المقاومةُ الفلسطينيةُ تتقدمُ والمناعةُ الإسرائيليةُ تتراجعُ
يوماً بعد آخر يثبت الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، على أرضه المغتصبة وفي وطنه المحتل، تميزه الكبير، إذ تتعاظم مقاومته وتتعدد أشكالها، وتتنوع أسلحته ويتضاعف أثرها، وتتدافع صواريخه ويزداد مداها، وتمتاز وسائله وتختلف أدواتها، ويبدع رجاله وتتنافس مُسَيَّراتُه، ويتحدى أبناؤه الصعاب ويواجهون المخاطر، ويتجاوزون العقبات ويصمدون أمام التحديات، ويستطيعون الوصول إلى أبعد مدى وأخطر موقع، ويخترقون الجدران المحصنة، ويتغلبون على المعابر والحواجز الأمنية، ويفلتون من أجهزة الرقابة والكاميرات، ووسائل الملاحقة الجوية والفضائية، والأرضية والبشرية، وتقنيات التعقب والتتبع الحديثة والمتطورة.
ويزداد الفلسطينيون مع الأيام يقيناً بالنصر، ويتعمق إيمانهم بحتمية العودة والتحرير، ويعدون العدة للغدِ الآتي والمستقبل الموعود، ولا يفت في عضدهم أو يوهن عزمهم عِظَمُ الضحايا وفداحةُ الثمن، فلا الشهادة تخيفهم، ولا الاعتقال يمنعهم، ولا هدم البيوت يردعهم، ولا الممارسات القمعية ترعبهم، ولا شئ مما يتمخض عنه عقل الاحتلال وخياله العنصري المريض يقعدهم أو ييأسهم، وقد جرب معهم وضدهم كل غريبٍ وظالمٍ، وكل عنيفٍ وقاسٍ، فما استكانوا له ولا سلموا باستعلائه وقوته، ولا خضعوا لجبروته وسلطته، بل بزوه ونافسوه، وتحدوه وواجهوه، ونالوا منه وأوجعوه، وأصابوه وفجعوه.
منذ ما قبل الصيف الماضي الذي شهد فيه شهرُ رمضانَ معركةَ سيفِ القدس، والفلسطينيون لا ينفكون يواجهون العدو في كل مكانٍ، ويلاحقونه في كل المدن والبلدات، والمستوطنات والتجمعات، ويهاجمونه في المحلات والحافلات، وفي الشوارع والطرقات، ويواجهونه بشجاعةٍ ورباطة جأشٍ، بكل ما يملكون من أسلحةٍ بسيطةٍ وأدواتٍ بدائية، فصدموه بسياراتهم، وطعنوه بسكاكينهم، وفجوا رأسه ببلطاتهم وأسياخهم الحديدية، وأطلقوا عليه النار من بنادق قديمة ومسدساتٍ صغيرة، وغنموا منه بنادق آلية ومسدساتٍ حديثة، وبقي في جعبتهم الكثير مما يرعب العدو ويخيفه، وبما يصدمه ويشل قدرته على الفعل والحركة، ويعطل قدرته على التفكير والمواجهة، وقد خال جهلاً أن الفلسطينيين وحدهم، ولا أحد معهم يساندهم أو يؤيدهم، وأنهم وصلوا إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من اليأس والقنوط، بعد سقطات التطبيع وعار المصافحة والاعتراف.
غدت المقاومة الفلسطينية ثقافة شعبيةً، وسلوكاً يومياً اعتيادياً، يلجأ إليها كل شابٍ ثائرٍ، ويقوم بها كل رجلٍ غيور، وتنبري إليها الحرائر الماجدات والنساء الغاضبات، ولا يتأخر عن القيام بها الصغار والكبار، والفقراء والأغنياء، وأبناء المخيمات وسكان المدن، فقد ألجأ العدو بممارساته القمعية وسياساته الفاشية الشعب الفلسطيني كله إلى التفكير في المقاومة، وخوض غمار المواجهة لصد العدوان، وكف المستوطنين، ومنع عمليات التغول والعدوان والاقتحام والتدنيس، ووقف مساعي التقسيم والتخصيص، وتكبيد العدو ضريبة الاحتلال وكلفة الاستيطان، وأثمان البغي والقتل والاعتقال.
