في حوالي سنة 1864 ، سيولد بالمذاكرة منطقة القوادرة/ الأحلاف أو ما كانت تُسمى المحَرْڭـة، طفل يفتح بصره الواسع على فضاء الشاوية المفتوح على كافة الاحتمالات الملحمية ووسط عائلة شجاعة، فيسميه والده السيد منصور، باسم محمد وترعرع على لقب الأحمر، مستوحيا لونه من لون تراب الشاوية وشمسها. تربى وسط عائلة اشتهرت بالشجاعة والكرم، فجدُّه البشير عُرف عنه مساعدة الفقراء وإغاثة المظلومين في المذاكرة أو خارجها، وقد صادف أن ذهب مُغيثا أولاد لحسن المناصرة بالغرب، وبعدما استعادوا حقوقهم وكرامتهم أهدوه زوجته عَرْبية التي ستخلف له منصور. ويُروَى عنه أنه كان مُعزّبا ببهائمه في وادي بوعسيلة، فاستحرم به سبعة من الشباب جاؤوا فارّين من بطش القائد عبد السلام برشيد الحريزي. ولما قدِمَ مخازنية القائد باحثين عنهم، أنكر وجودهم، لم يصدّقوه، فتوجّهوا عند صديق له من الزكارنة والذي غدر به فاستعادوا السبعة ثم قطعوا رؤوسهم واعتقلوا البشير بعد حيلة مُدبّرة. وحوكم بثلاثين سنة قضى منها إحدى عشر سنة.
أما والده منصور فكان بنفس أخلاق وعزة والده، تزوج وخلف محمد الأحمر وسط صدى بطولات أهل المذاكرة وأهل الأعشاش وأولاد امحمد في صراعات عابرة وقوية، وفي دفاع عن القبيلة والوجود. ومنذ طفولته المبكرة انتظم على حفظ القرآن الكريم في الصباح، وفي المساء على ممارسة فنون ركوب الخيل والحرب في السهل والغابة، كما تعلم الفلاحة والتجارة وكان صدوقا أمينا، محبا للأمانة. بالإضافة إلى طموحه لأن يكون محاربا يدافع عن الحق ضد الظالمين.
كان رجلا متوسط القامة بحاجبين كثيفين، وسواد يختط عينيه الحادّتين مثل عيني نسر جارح، وحُمرة خفيفة تشوب لونه. منذ صغره كان مهابا في هيئة الأبطال، يحب الحياة، ولا يحتمل أن يرى الناس تموت ظلما وقهرا، ولم يفهم لحظتها من كان خلف صراع القبائل. كان صموتا لا يتكلم كثيرا ولكنه حينما يغضب يتحول صوته إلى رعد يسمعه البعيدون، لذلك، ومنذ طفولته عُرف قائدا لرفاقه وحكيما، كلمته مسموعة، له مقدرة على كسب أصدقاء جدد كانوا يطمئنّون إلى جواره. وهو شاب أصبح مالكا لنزالة باسمه، قصبة بمطاميرها الكثيرة وعين ماء صافية، يسكنها رفقة أهله ومَحجا للفقراء. بلغ عدد زوجات الأحمر سبع عشرة زوجة، لكن زواجه من ابنة عمه الكردة يذكرونه بكثير من الإعجاب لما كان من حب بينهما، وهي التي ستُخلف له الحسن والجيلالي، بالإضافة إلى باقي أبنائه وبناته من باقي النساء.
أصدقاء القدر
خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، قضى الأحمر بن منصور تلك الفترة يُبري قوته وشراسة مواجهاته بذراع أيمن مثل الطيف الرحيم، مسعود ولد رحيمو، الخارق في كل شيء، رفيق زمنه الساخن إلى جانب آخرين كانوا يقضون المساء في التداريب كما لو أنهم يتهيأون لحروب نادرة. ترعرع مسعود ولد رحيمو، بعد وفاة والده وهو صغير، في كنف جده محمد بن الحاج بدوار الشوادلة المشهور بالمحَرْڭـة (ستُسمى لاحقا بأحلاف)، ويُحتمل أن تكون ولادته في سنة 1860 وقد شبّ على البطولة والشجاعة، فأجاد ركوب الخيل بلا سرج أو لجام كما كان مدهشا في ملاعبة البندقية والدقة في الإصابة بها بشكل غريب، في الرأس تحديدا، وله حكايات كثيرة ما زالت تُروى على الألسنة.
