يخصنا الشاعر المغربي بنص شعري جديد يحاور من خلاله "ظله" هذه الهيولى التي نحملها دون أن ندرك كنهها وما تفضي مجازاتها ولأن أول البدء حزن نخفيه في الذاكرة وتحمله الأمهات في قلوبهن، اختار الشاعر أن يشكل ما تبقى من خلال وميض أثر الشاعر وما يشعره الجسد الحامل ليوتوبيا الزمن.

أوْراقٌ من سيرةِ جثّة

فتح الله بوعزة

 

ـ 1 ـ

أوْدعْتُ في كَفّ أمّي، نخْلةً

وقلتُ لها: اسْتظلّي بِراياتي

ريْثما تبْلغينَ آخرَ الأحزانِ

الرّملُ حارقٌ في الْخارجِ، هذا العامَ

وأنا لمْ أعدْ من مَخازنِ الْحروبِ الْقديمةِ

ولم أعْثرْ على جثّتي، بعدُ

كلّ شيءٍ غامضٌ هنا:

الْقاتلُ، والْمقتولُ، والْبيتُ، والْوطنُ

الشّهقةُ التي اخْتبأتْ بين ضفائرِ الْجاراتِ

ونجّيْناها من كيْدِ الْمارّةِ

الضّبابُ الْكثيفُ بين ساقَيّ، وأولِ الْبكاءِ

مزقُ الدّخانِ في عيونِ الحرّاسِ

أثرُ الْفولاذِ في عرقِ الرّحّلِ

وأقْدارُ اللواتي خدَشْنَ حجابَ الْوَقتِ

بشهْقةٍ قصيرةٍ، وماءٍ مالحٍ

كلّ شيءٍ غامضٌ هنا:

فاخْتبئي بينَ راياتِي

ريْثما أبْلغُ آخرَ الأحْزانِ!

 

ـ 2 ـ

أنا الجثّةُ الْوحيدةُ التي

سافرتْ من حربٍ، إلى أخْرى

سالمةً من الخدوشِ

وماتتْ من فرط الْحنينِ

إلى وردِها الْعالقِ

بين قبّعاتِ الْمحاربينِ!

 

ـ 3 ـ

ليتني أغلْقتُ النّوافذَ كلّها

جثامينُ أحْبابي

 طيّرها برْدْ الصّباحِ

لم يبقَ في الْبيتِ

غير يقينِي الْغامضِ!

 

ـ 4 ـ

خرج الْجنودُ من منامي

إلى المراعي الْبعيدةِ

ولمْ توقظْني

لعناقِ الْعائدينَ

منَ الْمذابحِ الْقديمةِ

إلى وحشةِ الْبيوتِ

ولمْ ترْشدْني إلى جثّتي بينهمْ!

 

ـ 5 ـ

في الْمساءِ، تساءلَ الْقادمُ

من مجاهيلِ النّهاياتِ

عن قتلاهُ الأولينَ

وميراثِهمْ من الْورودِ، والْيتامى

وعن رائحةِ البارودِ في سُعالِ الأراملِ

وحوْصلةِ الطّيرِ الْمقيمِ في سهْوهِ

ولأني طيبٌ، ومقْدامٌ

لم أنكرْ أنّي مررْتُ بهمْ

في الخواءِ الواصلِ بين ساقيةٍ، وحطامٍ

وأنّهم أفْرغوا حقائبَهم من النّدى، والْكلماتِ

وطاروا بين الْمزارعِ، ومنْعطفاتِ الدّروبِ!

 

ـ 6 ـ

في شارعٍ جانبيّ

تدُسّ امْرأةٌ أزهارَها

في سرّة طفلٍ يخبّئ أيامَه

بين قذيفةٍ، وبابٍ

ويلتقيانِ صدفةً

في أقْصى الْحربِ

دونما عطرٍ، أو جسدٍ!