أما العدو فقد انهارت حصونه، وتفككت صفوفه، ووهنت عزيمته، وضعفت قوته، وتصدعت جبهته، وتراجعت قدرته، وتآكل ردعه، واهتزت صورة جيشه، وارتعشت حكومته، وأخفقت أجهزته الأمنية، وفشلت استطلاعاته وغارت تنبؤاته، ولم يعد قادراً على تدارك الأحداث ومواجهة المفاجئات، وبات أقرب إلى الاستجداء والسؤال، ومطالبة الأصدقاء بمساعدته والجيران بالوساطة بينه وبين المقاومة، لتكف عن عملياتها، وتتوقف عن تنفيذ مخططاتها، وقد أوجعه حتى اليوم تسعة عشر قتيلاً وعشرات الجرحى، الذين لن يسلم من ينجو منهم من معاناةٍ دائمة وأمراضٍ مزمنةٍ مستعصيةٍ، نفسيةٍ معقدة وجسديةٍ مقعدة.
لم تعد بين يدي العدو خياراتٌ جديدةٌ، ولا سبل فعالة أمامه لمواجهة الفلسطينيين والحد من إرادتهم، فقد خرج الفلسطينيون خروجهم الأخير، وأعدوا لمعركتهم الخاتمة، ولبسوا لَأْمَةِ الحرب وعدة القتال، واستودعوا الله عز وجل أماناتهم، بيوتهم وعائلاتهم، وأسرهم وأطفالهم، وباتوا لا يرومون غير النصر الناجز والعودة الآمنة المطمئنة، ولا يلتفتون إلى الوعود الكاذبة والمفاوضات الزائفة، ولا يؤمنون بغير القوة طريقاً وذرى سنام العزة والكرامة سبيلاً، ولا يتطلعون لغير هزيمة العدو ودحر الاحتلال بديلاً.
لعل الاحتلال بات يعرف يقيناً أكثر من غيره، أن يواجه شعباً مؤمناً عنيداً، صلباً صادماً، لا تكسر له قناة، ولا تلين له عريكة، ولا يعقد له لسان أو يغلق عليه سجان، ولا يوجد في قاموسه مفردات التسليم واليأس والخضوع والخنوع، والنسيان والقبول، وقد بات في الوطن وفي الشتات ثورةً تشتد وجمرةً تتقد، وسيلاً من العمليات البطولية لا تُحد، في الوقت الذي يدرك فيه أن مستوطنيه قد فقدوا يقين البقاء، وسلامة العيش وأمن الحياة، وشهوة السلطة وعظمة الاستعلاء، وأنهم أمسوا أقرب إلى الهروب أو الرحيل، إيذاناً بالوعد الآخر الذي يؤمن به الفلسطينيون ويعملون له، ويعتقد به اليهود ويخافون منه.
الأقصى في خطرٍ شعارٌ يفضحُ وسلاحٌ يجرحُ
نجح الفلسطينيون في كشف العديد من المؤامرات الصهيونية على المسجد الأقصى، وأماطوا اللثام عن محاولاتهم المحمومة منذ سنواتٍ طويلةٍ للدخول إليه من تحت الأرض ومن فوقها، وتصدوا بأجسادهم وأرواحهم، وإمكانياتهم البسيطة ووسائلهم المتاحة، لمحاولات المتدينين وقطعان المستوطنين وقادة أحزابهم السياسية، اقتحامه والصلاة فيه، وإقامة شعائرهم الدينية وطقوسهم التوراتية ومخططاتهم التلمودية، التي تمهد لهدم المسجد وتدميره، وبناء الهيكل المزعوم فوق أنقاضه، وقد سارعوا في السنوات الأخيرة خطواتهم، وكثفوا جهودهم، وحفروا المزيد من الأنفاق تحته، بما يهدد أساساته ويصدع جدرانه ويعجل في سقوطه، واستغلوا مختلف الظروف المحلية والإقليمية والدولية، لتحقيق أهدافهم، والوصول إلى غاياتهم.
إلا أن الفلسطينيين بمختلف توجهاتهم، ومن جميع مناطقهم، تمكنوا ولو بالكثير من التضحيات المادية والبشرية المؤلمة، من إفشال العديد من المحاولات الصهيونية، وساهموا جميعاً التزاماً بالواجب وأداءً للفريضة، كلٌ بالقدر الذي يستطيعون، وبالسلاح الذي يملكون، في الحفاظ على المسجد الأقصى، مسجداً إسلامياً، ففتحوا بالقوة بواباته، وشرعوا للمصلين والمرابطين أبوابه، وأرغموا سلطات الاحتلال على إزالة البوابات الإلكترونية، والتراجع عن كثيرٍ من الإجراءات الأمنية والإدارية التي كانت تحد من وصول المصلين إلى مسجدهم.
