رصاصة غادرة تعودت التقتيل تختار رأس الصحفية شيرين أبو عاقلة، الوجه الإعلامي الذي تعوده المتتبعون راصدا للحراك الفلسطيني على الأرض متتبعة لحظة بلحظة فاضحة أساليب الكيان المحتل الغاصب، الشهيدة شيرين وهي تغادرنا شكلت صرخة إدانة ودليل إضافي للغطرسة الصهيونية.. هنا تقرير للكاتب الفلسطيني مصطفى يوسف اللداوي يتوقف عند حدث الاغتيال وخلفياته.

شيرين أبو عاقلة نصر متعدد الجبهات

مصطفى يوسف اللداوي

 

شيرين نصرٌ متعددُ الجبهات وشهادةٌ تحاصرُ الاحتلالَ

عربيةٌ فلسطينيةٌ هي شيرين أبو عاقلة، مقاومةٌ كسائر أبناء شعبها، ومرابطةٌ كأهلها على تراب وطنها، لا تميز نفسها عنهم، ولا تتعالى عليهم بجنسيتها الأمريكية ونجوميتها الإعلامية، ولا تنأى بنفسها عن قضيتهم، ولا تتخلى عن دورها بينهم.

تشاركهم الهموم والأحزان، وتشاطرهم الآلام والأوجاع، وتكابد وإياهم ويلات الاحتلال، وتعاني مثلهم من سياساته العنصرية وإجراءاته القمعية، ولا تشعر بأن مهنتها الصحافية تمنحها الحصانة، وتحميها من غدر الاحتلال وحقده، ولا تعتقد أن سترتها الصحفية وشارتها المميزة تحول دون استهدافها، وتمنع الاحتلال من قتلها.

وقد هيأت نفسها لمثل هذا اليوم واستعدت له، ودأبت في منشوراتها الخاصة وأحاديثها الشخصية تذكر أنها قريبة من الشهادة، وأنه قد يطالها ما طال أبناء شعبها، وقد كان ما توقعته، ووقع ما كانت تكتب عنه وتواجهه ولا تهرب منه.

إلا أن شهادة الإعلامية الفلسطينية المتألقة شيرين أبو عاقلة، التي استحقت بجدارة لقب "أيقونة الإعلام الفلسطيني المقاوم"، لم تكن شهادة عاديةً ولا تصفيةً عابرةً، بل غدت جريمة اغتيالها حرباً جديدةً ومعركةً كبرى، حقق فيها الفلسطينيون على العدو الإسرائيلي نصراً عزيزاً وفتحاً كبيراً، ولو أنه جاء بالدم القاني الطاهر، وبخسارةٍ كبيرةٍ لقامةٍ إعلاميةٍ وطنيةٍ عريقةٍ، صادقة اللهجة قوية العبارة، جرئية الجنان بليغة اللسان، واثقة الخطى سباقة إلى الواجب، تؤمن برسالتها وتضحي من أجل قضيتها.

دم شيرين المهراق على أرض الوطن فلسطين، قريباً من أرض البطولة والتحدي، وعلى مداخل مخيم الصمود والمواجهة، مخيم جنين الذي احتفى بشهادتها، ورفع جثمانها فوق الرؤوس وساماً، وطاف به رجاله في أرجائه تيهاً وفخاراً، وأقسموا وهي على أكتاف المقاومين عزيزةً، أن يواصلوا المسيرة، وأن يستكملوا المعركة، وأن يثبتوا أمام جنود الاحتلال ثباتهم أمامه أول مرةٍ، وأن يكبدوه خسائر أكبر، ويجبروه على دفع ضريبةٍ أكثر وجعاً وأشد ألماً، وهي التي هيأت نفسها للمشاركة فيها إعلامياً، وقد خطت صبيحة استشهادها كلماتها الأخيرة، داعيةً كل من أراد العزة والكرامة، وكل من يتطلع إلى النصر والمواجهة،أن ييمم وجه شطر جنين.

