداد ملامحها وسطوة وقائعها، أو الانفلات من أسرها. فهذا عبد اللطيف اللعبي، مثلًا، يعود إلى الحديث عن تجربته السجنية - وإن تم ذلك بشكل متداخل مع استعادته لتجارب حياتية وتذكرات مرجعية أخرى- في مذكراته "شاعر يمر" (2010)، أي بعد مرور حوالي ثلاثين سنة على صدور سيرته السجنية الأولى "مجنون الأمل"، قائلًا بهذا الخصوص: "عودة إلى الوراء سأضطر مجددًا، للأسف، للكلام عن السجن صبرًا".

وهناك من الكتاب من كتبوا عن الاعتقال والسجن، دون أن يكونوا قد مروا بإحدى هاتين التجربتين أو عاشوهما فعليًا، نذكر من بينهم: حليمة زين العابدين في "هاجس العودة"(1999)، وخديجة مروازي في "سيرة الرماد" (2000)، والطاهر بن جلون في "تلك العتمة الباهرة" (2003)، وعتيقة الصايغ في "العيون الثلاث تدمع: معاناة زوجة أسير" (2003)، وحليمة زين العابدين في "قلاع الصمت" (2005)، والزهرة رميج في "أخاديد الأسوار" (2007)، وغيرها، وكلها كتابات جاءت بخلفيات إبداعية مشوقة، ما دام أنه يقف وراء حوافزها الإبداعية حدوث علائق مباشرة أو غير مباشرة بين كتابها وأصحاب التجارب السجنية، وخصوصًا على مستوى ما يجمع بعضهم من روابط إنسانية أو أسرية، أو صداقات، أو الكتابة بناء على طلب...

ومن بين العسكريين الذين مروا بتجربة الاعتقال إثر الانقلابات العسكرية التي استهدفت ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، فكتبوا عنها بشكل فني مقبول، نذكر على وجه الخصوص: محمد الرايس في مذكراته "تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" (2001)، وأحمد المرزوقي في مذكراته "تزمامارت: الزنزانة رقم 10" (2004)، ويعتبران من بين النصوص السجنية العسكرية التي حظيت بمقروئية واسعة، منذ لحظة نشرهما، اعتبارًا لما حققاه معًا من صدمة لقارئهما، وهو يفاجأ بقراءة نوع جديد من المحكيات، عن تاريخ كان مسكوتًا عنه، ولم يألف قراءته من قبل، بمثل هذه المباشرية والجرأة والعنف.

وبعيدًا عن عوالم الاعتقال والسجن لأسباب وطنية أو سياسية، يمكن الحديث عن نوع آخر من الكتابات السجنية التي استوحت فضاء الاعتقال والسجن من منظور آخر مغاير لسابقيه، كما في رواية "معذبتي" لبنسالم حميش (2010)، ويستوحي فيها كاتبها بشكل تخييلي، تتخلله أجواء من الغرائبية والعجائبية، من منطلق ما يعرفه راهننا الإنساني من تطورات وتحولات كونية، التجربة السجنية القاسية لأحد المعتقلين، هو المواطن المغربي الطيب (حمّودة الوجدي)، من خلال شهادة لهذا المعتقل الذي قضى أكثر من ست سنوات في زنازين معتقل غير محدد الموقع، "تديره جهات أجنبية خفية بأيد متعددة الجنسيات"، أي ما يمكن تسميته "عولمة السجون"، كما يقول كاتب الرواية، وذلك بسبب تهم إرهابية لم يقترفها حمودة، بموازاة مع ما ترصده الرواية من فترات تعذيب جسدي ونفسي وألم فظيع ومتواصل، تعرض له حمودة من قبل معذبيه.

وتتمثل أحد جوانب المغايرة التي تقدمها هذه الرواية على مستوى توظيف تيمة السجن فيها، في أبعادها الرمزية وفي الأقنعة التي تتوسل بها في بناء محكيها العام، إذ يصبح فيها المعتقل والسجان والمعذب مجرد تعلات سردية ودلالية للترميز إلى حالة كبرى وإلى مؤامرة كونية، تقودها قوى عظمى ضد شعوب مستضعفة.

وإلى جانب الرواية السجنية، حققت كتابات سجنية أخرى تراكمًا لافتًا على مستوى أجناس أدبية مجاورة، تناولت السجن انطلاقًا من أشكال سردية بيوغرافية مختلفة، كالسيرة الذاتية السجنية، والسيرة السجنية، والمذكرات، واليوميات السجنية، وذلك بالنظر إلى كون بعض الكتاب الذين مروا بتجربة الاعتقال والسجن السياسي في المغرب، قد لجأوا، بعد الإفراج عنهم، إلى استيحاء تجاربهم السجنية في نصوص بيوغرافية، تؤرخ لمرحلة الاعتقال والسجن في تفاصيلها وآلامها وآمالها، فضلًا عن لجوء كتاب آخرين إلى رصد حكايات بعض من مروا بتجارب الاعتقال والسجن، فيما يشبه سيرًا غيرية، فيما فضل آخرون سرد تجاربهم مع الاعتقال والسجن في شكل مذكرات ويوميات وحوارات صحافية.