ونجحوا فعلاً بصبرهم وثباتهم، وتضحياتهم وعطاءاتهم، ومعاناتهم وألمهم، إلى حدٍ بعيدٍ في تسليط الأضواء على المسجد الأقصى المبارك، الذي هو آيةٌ في كتاب الله عز وجل، وجزءٌ من قرآننا العظيم، نتلوا آياته آناء الليل وأطراف النهار، ونتعبد بها الله عز وجل، ونتقرب بتلاوتها إليه جَلَّ شأنه، وأظهروا للعالم الإسلامي أن مسجدهم في خطر، وأن مسرى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم يتعرض للهدم، فكان المدافعون عنه شيباً وشباباً، ونساءً ورجالاً، وصبيةً وأطفالاً، لا يترددون ولا يتهيبون، ولا ينكفئون ولا يتراجعون، ووقف معهم مدافعاً ولهم مؤيداً وإلى جانبهم مقاوماً، إخوانهم المسيحيون من كل الطوائف، الذين اعتبروا أن الاعتداء على المسجد الأقصى إنما هو اعتداءٌ على كنائسهم ودور عبادتهم.
ما زال الفلسطينيون بكل انتماءاتهم يعتبرون القدس والمسجد الأقصى عنوان شرفهم، وذروة سنام جهادهم، وأسمى أهداف مقاومتهم، تهون دونه المهج، وتبذل في سبيله الأرواح، وتجود من أجله الدماء، فأسقطوا بمواقفهم الصلبة، وثباتهم العنيد، وتضحياتهم الكثيرة، كل أماني الكيان الصهيوني وأحلامه، وأجبروه بالأرواح الطاهرة والدماء الزكية، التي قدمت بسخاءٍ وبلا حدود، على الاعتراف باستحالة تحقيق أهدافه، وصعوبة تمرير مشاريعه، وأكرهته على مراجعة حساباته، والتفكير ملياً قبل الموافقة على مشاريع المستوطنين وأحلام المتدينين، وغدا سكان الكيان يلعنون مستوطنيهم، ويصبون جام غضبهم على متطرفيهم، ويحملونهم المسؤولية عن التوتر الذي ساد مناطقهم، والدماء التي سالت في شوارعهم، والرعب الذي عم بينهم وسيطر عليهم.
يعترف المحللون والباحثون، والكثير من الخبراء والمسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، ومعهم قادة أركان جيشهم وكبار ضباطه، أن الفلسطينيين قد نجحوا في معركة القدس، وجعلوا منها ومن المسجد الأقصى معركة العرب والمسلمين عامةً، وحَمَّلَت شعوبهم المسؤولية في الدفاع عن بيت المقدس وأقصاه الشريف، وأضعفت في الوقت الذي ظن فيه الإسرائيليون أنهم أصبحوا أقوى، الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية، التي وجدت نفسها ضعيفة أمام حراك شعوبهم من أجل القدس ودفاعاً عن المسجد الأقصى، وحارت كيف تفسر لهم علاقاتها بالكيان الصهيوني، واعترافها بهم وتطبيعها معهم، وبدت أمامهم صاغرةً ذليلة، ومتآمرة شريكة، مما اضطرها إلى مسايرة الشارع، والتنديد بالممارسات والسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين عامةً وتجاه القدس والمسجد الأقصى خاصةً.
ويعترف عامة الإسرائيليين أن الفلسطينيين قد نجحوا إلى درجةٍ كبيرةٍ في توريط كيانهم، وإضعاف حكومتهم، وتعرية سياساتهم، خاصةً بعد معركة سيف القدس الأخيرة، التي وحدت الفلسطينيين وجمعت كلمتهم، ونسقت جهودهم وعممت حراكهم، وربطت مناطقهم، وحرمت الاستفراد ببعضهم، فلم يعد من السهل على حكومة الكيان ضبط الشارع، ومنع انتشار الأحداث، والحيلولة دون وقوع المزيد من العمليات، ولعل كثيراً منهم يرى أن التطبيع مع بعض الأنظمة العربية علامةُ شؤمٍ وفألُ نحسٍ، وأن هذه الدول أصبحت أضعف من أن تتقارب مع كيانهم، وأبعد من أن تتعاون معه وتتفق وإياه على سياساتٍ مشتركةٍ تخدم أهدافهم.