شيرين أبو عاقلة فضحت الاحتلال الإسرائيلي المفضوح أصلاً وعرته أكثر، وكشف أوراقه السوداء وسياساته الحمقاء أمام المجتمع الدولي كله، الذي لا تكاد توجد فيه دولةٌ واحدة لم تدن الجريمة وتستنكرها، فقد شجبت جريمةَ اغتيالها كبرى العواصم الدولية، وأصدرت أغلبها بياناتِ إدانةٍ لم تخلُ من عبارات الغضب ومفردات الإدانة شديدة اللهجة، وهو أمرٌ لم نعتد عليه في فلسطين، ولم نشهد مثله من قبل، ولكن دماء شيرين التي روت أرض فلسطين وجنين، كان لها من الخير والبركة ما يعم الوطن ويفيض على الشعب.

 

أجبرت شيرين المتلحفة بالعلم الفلسطيني، والمتزينة بثوبٍ مقدسيٍ مطرزٍ موشىً قشيب، العدو الإسرائيلي وهي جثةً ترقد في أحد مستشفيات مدينة القدس، على أن يخضع لقداسها وأن يتراجع أمام طقوس دفنها، فُرُفعَ العلم الفلسطيني رغم أنفه خفاقاً في سماء القدس، ورفرف فوق السواري والبيوت، وبقبضات الرجال وأيدي النساء، رغم محاولاته ثني الفلسطينيين ومنعهم من رفع علم وطنهم والتلويح به، إلا أن دم شيرين قهره وجثمانها هزمه، وأصر أبناء شعبها على الوفاء لها والانتصار لدمها وعدم خذلانها، فأعادوا علم فلسطين بجثمانها إلى سماء عاصمتها القدس.

كما أجبرته شيرين على أن تجري مراسم التشييع والدفن في مدينة القدس، مسقط رأسها وعاصمة بلادها، وأن تدفن في ثراها إلى جانب أبيها، وأن يشارك رفاقها وزملاؤها وأبناء شعبها في مراسم التشييع والدفن.

وأعلن أكثر من ثمانية عشر سفيراً أوروبياً عن نيتهم المشاركة في مراسم الدفن، الأمر الذي أغاظ سلطات الاحتلال وكبلهم، ومنعهم من استخدام القوة لتفريق المشيعين وإفساد مراسم التشييع والعزاء.

ولعل إعلان السفارة الأمريكية في القدس عن إمكانية مشاركة مندوبين عنها في التشييع، يعتبر سابقةً في تاريخها، وخطوةً قد يكون لها ما بعدها، خاصةً أن الإدارة الأمريكية ودول أوروبا يطالبون بإجراء تحقيق مسؤولٍ لكشف ملابسات اغتيالها.

نجحت شيرين أبو عاقلة في جمع كلمة الفلسطينيين وتوحيد صفوفهم، مسلمين ومسيحيين، فكما دقت كنائس القدس وفلسطين أجراسها، فقد رفع الآذان وتهليلات الله أكبر في المسجد الأقصى ومساجد القدس وفلسطين، فيما بدا أنه أجمل تلاحمٍ وأوضح رسالةً إلى العدو الإسرائيلي وإلى العالم كله من بعده.

أثبتت شيرين بدمها أن شعبَ فلسطين شعبٌ واحدٌ، يجمعهم همٌ واحدٌ ومصيبةٌ واحدةً، وأنهم جميعاً يداً واحدة في مواجهة الاحتلال والتصدي له، وها هم جميعاً مسلمين ومسيحيين في شوارع القدس يتحدون جيش الاحتلال، ويتصدون لإجراءاته التي تحول دون مشاركتهم في وداع ابنتهم وإلقاء النظرة الأخيرة عليها.