كما كانت القبائل تحترم المذاكرة وتُوقّرها لأن بها الأحمر بن منصور ومسعود الرجل الغاضب الذي لا يرحم، لكن قلبه مال في قصة حب لا تتكرر، حينما سمعت به زهرة بنت بوعزة الشرقي، بعدما مات زوجها وتركها صغيرة مع ابنين منها، سمعت والدها يتحدث عن شجاعة مسعود كأنه واحد من أبطال السير الشعبية أو ألف ليلة وليلة، فخطبته لنفسها وأحبها حبا عظيما وخلف منها صالح وحمادي والميلودية والزوهرة والصالحة. وكانت لمسعود غرائب لأنه رجل نزع الخوف من قلبه إلى أن غدر به الغادرون فأصابوه في مقتل بعدما اختفى القاتل لأيام فوق شجرة بلوط يتربص به قرب ولجة الفرنان. ويوم موته كأن القيامة قامت، فحزن صديقه الأحمر بن منصور الذي أحس كأن موته قص جناحه، فاقترح على محمد ولد المكناسي أن يكون إلى جانبه في حماية الأرض والانسان مما كان في تلك الفترة.
كانت وفاة مسعود حوالي سنة 1902. وقبره معلوم بسيدي بولنوار ببير الورد. وقد خلدته الحكايات الشعبية الكثيرة وكذلك مقاطع من أغاني وأناشيد عبيدات الرمى التي تقول "قَبرك آمسعود في الغابة أحسن من عشرة هرابة". كان مسعود من سلالة الشجعان مثل جده ووالدته رحيمو التي كانت عمياء، وأخوه المعطي مول العودة صانع السيوف، أما أخته فكانت في كل المعارك حاضرة وبقيت حية وقاومت ضد الاستعمار في عامي سبعة وثمانية.
من أصدقاء الأحمر أيضا، بوشعيب بن الغزواني من أشجع من عرفتهم بلاد المذاكرة وزعير وكان هو من درّب الأحمر على فنون القتال كما درّب رجاله، وقد أبان عن شجاعة أذهلت الفرنسيين في عام ثمانية وتسعمائة وألف، في آخر المعارك حيث قرر البقاء مقاتلا في سيدي بارك دون أن يستسلم رغم تأكده من نزول الفرنسيين بكل ثقلهم وعتادهم، فانتقل إلى الغابة ثم إلى صخرة النسور بين الزكارنة وأولاد جحيش وهو يصيح مثل أسد جريح بأنه يفضل الاستشهاد مرتاح البال. اغتالوه في الغابة ثم عادوا بالدبّابة وأفنوا كل من بقي من أصدقائه ونسائه وأبنائه، واعتقلوا من تبقى. قبره معلوم بسيدي بوعبيد.
من رفاق الأخرين أيضا بوعزة السرحاني وبوعزة ولد الساحقة وعبد القادر بن الحاج المزروعي والعربي بن بوعزة هذا الأخير الذي أنقذه مرة من موت محقق فقال فيه قولا مازال الحفدة حتى الآن يتوارثونه بتقدير كبير: "العربي بن بوعزة والباقي الله"، ثم الآلاف من الرجال في المذاكرة وكل القبائل بالشاوية وزعير وتادلة والأطلس وفاس. عَمِلَ على استقدام الفقيه والقاضي بوعزة بن الشرقي، بعد استكمال دراسته في الأزهر، فكان رجل "العلم والقلم والدواية" والاستشارة؛ ابنته زهرة هي زوجة مسعود، له قرابة عائلية مع بوشعيب بن الغزواني. ويُروى أنه كان نسج للأحمر بن منصور لباسا صلّى عليه أربعين ليلة ماطرة. لباس لا يخترقه رصاص الفرنسيين، والحكاية هي بالتأكيد جزء من المتخيل الضروري الذي يلازم محبة الأبطال والفقهاء. ومع بوعزة بن الشرقي أصبحت نساء المذاكرة يرثن حقوقهن كاملة، كما كان يسلك سبيل الزواج من القبائل المجاورة وتزويج بناته لها حتى يحد من التناحرات.
