يقرأ لنا الكاتب المغربي المرموق هنا رواية سيلين التي صدرت الشهر الماضي لأول مرة وبيعت نسخها كلها – مئة ألف نسخة – في يومين، ويعيد تذكينا بعبقرية سلين وإضافاته المهمة للرواية الفرنسية، وكيف استرد قيمته وأهميته بعد فترة طويلة من التعتيم عليه بزعم معاداته للسامية.

«حرب» رواية سيلين «المُكتشفة» حديثا

تفضح حقيقة «حربٍ» لم تنتهِ!

أحمد المديني

 

في بداية أيار (مايو) الجاري، أعلنت دار غاليمار الباريسية أنها ستُصدِرُ رواية غير منشورة للكاتب الشهير سيلين Louis-Ferdinand Céline (1894ـ1961)، أحد عمالقة الرواية الفرنسية في القرن العشرين، والذي اشتُهر بعملين مدرجين في سجل الرواية الكلاسيكية العالمية: "سفر إلى آخر الليل" (1932) و"موت بالتقسيط" (1936). وزّعت الرواية المكتشفة "حرب" Guerre، في اليوم الخامس من الشهر، مئة ألف نسخة طرحتها غاليمار لتجسّ نبض السوق، لتجد أنّ النسخ كلّها نفدت خلال ثمان وأربعين ساعة، وبقيت نسخة واحدة عثرنا عليها يومئذ بشقّ الأنفس في انتظار طبعة جديدة بعشرات الآلاف، أيضاً؛ أقرأها وملابسات نشرها لكم.

تراث سيلين:
مؤكد أن شهرة سيلين سابقة أدبية خاصة، ظلّ مصنّفاً زمناً كاتباً منبوذاً نوعاً ما بسبب تهمة "معاداة السامية" التي ألصقت به إثر كتابه السجالي: "Bagatelles pour un massacre" (1937). شوّشت التهمة سمعته طويلاً، من دون أن يمنع ذلك الاعتراف الكبير بمتنه الروائي بعدما جمع حوله زمرة أكاديميين يدققون في قاموسه اللغوي الفريد وتراكيبه نسيج وحدها في الفرنسية.

لكنّ الرواية القديمة الجديدة "حرب" لفتت الانتباه باعتبارها قطعة أدبية من كنز ثمين اكتُشِف بتاريخ 4 آب (أغسطس) 2021 حين أزاح ملحق الكتب في "لوموند" الستار عن آلاف الصفحات المفقودة من تراث سيلين والتي ظلت مخفية/ أو مسروقة منذ سنة 1944 لتخرُج أخيراً من ظلمة الخفاء إلى وضح النهار، بما يُعدّ رواية بوليسية حقيقية بحدثٍ وشخصيات وألغاز وعقدة ظهرت بعض خيوطها وأخرى لا تزال تبحث عن لحظة تنوير. نذكّر هنا بالمثير منها، كما كشفته صحيفة "لوموند" أولاً ودوّى رعداً بعد ذلك في منابر الإعلام الفرنسي كلّها في صيف هادئ تنافست لتفكيك خيوط العثور على الكنز الغنيمة التي ظلّ سيلين يومئ إليها ولا يجد من يُصدّقه. كان ذلك أياماً بعد الإنزال الأميركي في النورماندي، بما آذن ببداية نهاية الاحتلال النازي؛ فشعر سيلين وزوجته لوسيت دستوش بالخطر بسبب تعاونهما مع المحتلّين فجمعا أغراضهما على عجل من شقةٍ يقطنان بها في حيّ مونمارتر وغادرا باتجاه ألمانيا ومنها الى الدنمارك في منفى استمر سبع سنوات.

محتويات الحقيبة
ترك سيلين وراءه حقيبة كبيرة مملوءة بأوراق ووثائق ومخطوطات سرقها من بيته في شهر حزيران (يونيو) 1944 عميل مع الألمان حوكم لاحقاً. ويزعم صحافيّ متعاون مع جريدة "ليبراليون" (جان بيير تيبودي) أنه توصل بها من أحد القراء واكتشف تكوينها لروايات كاملة لسيلين غير منشورة ومقاطع لأخرى معروفة، وقضى سنوات في نسخها وترميمها ليقرّر تسليمها في الأخير إلى المحامي إيمانويل بييرا قبيل أسابيع من وفاة أرملة سيلين التي عمّرت 107 أعوام، وقام محاميها بصفته من الورثة بمتابعة الملف لاسترداد المخطوطات، وهو ما تمّ له بعد متابعة قانونية لتيبودي ومحاميه من طرف مكتب مكافحة تهريب المنتجات الثقافية. ووضعت الحصيلة في خزانة بنكية. وبعد مفاوضات حصلت دار غاليمار على حقوق الشروع في نشر المخطوطات التي عثر عليها.