 

ـ 7 ـ

كانتِ الأرضُ أضيقَ من جمْجمةٍ

حين أخْطأتْني الْمراثي 

وأخْرجني الرّواةُ من فتحةٍ صغيرةٍ

في شرفةِ البيتِ

رأيتُ الكثيرَ من العرباتِ تحْملني

من شارعٍ إلى شارعٍ 

ومن بلدٍ إلى بلدٍ

على يميني مشّاؤونَ بأعْطابٍ ملونةٍ

رعاةٌ يكيلونَ السّبابَ للعواصفِ، والذّئابِ

ونسوةٌ، بألسنةٍ عجْماءَ

يجْمعْن ما تفرّقَ من لهاثِ الطّيرِ

في شهْقةٍ واحدةٍ

وخلفي جندٌ، وقنّاصونَ، ومهابيلُ

 يجُسّون يقينَ المشاةِ إلى آخرِ الملحِ

في سعالِ الغرّقى

يا اللهُ

كم كنتُ كثيراً

وهادئَ الْجريانِ!

 

ـ 8 ـ

أمْشي بين أدّخنةٍ، وغبارٍ

 بين حماسةِ الصّحابِ

وأمنياتِ الْمدنٍ الْخرْساءِ

أتفقّدُ غرفَ الأوْلادِ، وقمْصانَهمْ

في جيْبي حُبيْباتُ ندى

تليقُ بأزْهارِ حبيبتِي

وضفائرِها

أوصِي بردَ الصّباح.ِ

بما تبقّى لي من عصافيرَ

في أقاصي الْبيوتِ

وأعودُ إلى جثّتي

فرحا بخيْطِ شمسٍ

يتدلّى منْ بين أدْخنةٍ، وغبار ٍ!

 

ـ 9 ـ

جثّتي خيْمتي

غنِمتُها من نزالٍ قصيرٍ

في شارعٍ جانبيّ

كانتْ جولةً، أوِ اثنتيْنِ

حين ارْتمى الْعدُو بين يديّ

خاليا من الْجروحِ، والذّكرياتِ

 وذاب الجدارُ الذي في الْخلفِ

والْملاحمُ، والأيامً التي في الْخلفِ

ونمْنا معاً إلى أولِ الشّتاءِ

جائعيْنِ، ومتْعبيْنِ

دون وسادةٍ، أوْ جسدٍ!

 

ـ 10 ـ

الْخيمةُ الأخْرى: جثّةُ صاحِبي

كانتْ رحبةً الذّراعينِ بما يكْفي

لانْعطافِ الْخيلِ على الْخيلِ

في سمرِ الليالي

ومضاءةً بشظايا الْبرقِ

ونيرانِ الْعسسِ!

 

ـ 11 ـ

أنا الْجثّةً التي سافرَتْ

من مرثيةٍ، إلى مديحٍ قاسٍ

ومن خوْختيْنِ عاليتيْنِ

في حديقةِ الْبيتٍ

إلى ضجرٍ مريبٍ

ولم تتْعبْ

رأيتكِ تعْبرينَ الْممرّ الْواصلَ

بين غرفةٍ الأولادِ، ومخْزنِ الْحطبِ

تحْملينَ الرّذاذَ إلى ألْسنةِ الطّيرِ

وترْضعينَ النّهرَ، والأزهارَ، وآخرَ الْحرثِ

نسيتُ أن آخذ "سيلفي"

لضحْكةٍ فرّتْ من يديكِ

إلى منْتهى الصّقيعِ

ولم تتوقّفْ عن الْجريانِ!

 

كلّ الذينَ ماتُوا

أشاروا بذُبالِ أصابعِهم

إلى حبقٍ مكْتومٍ بين الْخرائبِ

وأسْرى يجْرحونَ لسانَ النّهرِ

في فرحٍ غامضٍ

ويشْكرونَ الرّبّ الذي ألهمَ الْمراعي

مناماً سائلاً من طُمأْنينةِ الأمّهاتِ

ساخناً، ولذيذاً

 

كلّ الذينَ ماتُوا

أشاروا عليّ بالْخروجِ من جثّتي

إلى حيثُ يسيرُ البرقُ

بين رياحينِ الصّبايا الْفرحاتِ

بضوْضاءِ الْفراشات

وغبارِ الطّلْع في مزْودةِ الرّاعي

كلّ الذينَ ماتُوا

أخْطأوا النّهرَ الذي تنزّلَ

من خاصِرتي

وما بلغوهُ

وما أدْركونِي!