خرجت إيلينا فيرانتي من سنوات التكوين بأن لديها نوعين من الكتابة يتعايشان في نفسها، هما الكتابة "الطائعة" والكتابة "الطائشة"، الأولى تلتزم الهوامش، تحترم النحو والترقيم والقواعد والإجماع على ما يصنع القالب الأدبي الجيد ويضمن ثناء أصحاب السلطة الأدبية، والنوع الثاني من الكتابة جامح، فائض عن السطور، رافض للانصياع لأي معايير وأي قالب، وهذه هي "الكتابة في ما وراء الهوامش".

إيلينا فيرانتي تحكي عن قصتها مع القراءة والكتابة ألما ومسرة

أحمد شافعي

 

لا أعرف إن كان الأمر يرقى إلى ظاهرة من ظواهر النشر، لكنني ألاحظ منذ بضعة أعوام انتشاراً للكتب التي تتناول القراءة، وتفشياً لمن يعيشون بيننا بلا صفة إلا أنهم يتكلمون عن الكتب، فهم "يوتيوبرز" (نسبة إلى "يوتيوب") أو "بلوغرز"  (نسبة إلى المدونات) أو هم نشطاء ثقافيون، وهذه وربما غيرها تسميات جديدة لمن كانوا يوصفون حتى الأمس القريب بكلمة بسيطة واضحة المعنى هي "القراء" ويقومون تقريباً بمثل ما يقوم به أمثالهم الحاليون، إذ يتكلمون في دوائرهم الضيقة عما يقرأون. ولا يسمي المتكلمون الجدد عن الكتب أنفسهم نقاداً، ولا أحسبهم يتجاسرون على ذلك، لا لأن النقد يقتضي درساً ودراية يفتقر أغلبهم إليهما، لكن لأنه يحمل صاحبه مسؤولية ما يقول ويلزمه أن يقدم أطروحات متماسكة، أما هؤلاء فمتكلمة لا أكثر، مشكورون على الصواب النادر، مغفور لهم الخطأ الوافر، مأجورون أحياناً من الناشرين لترويج ما لا يرجى له رواج من تلقاء نفسه.

فضلاً عن هؤلاء، هناك كثرة من المؤلفين الذين لم يؤلف بعضهم إلا كتباً عن كتب، وهي مرة أخرى بعيدة من النقد كما ظللنا نعرفه طويلاً، إنما هم يكتبون عن تجاربهم في القراءة، أو عن مكتباتهم، أو عن مسرات القراءة واقتناء الكتب وتكوين المكتبات الشخصية والتردد على المكتبات العامة. ولا بأس بالطبع في وجود هذه الكتب، فكثير منها ممتع، وبعضها مهم، وهي دائماً موضع احتفاء القراء، لكن كثرتها هي التي ربما تستوجب تفسيراً ما. وأخشى أن يكون تفسير هذه الكثرة أن غالبيتنا في هذا العصر باتوا بحاجة إلى من يقرأون لهم، فهم "عميان" عصرنا الذين لهم أعين يبصرون بها لكنهم يغمضونها طائعين، راضين بأن يقرأ غيرهم بالنيابة عنهم ويفهم فيرضون بفهمه ويحكي فينامون على حكيه أو بالأحرى يستنيمون له. أخشى أن تكون كل هذه الكتب المكتوبة عن القراءة دليلاً على ندرة ممارسة القراءة في عصر لم تشهد الإنسانية مثيلاً له في إتاحته الكتب بلا ثمن تقريباً وبلا عائق يذكر من دون الحصول عليها.

وبالطبع لا ينتمي إلى هذه الفئة من الكتب على أي حال كتاب الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي "في الهوامش: عن مسرات القراءة والكتابة"، لكنه يذكّر بها ويصح أن يكون قدوة لها. وصدرت ترجمته الإنجليزية (بقلم آن غولدستين مترجمة جميع أعمال فيرانتي إلى الإنجليزية) عن دار "أوروبا إيديشنز" في 120 صفحة، وعلى الرغم من العنوان الفرعي للكتاب ـ أي "مسرات القراءة والكتابة"، فسوف يخيب رجاء القارئ الذي يسيل لعابه أمام عنوان كهذا، فيمني نفسه بتناول عصير آخر من عصائر الكتب المعتادة في الأعوام الأخيرة، بل لعل من يعول أكثر مما يجب على كلمة "المسرات"، أو يفهمها بظاهر معناها المعهود، أن يخيب رجاؤه هو الآخر.