يعنينا نحن في هذا المقال مخطوط رواية "Guerre"، وهي موضوعنا والحدث الأدبي الأقوى فرنسياً في الحاضر، غطىّ على الإصدارات المبرمجة خلال موسم الربيع، وأعاد فتح ملفّ سيلين من جديد ليُقرأ ويُفهم بعينٍ نقديةٍ مغايرة ومنزّهة عن ظروف تهمة معاداة السامية، ولتنشر أعماله بإشراف لجنة من المحققين المختصين في الكتابة السيلينية، وهو عمل عظيم. ويجدر بنا أولاً تحديد تاريخ كتابة المخطوط، أمر مثار نقاش، الغالب كما أكد ألبان سريزيي المسؤول عن مشروع نشر المخطوطات في دار غاليمار، بأن "حرب" تالية لرواية "سفر إلى آخر الليل" نجد في ختامها ما يشير إليها بعبارات محددة تعني الحرب، لكنّ المؤلف يستنكف عن الخوض في موضوعها وجوّها لكونه يرى أن القراء لن يتقبلوا حكاياتها.

أحداث الرواية
ويتحدث النص المنشور عن أحداث جرت لـ"عشرين عاماً" قبل الشروع في الكتابة، أي بين نهاية خريف 1914 وصيف 1915، زمن تجنيده في الحرب العالمية الأولى. وبذلك يكون قد كتب "حرب" في 1934، وبحسب الخبرة الأدبية فإنّ "حرب" عمل قريب بالأحرى من "موت بالتقسيط" (1934) في نوع تلفّظه وقلة علامات التنقيط يضاف إلى هذا الهوس الجنسي.

تعالوا بنا الآن إلى الرواية، ممّا لا شك فيه أن صدورها في هذه الفترة الحامية من الحرب في أوكرانيا بتبعات الصراع العسكري والإيديولوجي بين المعسكرين زيادة على نتائج اقتصادية كارثية تنعكس على العالم أجمع، من شأن هذا كله أن يلفت النظر إلى أهميتها كشهادة عن أول حرب كونية مروّعة في القرن العشرين حصدت ملايين من القتلى والجرحى أحدهم الطبيب فردناند دستوش، الذي سيتخّذ من سيلين لقباً له كاتباً. في جبهة (الفلاندر) وبعد أن أبيدت كتيبته ينجو وحده من الموت مع إصابة بالغة في ذراعه اليمنى وطلقة في الأذن (لا نعرف أكانت حقيقية أو متوهمة).

الحرب الفعلية توصف في جمل محدودة في استهلال الرواية لها ما قبلها لم يُعثر عليه في المخطوط، نصّها: "كنت قد قضيت هنا قسماً من الليلة الموالية، أيضاً. أذني اليسرى كلها ملتصقة إلى الأرض بالدم، وكذلك فمي. بينهما كان هناك ضجيج هائل. نمت في هذا الضجيج ثم أمطرَت، نعم، مطراً غزيراً. كان كرزسوزون (جندي زميل) إلى جانبي ثقيلاً تحت الماء. مددت ذراعاً نحو جسده. لمسته. الذراع الأخرى لم أستطع مدها. لا أعرف أين هي (...) لقد نمت طويلاً في الصخب الفظيع منذ 14 كانون الأول (ديسمبر). أصبت بالحرب في رأسي. إنها مغلقة في رأسي".

بعد هذه الفقرة يترك فردناند البطل والكاتب والساردـ المعركة باحثاً عن خلاص، لتصبح الجبهة وراءه في شكل تدريجي. في طريقه وهو جريح يلتقي بجنديّ إنكليزي يساعده إلى أن يصل إلى بلدة perdu sur-sur-la-Lys فيها يُنقل في إسعاف إلى مستشفى ويبدأ علاجه وفترة نقاهته من حرب تركها هناك.