إنها القدس المدينة العربية الفلسطينية العظيمة، الخالدة بمسجدها الأقصى المبارك، الذي بارك الله فيه وحوله، وشرَّف ساكنيه وكرَّم معمريه، وجعل المرابطين فيه خير الخلق وأشرف الأمم، إنها عروس المدائن وسيدة العواصم، عنوان العزة ودليل الشرف، التي تهوي إليها قلوب الملايين من العرب والمسلمين، ويتطلعون إلى تحريرها واستعادتها، فطوبى لمن سكنها، وهنيئاً لمن دافع عنها وضحى في سبيلها، والخزي والعار لكل من فرط فيها وتنازل عنها، وويلٌ لمن تخاذل وسكت، أو تراجع وضعف، فكما تكتب القدس في سجلاتها الخالدة، بحروفٍ من نور أسماء محرريها والمدافعين عنها، فإنها تفضح على الملأ المقصرين، وتكتب نهايةً مخزيةً لكل المتآمرين، وتخلدهم ملعونين، وتحفظ أسماءهم ضالين.
مناوراتٌ عسكريةٌ إسرائيليةٌ حصادُها هشيمٌ وجوهرها عقيمٌ
لا يمكن محاكاة إنقاذ ركاب طائرة مدنية تحترق في السماء وتهوي على الأرض، ولا سفينة غارقةٍ في عمق البحر وركابها تتلاطمهم الأمواج وتجذبهم المياه إلى عمقها، ما لم تكن الحادثة حقيقية، والمحاولة جدية، والركاب لا يعلمون أن العملية وهمية، وأنها ليست أكثر من مناورة تجريبية، ومحاولة عملية لاكتساب الخبرة ومراكمة التجربة، في الوقت الذي يعرف المشاركون في عملية الإنقاذ أنهم في دورةٍ تدريبيةٍ، وأنهم يستطيعون إجابة الهاتف، والاتصال بمن يحبون، أو التقاط الصور التذكارية كما يرغبون، وأنهم لا يواجهون خطراً حقيقياً، وليسوا في موقفٍ يفاضلون فيه بين سلامتهم الشخصية وسلامة غيرهم.
هذا ما يقوله ضباطٌ إسرائيليون سابقون وخبراء عسكريون مطلعون، تهكماً على المناورات العسكرية التي تقرها قيادة الأركان، وتنفذها قطاعات الجيش المختلفة، وتنفق عليها أموالاً طائلة، وتستنفذ بها قدراتٍ كبيرةً، وتشغل بها الجمهور الإسرائيلي وتوهمه، بدءً من خطة تنوفا التي لم تثمر شيئاً، ولم ترمم قدرات الجيش، ولم تعد إليه الهيبة التي كانت، والتفوق الذي كان يدعيه، ولا تلك التي تحاكي السيطرة على مناطق في جنوب لبنان، أو تعيد احتلال مناطق في قطاع غزة، وتدمر أنفاقها وتقتل رجالها، وتحرر من بين أيديهم جنودها الأسرى، أو غيرها من المناورات التي تصفها دوماً بأنها الأضخم والأكبر، والأكثر دقةً ومشابهةً للواقع.
يتساءل الخبراء الإسرائيليون عن نتائج خطة تنوفا الضخمة، التي كانت نتيجتها فشلاً ذريعاً في حرب سيف القدس "حارس الأسوار"، وهي التي عول عليها رئيس أركان جيش الكيان أفيف كوخافي في ضرب المقاومة وكسر شوكتها، ولكن النتيجة كانت مخزية ومهينة، إذ انقشع غبار القصف العنيف على المنطقة الشمالية في قطاع غزة، فيما أطلق عليه جيش الاحتلال "مترو حماس"، عن نتائج بسيطة لم تؤثر على نتيجة الحرب، ولم تفت في عضد المقاومة الفلسطينية، التي سارعت بالكشف عن فشل العدوان، وخرجت من تحت الأنقاض تضحك وتسخر، وتباغت وتهاجم.