شبح وثلاث محاضرات

بدأ كتاب "الهوامش" بدعوة تلقتها إيلينا فيرانتي لإلقاء ثلاث محاضرات ضمن سلسلة محاضرات "إكو" في جامعة بولونيا، التي تحمل اسم الروائي الإيطالي الراحل ـ صاحب "اسم الوردة" وعدد من الروايات والمؤلفات الأقل رواجاً ـ لأنه كان يدير المركز الثقافي الذي يستضيف هذه المحاضرات. قيل لفيرانتي إنها مدعوة لإلقاء ثلاث محاضرات على مدار ثلاثة أيام متتابعة وإن المحاضرات مفتوحة للمدينة بأسرها وإن لها أن تتناول أعمالها، أو جمالياتها، أو تكنيكها السردي، أو أي موضوع آخر تحلو لها مناقشته أو تقدر أن يكون موضع اهتمام الجمهور العام غير المتخصص! وهذه جميعاً ألغام قد لا ينتبه البعض إليها لكنها كفيلة بأن تجعل أي كاتب يحجم طويلاً عن مواجهة الصفحة البيضاء، وبأن تجعله إذا ما واجهها أخيراً يحار في كل كلمة قبل أن يثبتها أو قبل أن يمحوها! فأي كاتب هذا الذي لا تفزعه كلمات مثل المدينة بأسرها، أو الجمهور العام غير المتخصص، أو الموضوع المثير للاهتمام، أو تناوله أعماله، أو جمالياتها، أو تكنيكها السردي؟!

ثم يضاف إلى ذلك كله لغم كبير يخص فيرانتي بالذات، فهي شبح والأشباح لا تظهر للناس، ذلك أن إيلينا فيرانتي ـ كما بات معلوماً لقرائها في شتى بقاع العالم كله ـ ليس سوى اسم مستعار لكاتبة بيعت من كتبها ملايين النسخ وترجمت إلى لغات كثيرة وتحول بعض أعمالها الروائية إلى المسرح والتلفزيون، وأخيراً تحول أحدها وهو (الابنة المفقودة) إلى فيلم من إنتاج "نتفليكس" ، وبقيت الكاتبة مع ذلك مختفية وراء اسمها المستعار، لم تنتهز أي فرصة لتنزع الحجاب عن وجهها الحقيقي وتخرج من وراء أقدم وأشهر شخصياتها المؤلفة وتسلم للضوء الساطع اسمها الحقيقي.

كان طبيعياً لكاتبة آثرت هذا الاختفاء التام منذ أن بدأت النشر قبل قرابة ثلاثة عقود أن ترفض هذه الدعوة، فما لشبح أن يلقي محاضرة، لكن فيرانتي قبلت وكتبت بالفعل نصوص المحاضرات التي تمثل المقالات الثلاث الأولى في هذا الكتاب (فضلاً عن محاضرة رابعة كانت قد ألقيت بوصفها الكلمة الرئيسة في مؤتمر لدراسات دانتي)، ولم يبقَ من حائل يحول دون ظهور الشبح أمام الناس. لولا أن تدخل "كوفيد-19" ليؤجل الفاعلية كلها إلى نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي حين نابت عن فيرانتي في إلقاء المحاضرات الممثلة الإيطالية مانويلا ماندارشيا التي اعتلت المسرح أمام الجمهور لتلعب دور إيلينا فيرانتي.

"الألم والقلم"

أولى محاضرات الكتاب عنوانها "الألم والقلم" ومن مصادفات الترجمة السعيدة النادرة أن العنوان بالإنجليزية (Pain and Pen) فيه مثل ما في العربية من تقارب صوتي بين الكلمتين (يصل إلى حد التماثل في بعض العاميات العربية) جدير بأن يدعو القارئ إلى تأمل هذه العلاقة بين الكلمتين والمعنيين، وجدير بأن يلقي ضوءاً مختلفاً على معنى "المسرات" الموعودة أو المزعومة في العنوان. تستهل فيرانتي مقالتها هذه بطفلة صغيرة تخطو خطوتها الأولى بالغة المشقة مع الكتابة، والكتابة هنا لا تعني التأليف وإنما محض إجادة تحويل أصوات الكلمات إلى حروف مرسومة. في سن مبكرة للغاية، كان على فيرانتي ـ شأن سيسيليا ـ أن تلتزم في تعلم الكتابة أمرين: الأول هو التزام السطور، فتضبط كتابتها أفقياً، والثاني هو أن تجعل كتابتها دائماً محصورة بين خطين رأسيين يحددان المساحة المسموح بالكتابة فيها من الصفحة، وفي حين سهل عليها أن تراعي الخط الرأسي الأيسر ـ الذي تبدأ الكتابة بعده ـ فكثيراً ما كانت تعجز عن كبح الكتابة فلا تفيض لتتجاوز الحد الأيمن "وكم عوقبت حتى صار الإحساس بالحد جزءاً مني، فحينما أكتب [الآن] بيدي أشعر أن ذلك الخط الرأسي الأحمر يهددني وإن لم أستعمل ذلك الورق منذ سنين". وهذا، إذاً، معنى للهوامش.