ويبقى الشكل السيري السجني في أبعاده المتداخلة المذكورة، الشكل السردي الأكثر هيمنة على مستوى التراكم السردي السجني، مقارنة بما تحقق، مثلًا، على مستوى جنسي الشعر والرواية، بما أنه الشكل الذي افتتحت به كتابات السجن تراكمها منذ بدايتها، مع سيرة عبد الكريم غلاب السجنية، مرورًا بسيرتي عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي الذاتيتين، قبل أن ينهمر سيل الكتابات السيرية السجنية في بعديها الذاتي والغيري. وهو ما يبرره اليوم الكم الملحوظ من السير السجنية التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية، وساهمت فيها المرأة بنصيب مهم من الكتابات السيرية السجنية.

فضلًا عن ذلك، نجد أن معظم الكتابات السجنية قد أولت اهتمامًا لافتًا ومهيمنًا فيها لمكون "المكان"، الذي يتجسد غالبًا في "المعتقلات" و"السجون" و"مخافر الشرطة"، بأمكنتها المغلقة والمفتوحة، كالزنازين الجماعية والانفرادية والساحات والأقبية والأسوار والدهاليز والسراديب والمراحيض والإدارة، وغيرها من الأمكنة المؤثثة لفضاءات المعتقل والسجن والمخفر، والمولدة لحكاياتها ومضامينها وغرائبها وأصواتها ولغاتها ومفاجآتها.

ومن بين تلك المعتقلات والسجون التي تمثلتها الكتابات السجنية واحتضنت محكياتها، بشكل مهيمن ومكرور، نشير إلى "السجن المركزي" بالقنيطرة، و"سجن لعلو" بالرباط، و"دار المقري" بضواحي الرباط، ومعتقل "تزمامارت" الرهيب، الواقع على أطراف الصحراء الشرقية المغربية، و"درب مولاي الشريف" و"أغبيلة" بالدار البيضاء، وغيرها من الفضاءات السجنية الموحشة والمقفرة، والتي كان بعضها مجهولًا في البداية، باعتبارها فضاءات شكلت جميعها مسرحًا لعديد من تجارب الاعتقال والسجن والتعذيب والجنون والموت وإبادة كل ما هو إنساني في الإنسان، بمثل ما شكل بعضها أمكنة مرجعية حقيقية لتصوير أفلام سينمائية، في بعض أجوائها ومشاهدها المثيرة والمرعبة والمؤثرة.

كما تحتل "السخرية" بتفريعاتها المختلفة، كتهكم وضحك ومفارقة، حيزًا مهما في كتابات السجن، وتشكل وسيلة وخطابًا مسعفًا للساردين والشخوص للتطهر ولمقاومة سطوة الجلادين وإكراهات الاعتقال والسجن وفظاعته وظلمته، كما تشكل مأوى نفسيًا للاحتماء فيه من الآثار النفسية التي تفرزها قساوة الإقامة داخل المعتقل أو السجن، بما تولده هذه التجربة عمومًا للمعتقلين وللسجناء من ضجر وكآبة وجنون وعذاب وفقد.

لقد تعددت دواعي الكتابة عن السجن وأسبابها من منظور كتاب النصوص السجنية في المغرب أنفسهم، وإن كانت تلتقي في مجموعها، ولدى كثير من هؤلاء  الذين عاشوا تجربة الاعتقال، عند إبراز الأبعاد الإنسانية والنفسية تحديدا، في محاولة منهم للتحرر من أغلال الماضي والتخلص من ندوبه وجروحه وآثاره داخل السجن وخارجه، كما تلتقي، في جانب آخر، عند رغبة هؤلاء الكتاب في مقاومة الإحباط والانكسار والهشاشة ومنع الكلام والصمت ومقاومة المحو والموت والتلاشي، عبر التشبث بالحياة وعشقها، وفي ذلك تأكيد لبقائهم ولاستمرارية المعنى، معنى الحياة تحديدا، فضلًا عن دوافع أخرى، تصبح معها الكتابة عن السجن عبارة عن شهادة واقعية وصادمة عما جرى في حقبة معينة من تاريخ المغرب الحديث.

إلى جانب المكونات السردية السابقة، نجد أن تعددًا تيميًا مهيمنًا ملحوظًا يميز بدوره كتابات السجن، في تجلياته المختلفة، نذكر منها تيمات: الاعتقال، السجن، الزنزانة، الجنس، المرأة، الجسد، الكوابيس، السجان، الجلاد، الضحية، الذاكرة، الانتظار، الغربة، الوحدة، التطهير، الهوية، الليل، الماء، الظلام، الألفة، الحرية، الوطن، التغيير، العنف، الحرمان، السخرية، الفقدان، الكتابة، وغيرها، وكلها تيمات تتخذ لنفسها صورا وتجليات مختلفة من نص لآخر، ومن كاتب لآخر، وأيضًا من مرحلة سجنية إلى أخرى مغايرة.

وإذا كانت الكتابات السجنية بالمغرب تلملم بين طيات محكياتها سيرًا جماعية لجيل بكامله، مر بتجربة الاعتقال السياسي وعاش محن السجن ومعاناته وعذاباته، فهي كتابات يتداخل فيها، أيضًا، ما هو تاريخي حديث بما هو إنساني وذاتي واجتماعي وسياسي وثقافي، لتنسج بذلك جانبًا أساسيًا من حكايات شخوص وتاريخ بلد متحول، باعتبارها حكايات شاهدة على تجربة إنسانية فريدة من نوعها، في إصرارها على مقاومة الخوف والقهر والظلم والموت، وباعتبارها سجلًا رمزيًا لحياة جيل بكامله، كما عاشها المغرب الحديث.

 

عن (ضفة ثالثة)