تأتي تعليقات المسؤولين الإسرائيليين في ظل مناورات "عربات النار"، التي انطلقت وما زالت، إذ من المقرر لها أن تستمر شهراً كاملاً، وهي تحاكي سيطرة المقاومة الفلسطينية على بعض المناطق الحدودية، ونجاحها في أخذ عددٍ من المدنيين رهائن، وتحاول المناورات أن تظهر قدرة الجيش على التعامل مع أكثر من جبهةٍ محتملةٍ في آنٍ واحدٍ، مع عدم إغفال الجبهة الداخلية التي باتت هي الخاصرة الأضعف في الكيان، تمهيداً للقيام بعملية حارس الأسوار الثانية، إلا أن المتابعين لشأن المنطقة يقولون، أن حسابات البيدر تختلف كلياً عن حسابات الحقل، وقد لا تشبهها أبداً ولا تتطابق نتائجها معاً.
فالمقاومة الفلسطينية تراقب المناورات جيداً، وترصد جيش العدو، وتتابع خطواته، وتدرك خطره، ولا تأمن شره، وتعرف أنه قد يغدر بها ويقلب مناورته إلى حربٍ، وهي لذلك مستعدة ومتهيأة، وتعبئ صفوفها وتجهز عدتها، ولعل عندها ما يخيف العدو ويقلقه، وما يفاجئه ويصدمه، وإلا كان قد باغتها قديماً وهاجمها كثيراً، وقضى على الأخطار التي تهدده، والمخاوف التي تنتابه، ولكنه يعلم أن قوى المقاومة تتهيأ وتتجهز، وتتطلع لأن تثبت على الأرض نفسها، وأن تفرض عليه قواعد الاشتباك الجديدة، التي لا يستطيع أن ينكر أن بعضها قد فُرضَ فعلاً، وثبت عملياً خلال حرب سيف القدس، التي جرت أحداثها قبل عامٍ من اليوم، وهي الحرب التي بدأتها المقاومة وأطلقت طلقتها الأولى هجوماً لا دفاعاً.
لا يقتصر التهكم على مناورات جيش الاحتلال وقيادته على الضباط السابقين والخبراء العسكريين، بل إن قيادة الكيان السياسية، الحكومة والنواب وقادة الأحزاب، لا ينفكون يشككون في قدرة الجيش على حسم المعركة، خاصةً لجهة العمليات البرية الكفيلة بحسم نتيجة الحرب، ولا يخفون عدم ثقتهم في إجراءاته ومناوراته، ويمتعضون كثيراً من مطالبة رئيس الأركان المستمرة بزيادة ميزانية الجيش والأجهزة الأمنية، وتمويل عمليات الشراء وتطوير الأسلحة والمعدات، وتغطية النفقات المتزايدة والمهام الطارئة التي يتصدى لها الجيش وأجهزته الأمنية، بينما لا يتمكن من تحقيق الأهداف التي بات لا يعلن عنها تجنباً للحرج وخوفاً من الفشل.
يعيب الخبراء العسكريون الإسرائيليون على جيش كيانهم، أن قيادته تستثمر في الشكل فقط وتهمل الجوهر، وتبالغ في قوتها وتنسى أن خصمها يقوى ويراكم القوة، ويستثمر في الشكل والجوهر معاً، ويحارب في الميدان وعلى مستوى النفسي، ويكسب في الحرب الكلاسيكية وينجح في حرب السايبر وتقنيات الطائرات المسيرة.
لا ينكر الخبراء الإسرائيليون تفوق جيشهم في سلاح الجو والبحر، وأنه يستطيع أن يمطر الخصم، خاصةً في غزة، بوابلٍ من الهجمات الصاروخية الجوية والبحرية، وقد تساعده أسلحة الميدان المتمركزة بعيداً عن مرمى الخصم، ولكن هذا التفوق البعيد لا يصنع نصراً ولا يحقق حسماً، ولا يضع نتيجةً ملموسةً للحرب لصالحه، ما لم يتمكن من النزول إلى الأرض، والقيام بعمليةٍ بريةٍ واسعةِ النطاق، يتمكن خلالها من قتل مئات المقاومين وعزلهم عن قيادتهم، دون أن يتكبد خسائر كبيرة تقوى المقاومة عليها، وتهدد بها، فضلاً عن عزمها خوض الحرب على الجانب الآخر من الحدود بعيداً عن سكانهم، لكن قريباً من المستوطنين وداخل بلداتهم.