تكتب فيرانتي "أعتقد أن إحساسي بما أكتب ـ وبكل ما في الكتابة من كفاح ـ يتعلق بالرضا الناجم عن جمال البقاء في ما بين الهوامش، كما يتعلق في الوقت نفسه بإحساس الخسارة والإهدار الناجم عن النجاح في ذلك".

لكن مصاعب الكتابة لم تقتصر، للأسف، على ضبط الهوامش، فتلك صعوبة بات يمكن التغلب عليها بنقرة، إذ تكتب فيرانتي ـ شأن أكثرنا ـ مستعملة الكمبيوتر، لكن ثمة مصاعب أخرى منها مثلاً شعورها حينما تقرأ ما كتبته بأن المكتوب بالفعل ليس إلا ما استطاعت الأصابع أن تسجله من "الموجات المخية" التي كانت تسري في ثنايا فعل الكتابة، وأن "الصوت الذي كان يحوم حول رأسي كان يحمل أكثر مما تحول بالفعل إلى حروف"، ثم إن صعوبة أخرى تهيمن على أولى مقالات الكتاب بالكامل، ثم لا يختفي حضورها بطريقة أو بأخرى في بقيته. فما كادت فيرانتي تجتاز طور الطفولة المبكرة إلى المراهقة حتى واجهت صعوبة جديدة:

"أصوات الرجال"

"كنت أقرأ كثيراً، وأرى أن أكثر ما يعجبني في ما أقرأ هو بصورة شبه دائمة من تأليف رجال، وأن ما تصدره الصفحة من أصوات هي أيضاً أصوات رجال"، ذلك كان حالها قارئة وهي تقريباً في الـ13 من العمر، وحينما بدأت تكتب في تلك السن، إذا بصوت يسيطر عليها، مملياً عليها ما تدونه، وكان في الغالب صوت رجل، لا تعرف أهو في مثل سنها أم أكبر عمراً. وتزعم فيرانتي أن ذلك الصوت انتهى بنهاية سنوات المراهقة، لكن قبل ذلك، كان قد وقر في نفسها، في تلك السن المبكرة أن أنوثتها عائق وأن مخها الأنثوي يحدها ويكبحها كأنه "مرض خلقي". فـ"لم تكُن الكتابة صعبة فحسب، لكنني كنت بنتاً ومن ثم لن أقدر أبداً على تأليف مثل كتب الكتاب العظام".

لم تتكلم فيرانتي عن ضغط مجتمعي أو تربوي هو الذي غرس فيها ذلك الاستصغار لنفسها، أو اللوم لأنوثتها، لكن من الظلم في تقديري أن نحيل ذلك الإحساس لدى فيرانتي - ولدى كثيرات- إلى خلل في تفكيرها وكأن الأنوثة بالفعل "مرض خلقي" وهي بالقطع ليست كذلك. وربما يكون من الإنصاف أن نفكر في أن مؤلفات "الكتاب العظام" هي التي لعلها نابت عن المجتمع والتربية في غرس هذه الفكرة الشائهة في نفس الفتاة، أو أي فتاة. فالحقيقة أن الكتب لا ينبغي أن تتناول مباشرة ما فيه تصغير للأنثى أو تقليل من شأنها، إذ يكفي أن يكون المؤلفون المبهرون دائماً من الرجال، والشخصيات العميقة المركبة دائماً شخصيات رجال، ويكفي ألا يكون حضور النساء في الأغلب إلا حضور التابعات اللاتي لا مبرر لحضورهن - بل لوجودهن- إلا أنهن حبيبات رجال أو موضع اهتمامهم. يكفي ذلك في ظني لكي تضل قارئة فتظن أن أنوثتها إعاقة.