شهادة شيرين أبو عاقلة موجعة مؤلمة قاسية، تدمي القلوب وتفجعها، وتفطر الأكباد وتفتتها، ولكن عزاءنا في شهادتها أنها قاتلت بدمها، وقاومت بجثمانها، وجعلت من شهادتها فتحاً قريباً ونصراً لشعبها وقضيتها مبيناً، ولا أظن أن الأيام القادمة ستطوي الجريمة، وستنسي الفلسطينيين ألمهم، بل إن مواراة شيرين الثرى سيبعث في شعبناً أملاً جديداً وعزماً كبيراً، أننا بالدم نقاوم وبه ننتصر، وأن عدونا أمامه ضعيف وبه ينكسر، وكما كانت شهادتها لشعبها نصراً ولقضيتها فرضاً، فإن جنازتها ستكون على العدو لعنةً، ودفنها سيكون لكيانه زوالاً ودفناً.

 

في ظلالِ شهادةِ شيرينَ مشاهدٌ وصورٌ

وَيكأنَّ الله عز وجل قدر شهادة الإعلامية القديرة شيرين أبو عاقلة، المرأة الصحافية المقدسية الأمريكية الفلسطينية، على مداخل مخيم جنين، بهذه الطريقة المدوية والصورة الصارخة، وفرضها على العالم كله، فكانت ملء سمع الكون وبصره، لشيءٍ عظيمٍ أراده، ولغايةٍ في نفسه سبحانه وتعالى شاءها، فهيأ لها الأسباب وقدر لها الظروف، ولو أنها كانت فقداً أليماً وحزناً كبيراً، إلا أننا نرجو الله عز وجل خيرها، ونعوذ به سبحانه وتعالى من شرها، فهو جَلَّ شأنه الذي يسير الكون بحكمته، ويقدر آجال الخلق بإرادته، فله في كل شيءٍ حكمة قد لا ندركها ولا نحيط بها في زمانها وحينها، ولكنها قد تتجلى من حيث لا ندري أو نحتسب، فنجني من الحزن فرحاً، ومن الألم عزماً، ومن الضعف قوةً.

 

بكينا بدموعٍ حرى غياب شيرين، ورثيناها بكل جميلٍ يليق بها، وتابعنا بحزنٍ حتى ساعة كتابة هذه الكلمات طقوس وداعها والصلاة عليها، ومراسم تشييعها ودفنها، وفعاليات تكريمها والعزاء بها، فلمسنا مما رأينا وشاهدنا طهرها وصدقها، وخيرها وبركتها، فكأنها بوابةٌ للمقاومة فتحت، وجبهةٌ فلسطينية تقدمت، ومنبراً وطنياً بالحق الفلسطيني صدح، فقد هزمت العدو في تابوتها، وقهرته في مماتها، وفضحته في شهادتها، وما زالت حتى الساعة تحرج سلطات الاحتلال وتفضحهم، وتكشف حقيقتهم وتظهر مخازيهم، وتميط اللثام عن لؤمهم وخبثهم ونذالتهم وفساد أخلاقهم.

استدعت سلطات الاحتلال في القدس شقيقها الفخور بها أنطوان، وطلبوا منه التعهد بأن تقتصر مراسم التشييع والدفن على خمسين فرداً من أسرة شيرين وعائلتها، فكان رد أنطوان الذي رفض التعهد وأصر على أن شيرين ابنة الشعب الفلسطيني كله، وأنه لا يملك الحق في منعهم من وداعها والمشاركة في تشييعها، أن خرج في وداعها عشرات آلاف الفلسطينيين، جاؤوا إليها من كل أرجاء فلسطين، مسلمين ومسيحيين جنباً إلى جنبٍ في جنازةٍ عز نظيرها في الشارع الفلسطيني.

أصرت الشرطة الإسرائيلية ألا يرفع المشيعون علم فلسطين، وطلبت من منظمي التشييع أن يلتزموا بالقرار، فإذا بسماء القدس تحجبها رغم أنف العدو وسلطته آلاف الأعلام الفلسطينية، في مشهدٍ سيبقى عالقاً في وعي سلطات الاحتلال التي تدعي أن القدس الموحدة عاصمتها، وأنه لا علم يرفرف فيها غير علم كيانهم، فإذا بالعلم الفلسطيني يبزهم ويزاحمهم، ويهدد وجودهم وينذر بزوالهم، وكأن الفلسطينيين يقولون لهم بتحدي أن هذه هي عاصمتنا، وهذه البلاد لنا، وهذا علمنا سيبقى أبداً وسيرتفع دوماً.

