فجر صيفي.
أشجار السَّرو متأهبة في تسامقها، وكأنها جند قد استدعاهم الليل في نوبة صحيان. قاماتها مشدودة في إهاب الظلمة. أطراف قممها الإبرية حراب تخز كبد السماء، ولا تسمح للريح أن تفلت أعنة الهبوب الرخي، أو تطلق نسائم الحياة في هذا الفجر الكابي.
رائحة مفعمة بالسر تفوح في أركان الكون، وبالسماء غموض وإبهام ونذر موقوتة، تتوجس منها طيور متوفزة في الأعالي.
وحتى الأرض المنبسطة في استواء وسكينة أبدية، المنداحة في آفاق ليلكية الزرقة، بدت اليوم على خلاف حالها، تتململ. يغلي باطنها بانصهار غير مرئي. تدمدم بأصوات حبيسة تحت السطح. تتكلم لغة قديمة كالأزل، حاضرة أبدا، تظهر وكأنها منسية أو مخفية.
لغة يعرفها أهل المكان، ويحفظونها في قلوب غويطة بلا قاع، مثل الزمن. لكن أبدا لا تنطق بها الشفاه، إلا في يوم مثل هذا، صحت فيه أرضهم على شقوق العطش.
تتسع الشقوق مثل الجراح، وهم على انتظار صبور لفيض مؤجل، يغمر الأرض، فتلتئم منها الشقوق الجراح، قبل أن تجأر فتوق الأحزان، والخيبات الدفينة، المترسبة في النفوس.
في العيون كلام صامت. الأبدان والأرجل كلها متواطئة على أمر واحد، عازمة على التوجه صوب مكان واحد، تبلغه الآن..كهف "حابى".
الماء الجاري الغامق يبين عن جسد سابح تسحبه الأيدي، والأيدي وجلة تغالب خوف الصدور العامرة، المزدحمة بالتواريخ، وبالفقد والتناحر، وبضغائن صغيرة، تحمي كنار في هشيم، سرعان ما تنطفئ بالتصالح، وصدور باتت منذ زمن على نية ثأر لأرض لها أو عرض سليب، لكنها مع ذلك في القرار، تتمنى السماح.
وجلة هي الأيدي، والأبدان ترتعش منها أرجل غائصة في الوحل، تجاهد كي تسحب الجسد الطافي، العاصي. تغالب وتواطؤها يَغْلِب ويسحب إلى أن يسجى الجسد، مكشوفا في وَضَح الصبح، ومن فوقه عين الشمس، مائلة إلى الشرق، لا تزال.
لم يكن بالجسد انتفاخ أو تشوّه. الجلد مغضن، لكنه حي، ناضح بأكسير غريب، ينزو من ذاته، فلا يعتريه جفاف أو تبخر بفعل عين الشمس المُحْدِقة، تلك التي بدأت تستجمع لهيبها في ترقب حذر، حُبست له أنفاس الوجود.
حدث الجسد الطافي أمر عادي، طالما كانت العين شاهدة عليه، تطل من أعلى على الأرض السوداء الخضراء، المحتشدة في باطنها بأسرار ناسها، تحفظ لهم الأحلام والأحزان والحكايا والخطايا، تظل تحملهم على ظهرها، تدمغهم بميسمها ومواسمها، تجعل منهم أنصاف آلهة أوطغاة، تعزهم بالخير الذي يغمرها به حابي في وقت معلوم، وتذلهم بالخوف والطمع والقلق أن يخلف موعده، ثم تغيبهم في حناياها كلما حان الأجل. وكل حين ينجلي المخبوء، في ساعة مثل هذه الساعة عن جسد يحمله التيار صوب أعتاب الكهف.
لكن ما بال الأرض اليوم تتشقق أحشاؤها. الناس صبار شوكي، تطل منه عيون بكماء، تتزين صدورهم بعقد محموم من خفق القلوب، وشيء ما قد ختم على الأفواه.
الجسد مسجى عند أعتاب الكهف. وجند شجر السَّرو ما برح مشرع الأسنة، والصمت يريم على المكان، ثم يحوّم. والكل وكأن على رؤوسهم الطير.
أخيرا .. أخيرا، انقض طير الكلام، جارحا، نهما.
الجمع يتكلم في آن واحد، ولا أحد يسمع. ينعقد الكلام في سماء الناس، ويُدَوِّم بأصوات مختلطة، تهمى الأفواه برذاذ عبارات ناقصة. تكهنات، ولعنات، واسترحامات لا تنتهي. ارتجافات الشفاه بموّدات قديمة، وذكريات منقضية، أعمار مقهورة أو مستباحة تجأر بالشكوى، قسمة ونصيب، كيفما كان، لا بد من التصالح معه، والعيش به، والزمن كفيل باعتياد الخطوب.
لكن خطب الخوف كان قد غافلهم هذه المرة، وتحوصل في حبة القلب.