ولكن كان لدى فيرانتي من الوقت ما يكفي لتناقش مع نفسها احتمال أن يكون عدم ثقتها بنفسها، وإحساسها بالعجز عن مضاهاة روائع الأدب، أمراً طبيعياً في سنوات التكوين غير مرتبط بالنوع، فهو مشاع بين بنات وأولاد، لكن كما أنه ليس من الإنصاف أن تلام إيلينا المراهقة على تفكيرها هذا، فمن الواجب ربما أن نتساءل -بدهشة على الأقل- كيف لم تزَل فيرانتي -وأي فيرانتي في أي مكان في العالم- تنظر إلى نفسها هذه النظرة تقريباً؟ ففيرانتي تكتب عن "حلقة مفرغة" ترسخت في ذهنها عندما بلغت العشرين من عمرها: "كان علي - لو أردت أن أومن أنني كاتبة جيدة - أن أكتب كرجل، وأبقى بصرامة داخل حدود التراث الذكري، وبرغم كوني امرأة لم أكن أستطيع أن أكتب كامرأة إلا بانتهاك ما كنت أثابر على محاولة تعلمه من التراث الذكري. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدار عقود، كتبت وكتبت، وأنا حبيسة هذه الحلقة المفرغة". وهنا تكمن مشكلة ربط الكتابة الجميلة بالرجال، في حين أن الأمر يبدو لي أوضح وأبسط من ذلك: هناك كتابة جميلة، أصابها الرجال دائماً حين لم يكتب غير الرجال، ثم بات يصيبها من النساء ومن الرجال من يمتلكون ويمتلكن الموهبة والدأب، من دون أن تكون هي في ذاتها أنثى أو ذكراً، إنما هي كتابة وجمال.

الكتابة الطائعة والكتابة الطائشة

خرجت إيلينا فيرانتي من سنوات التكوين، سواء في الطفولة المبكرة أو في المراهقة، بأن لديها نوعين من الكتابة يتعايشان في نفسها، هما الكتابة "الطائعة" والكتابة "الطائشة"، الأولى تلتزم الهوامش، تحترم النحو والترقيم والقواعد والإجماع على ما يصنع القالب الأدبي الجيد ويضمن ثناء أصحاب السلطة الأدبية، فهذه الكتابة تطيع إرادة الآخرين ومعايير المتن الذكري الذي غالباً ما يهمش الكاتبة المرأة ـ أو بالأحرى تطوع نفسها لها.

والنوع الثاني من الكتابة جامح، فائض عن السطور، رافض للانصياع لأي معايير وأي قالب، وهذه هي "الكتابة في ما وراء الهوامش"، التي تستعر كأنها قوة جسدية عاتية "قوتها الوحيدة في عنفها"، ولهذه الكتابة قدرة معذبة هي قدرة توحيد القلم والألم الناجم عن تهميش المرأة التاريخي.

تكتب فيرانتي: "بدأت أفكر بوضوح أن لدي نوعين من الكتابة: نوع هو كتابتي منذ سنوات المدرسة، ودائماً ما كانت تضمن لي ثناء المعلمين (ممتاز، ستكونين كاتبة يوماً ما)، ونوع هو كتابة أخرى دأبت على أن تطل إطلالات مدهشة تتلاشى بعدها سريعاً، تاركة إياي للتعاسة. وبمرور السنين، اتخذت تلك التعاسة أشكالاً مختلفة، ولكنها بقيت قائمة".

لا علاقة جوهرية تربط نوعي الكتابة هذين بالأنوثة والذكورة، فعلاقتهما أعمق بالموقف من "السلطة" و"أصحاب السلطة"، فإما الانصياع أو الرفض، أو المزج بين الفضيلتين. وهذا التوتر بين الرغبة بالتزام القواعد والدافع إلى كسرها قائم لدى الكتاب جميعاً على اختلافهم الجنسي، فقد يغلب الالتزام على بعض الكتاب مثلما قد يغلب المروق، وقد ينجح أحياناً كاتب ملتزم بالقواعد والقوالب في أن ينتج فناً جيداً، مثلما قد يفشل أحياناً كاتب مارق عليها، فينتج فناً رديئاً.

ترى فيرانتي أن نوعي الكتابة هذين "لا ينفصلان. فالأول منهما عادة ما يحتوي الثاني، ولو أنني حرمت نفسي منه، لما كتبت مطلقاً. فالكتابة هي التي تجعلني أثابر على البقاء بين الهوامش، ابتداء بالهوامش الحمر في دفاتر المدرسة الابتدائية. وبفضل هذه الكتابة أصبحت منتجة حذرة، وربما جبانة، لصفحات تبقيني ملتزمة بالقواعد التي تعلمتها" لكنها مع ذلك تعود فتكتب أن "الكتابة الجميلة تصبح جميلة حينما تفقد تناغمها وتمتلك قوة القبح الطائشة" وتكتب أن الكتابة في نظرها هي بمثابة "تشويه" للقوالب الأدبية القائمة. ولعلها كانت تعلق على تناقضاتها هذه، أو مفاوضاتها الدائمة مع المتناقضات، حينما قالت عن شخصياتها الروائية - في إحدى محاضرات الكتاب- إن الشخصيات التي تفتنها هي "التي تقول شيئاً وتفعل عكسه".