كما طلبت شرطة الاحتلال أن تكون مسيرة التشييع صامتةً هادئةً، لا تتخللها شعاراتٌ ولا خطاباتٌ، ولا يكون فيها تحريضٌ ولا إشادة بالمقاومة، ولا وعودٌ بالثأر أو دعوات للانتقام، فإذا بالمسيرة تتحول إلى شلالٍ من البشر هادراً، تزداد أعدادهم كل خطوةٍ ولا تنقص، فلا ينفضون نتيجة الاعتداء، ولا ينسحبون خشية الضرب أو الاعتقال، وهم يصدحون بشعارات يتردد صداها في جنبات القدس، وترتفع أصواتهم إلى عنان السماء، وقد اختلطت معها تكبيرات المساجد وصوت أجراس الكنائس، في مشهدٍ بهيجٍ يفرح به الفلسطينيون ويتيهون.

 

لن يغفر العالم لعناصر شرطة الاحتلال الإسرائيلي سلوكهم الشائن وتصرفهم البغيض، وهم يزاحمون المشيعيين، وينهالون ضرباً على الذين يحملون التابوت، يريدون إسقاطه بالقوة، إلا أن الشبان الذين تكبدوا الصعاب وتحملوا المشاق وهم في طريقهم إلى القدس للمشاركة في التشييع، رفضوا التخلي عن التابوت، وقاموا سقوطه، وأصروا أن يبقى مرفوعاً فوق الأكتاف، عالياً فلا يسقط، صامداً فلا يتزعزع، رغم الهروات الثقيلة التي كانت تنهال عليهم بوحشية من جنودٍ همجٍ لا يعرفون شيئاً من معاني الحضارة ومفاهيم الإنسانية.

لم تكتف سلطات الاحتلال باعتداءات جنودها وشرطتها على التابوت والمشيعين، وعلى حملة الأعلام والمتضامنين، بل داهمت جموعٌ غوغاء من جنودهم بيت الشهيدة شيرين واقتحموه، وفتشوه حقداً وعاثوا فيه فساداً، وصادروا بعض ما فيه غِلاً، ونزعوا من على جدران بيتها صورها وشهاداتها غيظاً، وأخذوا ما وجدوه في بيتها من أعلام فلسطينية وكوفيات وطنية حقداً.

لم يحترم الاحتلال الإسرائيلي كرامة الموتى ولا حرمة المقابر، ولم يحافظ على قدسية الكنائس ودور العبادة، ولم يقدر حزن المحبين وجوى المعزين، بل اعتدى على بيت العزاء، وحاول فض المعزين وإخراجهم بالقوة، واعتقل بعضهم واعتدى بالضرب على كثيرٍ منهم، إلا أن الفلسطينيين الذي رأوا في البقاء صموداً، وفي الثبات كيداً للعدو وغيظاً، أصروا على أن يواصلوا العزاء، وأن يتحملوا ما يتعرضون له من ضربٍ وأذى، إكراماً للشهيدة وسلوى لأهلها.

ستبقي شهادة شيرين أبو عاقلة ذكرى عالقة في وجدان الشعب الفلسطيني، ولن تقوى الأيام على طمسها، ولن يستطيع العدو الإسرائيلي أن ينساها، ولن تنتهي مفاعيلها، فقد حركت العالم كله ضده، وأجبرت حكوماته على إصدار بيانات استنكار وشجبٍ على غير عادتها، ما سيجعل جريمة اغتيالها لعنةً تطارده، وحسرةً وندامةً لا تفارقه، فسلامُ الله عليك شيرين، وسلام الله على من أحبك وودعك ودعا لك وصلى عليك.