مع استمرار القصف ووصول القتلى تباعاً من جبهة القتال، تكتظ المستشفى بالمعطوبين، فردناند واحد منهم. من هنا يبدأ السرد الفعلي لقصته وشهادته عن حرب أخرى. فماذا يحكي المخطوط الأول بين ثلاثة ستنشر متوالية، هذا أولها؟ هو نفسه فردناند الناجي والجريح تُجرى له عملية أولى في ذراعه وتُؤجَّل الثانية لانتزاع رصاصة مفترضة تحت أذنه.

بين الرواية والسيرة
يقضي وقته وهو يعاني من متاعب الجرح وطنين لا ينقطع يضرب سمعه، وصورُ من مات من زملائه تهز مضجعه، هي ومحادثات وأنين المصابين في قاعة المستشفى. صور مفجعة عن الضحايا، وهو جزء من سيرة ذاتية للمؤلف، لذلك ينتقل سيلين إلى الرواية، فيدخل شخصيات أخرى إلى القصة تلعب في مسرح مقابل للحرب مشاهد موازية بأدوار صعبة بل مقرفة. بيبير أولها وهو جريحٌ أصيب بطلقة في قدمه، وسيتبين بعدما كشف اسمه الحقيقي كاسكاند أنه نصّاب، فإصابته من فِعله، وستفضحه زوجته أنجيل أثناء زيارة له برسالة إلى القيادة العامة انتقاماً منه، لتسخيره لها في وساطات بغاء، وينتهي الأمر بإعدامه بتهمة خيانة الواجب. الشخصية الثانية والمثيرة حقاً هي الممرضة (لبيستال) المشرفة على جناح الجرحى وتبتزهم بمعاشرات جنس قسرية فردناند يكون الضحية المنتظمة.

ثمة شخصيات ثانوية هي مجموع المصابين، خليط جنسيات وأوضاع يصفهم ويسخر منهم بهجاء مقيت، مع المحيط من ضباط وأطباء وجرّاحين ينالون حظّهم من السخرية السوداء، بل لا يرحم أبويه يزورانه من باريس من شتائم مقذعة مقلِّلاً من شأن عواطفهما، ولولا أن فردناند برفقة كاسكاند كانا يتسللان من الجناح ليقوما بنزهة في ضاحية البلدة حيث الحقول وطبيعة لا تزال غناء رغم هول الموت. لكننا أيضاً أمام عدمية مطلقة تمثيلاً لإحدى التيمات السِّيلينية مع شراسة وصف الآخرين ونفاقهم، وفظاظة الأحوال ونزعة التشاؤم. بيد أننا نراه في "حرب" يذهب بعيداً في تناول تيمة الجنس بفحش شديد من خلال سلوك الممرضة وأنجيل التي يبرزها في إباحية تامة وهي تبتز الضباط.

وتنتهي الرواية بغوايتها لضابط إنكليزي ثري يرحل بها إلى لندن هي وفردناند، ادعت أنه زوجها لتنتهي الحرب بالنسبة إليه، وتبدأ المرحلة الإنكليزية التي كتب عنها رواية "لندن" هي المخطوط الثاني في الكنز المكتشف وستصدره غاليمار في الخريف المقبل.

"حرب" رواية حقيقية وليست سيرة أو تخييلاً ذاتياً كما يسارع إلى القطع مهووسون بالتجنيسات القسرية، باحثين عن أقل قرابة بين المؤلف وبطله والأحداث ووقائع من حياته للوسم.

ورغم وجود وجوه القرابة فهي لا تسمح بتصنيف يلوي عنق النص لملاءمة قواعد وخطاطات نظرية، فليب لوجون جرب هذا مع سيلين ولم يفلح، المعوّل على حصة ومنسوب التخييل تغير لبوس الواقعي من نواحٍ عدة. وإذا سأل ما الذي تضيف "حرب" لمن قرأ الروايات المعتمدة لسيلين أقول، إنها وهي قصيرة قياساً بأعماله الطويلة (185 صفحة) وكتبت بحرارة تلقائية، كأنها تختزل جماليات روائية سيلين في جملته القصيرة، ودقة وصفه وشراسته وحسيته الفائقة، وخصوصاً قاموسه العامي الفظّ (السوقي) لغةً وتراكيبَ، لذلك وضع محقق المخطوط ثبتاً لغوياً في خاتمة الرواية، التي تُعلم من جديد أصول هذا الفن وتذكر بقامة معلميها الكبار.

 

عن (النهار)