"أكتب عن أناي"

تكتب فيرانتي "حينما أتكلم عن (أناي) التي تكتب، فعلي أن أتبع ذلك فوراً بحديث عن (أناي) التي قرأت". والحق أن رحلة فيرانتي مع الكتابة وهواجسها بشأنها لا تنفصل مطلقاً - كحال أي كاتب- عن رحلتها مع القراءة، فكل ما يطرأ من نقلات في الوعي، إنما يوعز -ضمن أشياء كثيرة- إلى الفعلين معاً، بحيث يستعصي تحديد أيهما المسؤول حقاً عن فكرة جديدة أو تطور غير متوقع، فقد تحدث نقلة في الوعي بسبب قصيدة كتبتها قبل خمسة قرون الشاعرة الإيطالية غاسبارا ستامبا فقالت فيها: "إن أكن امرأة قليلة الشأن/ أحمل لهباً جليلاً بداخلي/ فما لي لا أستل منه نزراً يسيراً وأعرضه على الدنيا؟". وقد تحدث إشراقة ذهنية من فقرة في يوميات فرجينيا وولف تشكك في "أنا" الكاتبة وتصف فعل الكتابة بأنه "تقليب في فطيرة المخ" وتحول الكاتبة من فرد إلى عشرين فرداً، وقد يحدث ذلك بسبب قصة تكتبها فيرانتي نفسها، فتكتشف بعد تمامها، وبينما هي تقرأها منتشية بالإنجاز، شعوراً بـ"أنه ليس أنا من كتبها".

كثيرة للغاية - مقارنة بحجم الكتاب الصغير- إحالات فيرانتي إلى الكتّاب، فهناك فضلاً عن غاسبارا ستامبا وفرجينيا وولف، فيودور دوستويفسكي وصمويل بيكيت ودانتي ولورنس ستيرن (صاحب رواية الرحلة العاطفية السابقة لزمانها) وإيتالو سفيفو (صاحب رائعة "ضمير زينو") وغيرهم، ولا عجب فهي في واحدة من محاضرات الكتاب تشير إلى دفتر تحتفظ به منذ طفولتها، وقد كتبت فيه أن "من واجب الكاتب أن يسجل بالكلمات الدوافع التي يقدمها أو ينالها من الآخرين".

في مقالتها المنشورة بـ"نيويورك تايمز" في منتصف مارس (آذار) الماضي عن كتاب "الهوامش"، تقول مولي يانغ إن فيرانتي ليست قارئة بقدر ما هي قارئة معاودة rereader، إذ "تظل تدور حول النصوص نفسها طوال عقود. وهي تصف هوس إدراكها أن قراءة كتاب تعني امتصاصاً بوعي أو بلا وعي لكل الكتب الأخرى التي أثرت في ذلك الكتاب، وكذلك الكتب التي أثرت في تلك الكتب، وهكذا دواليك، ففهم فقرة واحدة في صفحة ليس سوى رحلة رجوع في الزمن إلى ما لا نهاية".

لقد حققت إيلينا فيرانتي منذ ظهورها قبل ثلاثين عاماً، إن جاز اعتبار دخولها عالم الكتابة الأدبية والنشر باسم مستعار "ظهوراً"، حضور أديبة ومفكرة راسخة، معنية على حد تعبيرها بالتأريخ للحياة المعاصرة بقدر اعتنائها بالخيال. وكتابها الحديث هذا قد يكون ذروة مشروعها الفكري والسردي، أو خلاصته، أو ربما يجعلنا الحذر الحكيم نقول إنه – إلى جانب حوارها المطول في "باريس ريفيو" الأميركية قبل أعوام قليلة - نافذة جيدة للغاية على هذا المشروع والعقل الكامن وراءه، وهو قد لا يشبع فضول القراء إلى معرفة من تكون إيلينا فيرانتي حقاً، لكنه في تقديري أقدر كتبها حتى الآن على الاقتراب من ذلك.

 

عنوان الكتاب: In the Margins: On the Pleasures of Reading and Writing

تأليف:  Elena Ferrante

ترجمة:  ANN GOLDSTEIN

الناشر:  Europa Editio

 

اندبندنت عربية