كان يقود سيارته ببطءٍ لرداءة طرق حيه السكني الذي بنته الحكومة منذ أربعين عاما، تدهورت في الفترة الزمنية الطويلة دون صيانة أو تجديد. عند المنعطف رآه يخطف كخفقةِ طائرٍ أو رصاصةٍ منطلقة من مسدس مجنون، داس على المكبح فأصرّتْ الدواليب صريراً. توقفتْ السيارة، وهو باندفاعهِ صدم مقدمتها، نهض من كرسيه وهرع نحوه كان قد سقط على الأرض أمام مقدمة السيارة، صغير الحجم بقميصه الأبيض الناصع وبنطاله الأخضر، كان لا زال ممسكا بورقة من المقوي وردية، هَمَّ يرفعه، لكنه نهض معتمداً على نفسه وقال بكل إصرار:
- عمي امسك هذه الشهادة،
فعل الرجل، راحَ ينفض عن ملابسه ما علق بها من تراب، واردف بثقة:
- هذه شهادتي… خامس مرة اطلع الأول دون أن يعلم أبي!
قال له الرجل متعجبا:
- لِمَ؟
قال:
- لأني
ونظر إليه كأنه يقرأ أن كانَ يستأهل أن يفشي له سره،
- لأني يتيم!
نظر إليه بتعاطف كبير وأكمل مسح ما تبقي عالقا به من تراب، ثم رفعه ووضعه على سقف السيارة قائلا : - وكيف مات أبوكَ
- كان جندياً في الجيش يقاتل داعش!
- ...!
أكمل التلميذ:
- كان يطاردهم أقتحم بناية فانفجرت بهم!
قال له الرجل باسما:
- أنت لا تعلم!
ردّ التلميذ مستفهما:
- وما الذي لا أعلمه!
قال الرجل:
- أسمع يا ولدي أرواح الشهداء جعلها الله في حواصل الطير وهي دائما وبأيامٍ معدودة تقترب من بيوتها وتراقب عوائلها وتفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم!
جَمع اليتيم حاجبيه وصغر عينيه كأنه غير مصدق، واصل الرجل قوله:
- نعم هذا ما يحدث صدقني، والدكَ يعلم بنجاحاتك الأربعة وسيطير من الفرح في هذه المرة، خذ هذه هدية مني!
وأعطاه خمسة آلاف دينار، أخذها وَشكرَ الرجل وطار مرة أخرى، صاح خلفه:
- انتبه يا بني..
لكنه اختفى في زقاقٍ جانبي، حال وصوله إلي البيت راح يبحث بين أشجار الحديقة عن طيرٍ وهو يصرخ عاليا:
- أبي.. أبي.. أبي أنظر لقد نجحت، الأول على الصف!
خرجت الأم من غرفتها احتضنته وبكتْ.
من يومها صار اليتيم صديق الأطيار يحدثها عن أفراحه وأحزانه.