أخيرا قصد "النواعري"، "الشاوش" الذي يتوسط في كل شيء، ويتميز بقدرة عجيبة على فبركة الحلول. طلب منه أن يبحث له عن شقة صغيرة مفروشة يقيم فيها شهرا أو شهرين ريثما يعيد ترتيب أوراقه، لكنه عثر له في ظرف قياسي على شقة غير مفروشة تحوي غرفتين، وصالونا، وبهوا، وحماما، ومطبخا. قال له غامزا:
- همزة! شقة رائعة، حدثت صاحبها عن منصبك مع شيء من المبالغة، فأقنعته بتأجيرها بثمن مقبول، وبلا قيد ولا شرط. استغن عن الزائد عن الحاجة، اشتر لك سريرا وأنا أحضر لك طاولة وكرسيا، وها أنت ساكن.
عمل بوصية "النواعري" الضليع في فبركة الحلول، فاتخذ من الغرفة المطلة على الشارع مهجعا، استغنى عن الصالون، والغرفة الداخلية، بل وحتى عن المطبخ؛ فلا أدوات، ولا وقت، ولا خبرة، ولا مزاج للطبخ، وجبتان في اليوم كافيتان، فطور الصباح في المقهى، ووجبة في المساء يتناولها في أي مطعم أو محل لبيع الوجبات السريعة أو يحملها إلى البيت، وفي ذلك فائدتان اثنتان: اقتصاد وصوم متقطع صحي.
رتب السرير، أفرغ الحقيبة من محتوياتها، نضد الملابس في الدولاب الثابت، وأدوات الاستحمام في الحمام، وضع الطاولة والكرسي البلاستيكيين في البهو، وفي الشرفة حط الأصيص الطيني الذي تزاحمت فيه فصيلتان من الصبار، وقفصا به طائران من فصيلة "البادجي".
نزل ليبتاع قنينة ماء معدني وورقا صحيا من البقال مالك الشقة، وقف يتأمل الدور المصفوفة قبالته، كانت على طراز هندسي واحد، تكاد تكون متماثلة في طلائها ومداخلها ونوافذها، وبينما هو كذلك إذ بامرأة تمرق كالسهم من الرصيف إلى الرصيف لتمثل بين يديه. كانت امرأة ناحلة العود، وقادة العينين، خفيفة الحركة. ابتسمت له في البداية ثم انعقدت ملامحها وهي تشير إلى الشرفة، وأخذت تخبره بعصبية وانفعال عن واقعة بلغة الإشارة، ولما لم يفهمها أومأت إماءة تنعته بالغباوة والبلادة، وانصرفت غاضبة تفرقع نعليها لتجتاز الطريق من جديد.
اقترب منه طفل كورته سمنته المفرطة يلتقم حبات "الشيبس" الواحدة تلو الأخرى، وقال له:
- سلام، ألا تفهم لغة الإشارة؟ الخرساء منظفة حاذقة وأمينة، إذا احتجتها فلا تتردد، هي تنظف لنا شقتنا وتتركها تلمع. كانت تخبرك عن واقعة انتحار شاب في الشقة التي استأجرتها، قالت لك بأنه كان جميلا، لم تكذب، كان وسيما وأنيقا، كانت بنات الحي يتعاركن لأجله.
بقي ذاهلا للحظة طويلة، ولما أراد أن يستوضح كان الطفل هذه المرة قد أخذ من الكيس الكبير حفنة من "الشيبس"، ابتلعها دفعة واحدة، وسار على الرصيف يجرجر رجليه.
يا لحظه العاثر! ترك الدار وهو في سورة غضب عارم، بعد أن احتدم اللجاج بينه وبين زوجته التي لا تنتهي طلباتها كالمعتاد، وعلت أصواتهما، وتبادلا الاتهامات والشكوك القاسية، لكن هذه المرة صدمته عندما قال لها هل تريدين أن أسرق؟ فردت عليه ببرودة، اقبل الهدايا، افعل كما يفعل الناس. ابتعد حتى لا يتعجل في اتخاذ قرارات قد يندم عليها، ولات ساعة مندم، ابتعد ليخلو إلى نفسه، ليفكر بروية، وها هو الآن يجد نفسه مجرورا بحبال حكاية انتحار.
ترجل رجل قصير يضع على عينيه نظارات سميكة بصعوبة من دراجته العالية، وقال له:
- أنا هو حارس الدار الكبيرة التي هناك، إذا احتجت إلى أي شيء فأنا في الخدمة. أصحاب الدار في الخارج، كلفوني بحراستها بعدما تعرضت للسرقة مرتين، أنا أقيم مع زوجتي في الأرضي بالمجان، الحمد لله، أنا أحسن حالا من صاحب تلك الدار، عجز عن صعود السلم بعد إجرائه عملية جراحية على الظهر، وزوجته الصغيرة تأبى الهبوط، وتصر على النوم في مهجعها العلوي، هل فهمتني؟
أطلق ضحكة بلهاء، وهم بالانصراف إلا أنه استوقفه ليسأله عن حكاية المنتحر.
وجدها فرصة ليسترسل في ثرثرته:
سمعت صوت شيء يرتطم بالأرض، شاهدت الجسم المطروح، شاهدت الرأس المشدوخ، لكن "سبق الميم ترتاح"، قلت للشرطة أنا لم أر شيئا، تستطيع أن تقول "شاهد ما شافش حاجة"، هل شاهدت المسرحية؟ أنا شاهدتها مرات، وفي كل مرة تقتلني من الضحك، أنا لا أفوت أي عمل من أعمال الزعيم، هل يعجبك الزعيم؟
قاطعه بحدة قبل أن يستطرد في كلامه الممزوج بضحكاته البلهاء:
- أنا أسألك عن تراجيديا، وأنت تتحدث ضاحكا عن الكوميديا.