يدرك قادة جيش الاحتلال هذه العيوب جيداً، ويعلمون مدى عجزهم في هذا الجانب، ولكن هذا لا يمنعهم أبداً عن التخطيط لعملياتٍ بريةٍ موضعيةٍ محددةٍ، وتشكيل فرقٍ عسكريةٍ نخبويةٍ خاصة، للقيام بمهامٍ محددةٍ في عمق أرض الخصم، بحيث تكون الفرق على ارتباطٍ كامل بهيئة الأركان، وتكون هناك جاهزية تامة لدعمهم وإسنادهم أو إنقاذهم وإعادتهم إلى وحداتهم بسلامٍ، إلا أن قادة الجيش ومسؤولي الوحدات الخاصة، يدركون صعوبة البقاء في أرض الخصم، واستحالة الانسحاب منها أحياناً، الأمر الذي من شأنه أن يجهض أي عمليةٍ قبل المباشرة بها، علماً أن مثل هذه العمليات لن تتمكن أبداً من تدمير القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية، ولن تمنعها من مواصلة إطلاق رشقاتٍ صاروخية.
الوضعُ التاريخيُ للمسجدِ الأقصى فهمٌ مغلوطٌ وحلٌ مرفوضٌ
نخطئ كثيراً بمطالبتنا باستعادة الوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى، وكأننا باستعادته نكون قد حررناه وطهرناه، وطردنا الاحتلال منه وأعتقناه، وفرضنا سيادتنا عليه واسترجعناه.
المقصود الشائع باستعادة الوضع التاريخي للمسجد الأقصى المبارك، هو العودة إلى الواقع الذي كان عليه قبل احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس في يونيو عام 1967، عندما كان تحت السيادة العربية الأردنية، التي كانت تشرف عليه وعلى مدينة القدس، ضمن الارتباط العضوي والسياسي للضفتين الشرقية والغربية، اللتان كانتا تتبعان التاج الأردني، والذي اعتبر المسجد الأقصى مكاناً خاصاً بالمسلمين فقط، ومنه انبثقت الاتفاقيات مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، القاضية باحترامه للوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى، وهو ما لم يلتزم به، وما حاول تغييره تدريجياً، بالقوة والفرض حيناً، وبالخبث والمكر أحياناً أخرى.
إلا أن الوضع التاريخي والقانوني الصحيح للمسجد الأقصى المبارك، وهو ما يجب أن نطالب به ونصر عليه، هو الوضع الذي كان لمئات السنين في ظل الدولة العثمانية، حيث السيادة الإسلامية الكاملة عليه، وإبان الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث كان المسجد الأقصى المبارك مكاناً خاصاً بالمسلمين وحدهم، لا ينازعهم عليه أحد، ولا تمنعهم من الدخول إليه والصلاة فيه سلطة.
صحيح أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تسعى لتغيير الواقع الذي كان عليه المسجد الأقصى المبارك إثر عام 1967، ولا تفكر أبداً في العودة إلى ما كان عليه قديماً، وتسعى كما تدعي للتقسيم المكاني والزماني للمسجد، وخطواتها إن أنكرت ونفت تدل على ذلك، واقتحامات مستوطنيها المستمرة تشير إلى هذه النية.
إلا أن هدفها الأسمى وغايتها الأولى هي السيطرة الكلية على قبة الصخرة المشرفة، والاستيلاء على المكان المقدس، والمباشرة في بناء الهيكل الثالث المزعوم، الذي يعتقدون أن قبة الصخرة قد احتلت مكانه، وأنها بنيت على أنقاضه.
ومن أهدافهم الخبيثة التحكم في أوقات صلاة المسلمين وساعات دخولهم إلى مسكنهم، وتنظيم رحلاتٍ سياحية ودينية لليهود الوافدين والأجانب من مختلف أنحاء العالم، ضمن إدارة وتنظيم وزارة السياحة الإسرائيلية، ولعل الخرائط التي تصدرها وتوزعها على السياح، بما فيها من أسماء ومعالم وآثار، تشير إلى مخططاتهم الحقيقية تجاه المسجد الأقصى المبارك.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تعد تعمل بصمت، كما لم تعد تخفي نواياها وتموه أهدافها، فقد وصلت بها الجرأة والوقاحة إلى الإعلان المباشر والصريح عن أهدافها، والكشف المستمر عن مخططاتها، ولعلها منذ العام 2016 قد غيرت كثيراً من سياساتها، حيث كانت تعمل على مدى العقود السابقة بصمتٍ وهدوءٍ، بعيداً عن الإعلام وبصورةٍ لا يشعر بها الفلسطينيون، فكانت تحفر الأنفاق، وتبني الجسور، وتعمر الأدراج، وتغلق بوابات وتفتح أخرى، وتعيد رسم الخرائط وتسمية الأماكن.