واليوم، وبدون أن يدري أحد، أخذ المكبوت يتفتق، وحبة القلب تتصدع، وتسقط عنها قشرتها السميكة، متناثرة أمام الأعين والأبدان، المتحلقة حول الجسد العائم.
فجأة، وكأنما بأمر من دخيلة واحدة، متوارية في أعماق أصحابها، دخيلة جمعت بينهم بعد أن فرقهم الصخب، وفوضى الكلام، وشتات الذكريات، ساد الصمت من جديد.
صمت هذه المرة قد زايله وقع الحدث المألوف. يباغتهم اليوم ذاك الخطب، وكأنهم ما توقعوا أبدا حدوثه.
صمت مفعم بدهشة وانتباه،أصبح عيونا تتسع أحداقها السمراء، ودوائرها الدامية بالسهر والكيف، المنغرسة في أديم الجلود النحاسية، المحمصة بوقد لا يرحم. الشمس ذاتها تسمرت مندهشة في موضعها، وأرجوانها المحمى صار ينداح في دوائر لا نهاية لها، تبتلع المكان.
كان الجسد قد بدأ يتمطى، وكأنه يفيق من نوم طويل. صدره الضامر لا ينتفخ بالهواء، لا يعلو ولا يهبط، وإنما يتمدد في المساحة المحيطة بالكهف، المحكومة بحلقة الناس.
كانت ذراعاه مكدودتين بعمل طويل، شاق ومجهد، تحتشدان، مع ذلك، بطاقات عزم هائل، بدا في العروق النافرة، وفي أصابع مسحوبة، تخط على الأرض نقوشا متشابكة.
الرأس الكهل مكلل بهالة بيضاء كأنها نور، يومئ إيماءات يسيرة، منتشية بأنغام ترنيمة أو ذِكْر كوني، غير مسموع إلا في أذنيه. ومع الإيقاع الشجي الأسيان تلين أخاديد الأحزان، وتنفرج أسارير الهم والفكر، ويذوب الوجه في رونق بهاء ليس بأرضي.
الجسد كله تعتريه انتفاضات هَيِّنة، تكاد لا تُلحظ، تصاحبها استطالة في الذراعين، ومساحة النقوش المخطوطة تزداد شبرا، فشبرا، والصدر يتسع معها، وحلقة الناس تكبر، الداني منهم يفسح موضعا للقاصي، من أجل أن يتملى المشهد العجيب.
رأى الناس الجسد يتعملق حتى كاد يبلغ حدود الوادي، وفي الصدر ينمو زغب مخضوضر كثيف، يتحول بسرعة مذهلة إلى سيقان سميكة، منتهية بأوراق عريضة، داكنة الخضرة، ممتلئة بعصارات النيل. من بينها تبرز تيجان اللوتس، شاهقة، تتكاثر من نفسها، وتتفتح كعهدها لعين السماء.
رأى الناس الساقين تنفرجان، وما بينهما رحم مفتوح، تتعلق أجنة لا حصر لها بجدرانه الطرية الزلقة. الأجنة لا تنزلق، وإنما تتشبث بذوائب معقوفة، تنبت لها في الحال. يتكور كل جنين على نفسه، كأنه يدافع عن وجود له مهدد، قبل أن يستوي خلقا مكتملا، يخرج بقوة دفع ربانية.
يخرج متعثرا بالدهشة والغرابة أول الأمر، ثم ما يلبث أن يشق طريقه إلى النور، يصير نقشا ينضم إلى بقية النقوش.
شريط الأرض الخضراء الذي بدا ضيقا مزدحما عند الكهف، تكشف اليوم عن طيات أخرى له، مختزنة في الصحاري المحيطة التي امتد إليها الجسد ونقوشه المتوالدة.
وحين تداخل الأخضر والقاحل، وتداخلت النقوش، أيقن الناس أنه سيقال الآن، ولأعوام كثيرة تالية، إن ما من ذرة طين، وما من حبة رمل، إلا ونقشت عليها اليد شيئا. وما من أحد من أولئك الذين قد أتوا من قريب، أو من كل فج عميق في ذاك اليوم، إلا وقد قرأ في نقوش مخلوقات الرحم المفتوح، ما كان، ما يكون، ما سوف يكون.
عندئذ أدرك الناس السر، وسكنت الأرض، وكفت حركة الجسد السابح، وعاد إلى بدنه الأول، متسربا إلى أغوار الكهف.
والشمس كفت عن مد أذرعها الألف، وآبت إلى رحيل محتوم، غير أنها وهي تنحدر إلى مغيب ذاك اليوم، جادت بزفرة رضا طويلة، جعلت ذؤابات شجر السرو، هناك على البعد، تهتز متهدجة، فتلين أعطاف قاماتها المشرعة، وتتشابك منها الأغصان متعانقة، ترمي بظلها إلى البعيد.
لحظة واحدة كانت كافية لأن يسترد الناس أنفاسهم في نعمة الظل، ويواصلون الطريق.
*( حابي ) إله النيل عند المصريين القدماء.