قال له الحارس:
- معذرة سأذهب إلى دكان بعيد، أنا لا أشتري من صاحب هذا المتجر، ألا يشبه ممثلا في فيلم "الإرهاب والكباب؟ هل شاهدت الفيلم؟ هو غشاش يزيد في الأسعار، وابنه فاقه في أساليب الغش والتدليس، "الحنش ما يولد غير طول منو"، إذا كنت مهتما بالواقعة فما عليك إلا أن تبحث عنها في الإنترنت.
بمشقة امتطى دراجته العالية، ومد قدميه كثيرا ليتمكن من الضغط على دواستيها، وانطلق وهي تتمايل به ذات اليمين وذات اليسار.
دون إبطاء فتح هاتفه، وأخذ يبحث عن الخبر، وبسرعة وجده منشورا في أحد المواقع الإلكترونية:
ثلاثيني يضع حدا لحياته
بإلقاء نفسه من الطابق الثاني
أقدم شاب في عقده الثالث على الانتحار يوم... وذلك بإلقاء نفسه من الطابق الثاني من شقة واقعة بحي... هذا وقد حضرت فور إخطارها بالحادثة عناصر الوقاية المدنية والشرطة القضائية، وقد نقل على جناح السرعة إلى المستشفى الإقليمي حيث لفظ أنفاسه الأخيرة متأثرا برضوض وكسور بالغة الخطورة في مختلف أنحاء جسمه، فيما تظل دوافع الانتحار مجهولة. وفي تصريح لموقعنا الذي كان سباقا إلى نشر الخبر، قال أحد الجيران بأن الهالك كان منطويا على نفسه، على قدر كبير من الحشمة، لا يرفع عينيه على الأرض...
دخل المتجر، كان هناك زبون عيناه مشدودتان إلى بيانات منتج يتفحصه، المتجر فائض بالسلع، سلع على الطريق، سلع على الرصيف، سلع في الممشى، سلع ضاقت بها الرفوف.
قال له ابن البقال الذي لم يفلح سلك التقويم بعد في إعادة أسنانه البارزة إلى الخلف:
- مرحبا بك، كيف وجدت الشقة؟
لم يجبه، وإنما سأله عن دافع إقدام صاحبها القديم على الانتحار:
رد بنطق السين شينا:
- ربما اضطرابات نفسية.
تدخل والده الأكرش وهو يمسد لحيته:
- مدبر خسر الدنيا والآخرة. لم يكن على هدى من الله. مد عينيه إلى ما لا يحل له، مد يديه إلى ما ليس من حقه.
استلم من الابن قنينة الماء والورق الصحي، ونقد والده الأكرش ثمنها وخرج، لحق به الزبون، واستوقفه ليحدثه.
- مصائب قوم عند قوم فوائد! مات، وترك كل شيء للورثة الذين عادوه وقاطعوه، الأختان اقتسمتا الأثاث، والأخ استأثر بالسيارة، والشقة عرضوها للبيع. البقال اهتبل الفرصة، اشتراها بثمن لا يصدق، ثم عرضها للكراء.
سأله عما إذا كان يعرف سبب إقدامه على الانتحار.
قال له بعد صمت حزين:
والله لا أصدق حتى الآن أنه انتحر، كان يحب الحياة، يحب الطير، يحب النبات، كان مبسوط اليد، ينفق على نفسه، ويكرم الفقراء بمنتهى السخاء، كان مرحا منطلقا تسرع البشاشة إلى من يراه، لكن بعد هلاكه طالت الألسنة، وكثرت فيه الأقاويل، قيل مخدرات قوية، وقيل خلافات عائلية، وقيل صدامات مهنية، وقيل عيون حاسدة، وقيل سحر قاتل، وقيل وقيل؛ بل نسج بعضهم عن ذلك حكايات، ومن ذلك حكاية الأطياف.
سأله في استغراب:
- ما حكاية هذه الأطياف؟
- حكى جار رحل كان يخالطه، والعهدة على الراوي، أنه أخبره بأنه وهو يسهر إلى وقت متأخر من الليل في شرفته، كان يرى أطيافا تتحرك خلف زجاج المهاجع العلوية الذي تغطيه ستائر شفافة، أطياف فتيات طويلات الشعور، يخرجن من النوافذ في أردية النوم، ثم يطرن مثل الفراشات، يتراقصن، يرسلن القبل، يمددن الأيادي، وهو كالمسحور يستجيب للنداء، ويوشك على الخطو في الهواء.
هز رأسه هازئا بما سمعه من كلام عن الأطياف، وصعد إلى الشقة، وجدها غارقة في الصمت كالمقبرة، حاصره الفراغ، وأحاطت به الهواجس والوساوس، تمدد على السرير، تراءى له طيف المنتحر في كل أرجاء الغرفة، فانكمش على نفسه مذعورا. فكر في الاتصال بالنواعري الذي لا يعدم حيلة في فبركة الحلول، لكنه عدل عن الفكرة، وأرجأ ذلك إلى بكرة الصباح.
في الهزيع الأخير من الليل كان ما يزال يتقلب في سريره، راودته فكرة الإطلال من الشرفة، تردد في البداية، لكنه تقدم متحوطا، وأخذ يسترق النظر إلى المهاجع العلوية لعله يرى تلك الأطياف.
كاتب من المغرب