أما رفيقه محمد ولد المكناسي، فهو من أولاد زيان، استقدمه الأحمر بن منصور إلى جانبه بعد مقتل مسعود، فكان رمزا عاليا من رموز الجهاد، طويل القامة فوق المترين له جرح بيّن في عينه اليسرى. منحه الأحمر أرضا في الميلحة، ثم صاهره متزوجا ابنته خديجة بنت ولد المكناسي.
الفارس الأبدي
تزوج الأحمر بن منصور أول مرة وقد بلغ سن الشباب، من ابنة عمه " الكردة" ثم بعدها خديجة بنت المكناسي، والحمداوية واليسيفية، وجوهرة، والفاسية الحيانية والشبانية والرباطية والزبيرية. خلف منهن عددا من الأطفال ومات له أيضا عدد كبير، حتى إن ابنه الأصغر "أحمد" لما مات قال للمعزين: لو أطللتم على كبدي لوجدتموها قد تفتتت من شدة حزني على كل أولادي المفقودين.
في حروبه التي ستخلد ذكراه بالدم والغبار الأسود، كانت " المجدمة" والجواسيس، قُبيل دخول الاستعمار يطوفون بالمذاكرة فلا يقربون خيام الأحمر بن منصور، وفي سنة 1907 من شهر غشت الصاهد، ومع دخول الفرنسيين إثر حادثة البابور، ركب فرسه وخلفه أهل المذاكرة في اتجاه الدار البيضاء، فخاض حروبا مريرة في أراضي الدار البيضاء ابتداء من مديونة إلى مناطق تسمى الآن القريعة، العوينة، عين الشق. مازالت تذكر الكر والفر وترى صوره فارسا يتقدمه برايته وسلهامه في اتجاه الموت أو الحياة. تغازله الرياح المنزوعة من سراب الصيف كأنما كانت تلثم كل أطرافه وهو عنها منشغل في حركاته السريعة مثل رمح قادم من أول الزمان.
وابتداء من سنة 1908 ومع مجيء الجنرال داماد، واصل الأحمر بن منصور جهاده الى جانب باقي الفرسان وأبنائه الذين سيستشهد منهم الكثير في معارك ملحمية، بمعركة سطات الأولى ومعركة السدرة بسيدي عبد الكريم ثم فخفاخة التي كانت من الملاحم الأولى الممهدة لكبرى المعارك في الشاوية وكل المغرب ببير الورد قرب الغابة وهي الأشرس التي مات فيها من جنود المستعمر العدد الكثير، ومن جانب المذاكرة أبطال من رفاق الأحمر، منهم محمد الزيداني. كانت لحظات عصيبة حفر فيها الأحمر ورفاقه الخنادق. وأخيرا وبعد مشاورات مع موحا وحمو الزياني، حمل السلالة وتوجه إلى بني خيران (إقليم خريبكة) في ضيافة صديقه حمو الشرقي قبل أن يعود قائدا باسم السلطان عبد الحفيظ، وقد وفد للمذاكرة عمر السكتاني وموحا وحمو الزياني وموحا وسعيد الويراري والقائد التريعي الدكالي وآخرين. غير أن سياقا مجهولا من مؤامرات المستعمر الفرنسي ورغبة السلطان عبد الحفيظ في اختيار أسلوب المفاوضات لحقن الدماء بعد ايحاءات فرنسية بالخروج من الشاوية، فانتقل إلى فاس ورحل معه الأحمر بن منصور إلى جانب ولد بوعبيد والشيخ البوعزاوي وآخرين. وبعد توقيع الحماية في سنة 1912 انضم الأحمر إلى الجهاد بالأطلس المتوسط قبل أن يعود إلى المذاكرة بجراح كثيرة ظلت عالقة في صوته وملامحه الحزينة. من دخول الفرنسيين، من موت أبنائه وأصدقائه ورفاق كفاحه، ومن الخيانات المتسربة مثل السم.
استقر بنزالة الأحمر وهو يلبس جلبابين وسلهامين، وبقي هناك يحمي كل من يتردد عليه أو يسكن بجواره دون أن يصله الفرنسيون، رافضا أن يراهم إلى أن مات ذات يوم خميس من شهر أكتوبر سنة 1928. وهناك دفن ويده اليسرى تحمل سبع رصاصات، وأخرى أسفل بطنه.