لكنها اليوم لا تخفي نيتها بناء كُنسٍ داخل باحات المسجد، والسماح لليهود بالدخول إليها والصلاة فيها، وها هي جماعاتها تعلن عن نيتها تقديم القرابين وذبح السخلان داخل باحات المسجد، والصلاة علناً والاستلقاء على الأرض جهراً، والنفخ في الأبواق تحدياً، في إشاراتٍ صريحةٍ واضحة، أن زمان الهيكل قد اقترب، وأن أوان استعادته قد أزف، وأن أدواته وحجارته، وأزياء عماله وعُمَّاره، وثياب زواره ومصليه، كلها قد أصبحت جاهزة ومتوفرة.
لا يقصر الفلسطينيون في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، والحفاظ على هويتهم العربية ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية، ولا يألون جهداً في مواجهة سلطات الاحتلال والتصدي لإجراءاتهم، ومحاولة إفشال مشاريعهم وإحباط خططهم، رغم كل الصعاب والتحديات التي يواجهونها.
فهم محاصرون في مناطقهم، وممنوعون من الوصول إلى مدينة القدس والدخول إلى المسجد الأقصى المبارك، وكثيرٌ من أهل القدس يطردون منها، وتسحب هوياتهم، وتقيد حركتهم، ويبعدون عن المسجد، ويطردون من المدينة، ويعاقبون بالحبس المنزلي والاعتقال الفعلي، إلا أنهم يرون أن واجب الدفاع عن هويتهم ومقدساتهم، ووجودهم وحقوقهم، لا يسقط بتغول العدو وقوته، ولا بقسوة إجراءاته وخشونة معاملته.
أمام هذا الثبات الشعبي الفلسطيني الكبير، وتضحياتهم وعطاءاتهم، وصبرهم وصمودهم، وألمهم ومعاناتهم، فإنهم يحملون الأنظمة العربية والإسلامية خاصةً، والمجتمع الدولي عامةً، كامل المسؤولية عن جرائم العدو واعتداءاته، فعليهم تقع مسؤولية التصدي لسلطات الاحتلال، ومنعه من فرض أي تغييرٍ على واقع القدس والمسجد الأقصى.
فهم يملكون أدواتٍ أخرى ووسائل دبلوماسية مختلفة، وعندهم مؤسسات ومنظمات، ولجان وهيئات، ويستطيعون رفع شكاوى أمام الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة، والمطالبة بمحاسبة سلطات الاحتلال وإرغامهم على احترام حقوق الشعب الفلسطيني، والكف عن محاولات المس بحقوقه ومقدساته، وتغيير الواقع لما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم، ولعل الشعوب العربية والإسلامية لا تغفر لأنظمتها وحكوماتها صمتها وضعفها، وعجزها وربما قبولها بجرائم العدو التي تتوالى ولا تتوقف، وتشتد وتيرتها ولا تضعف.
أخيراً فإن الفلسطينيين والعرب والمسلمين معاً، لا يتطلعون فقط إلى حرية العبادة، وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس، للصلاة في المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة، فهذا حقٌ مشروعٌ ومكفولٌ، لا يتنازل عنه الفلسطينيون، ولا يعتقدون أن أحداً يقوى على انتزاعه منهم أو حرمانهم منه، مهما عظمت قوته وبلغ عنفه، ولن يرضوا عن الاحتلال ويسكتوا عنه في حال سمح لهم بالوصول إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والصلاة فيهما، أو توقف عن استفزازاته وإجراءاته العدوانية، ذلك أنهم يتطلعون إلى تحرير بلادهم كلها، واستعادة وطنهم كاملاً، وتطهير مقدساتهم الدينية، وفرض سيادتهم الوطنية، وهذا ما سيكون بإذن الله، طال الزمن أو قصر، وتأخر النصر أو تعجل.