"التشبث بالحياة". فأن تظل الأمنية حاضرة بكثافتها،رغم إنهمار المطر وعواصف الزمن، وبرودتها فى أواخر العمر. والأمنية فى امتدادها لسنوات أخرى، أملا فى أن يهل ربيع جديد عليها. فهى تشبث الإنسان بالحياة. وذلك ما عبر عنه المبدع بسرده السلس الذى يوحى أكثر مما يقول فى قصة "العباءة". ويتحكم الجهل والعادة ليصنعا أولئك البسطاء، فى ال"زيارة"

العباءة

سمير فوزى

 

كانت ليلة شتوية شديدة البرود ، قطرات المطر ثقيلة والرعد يرج البيوت فأغلقنا الأبواب والنوافذ،.

 رن جرس الباب فقامت أمى وأختى إلى حجرتيهما ، أحكمت ُالعباءة السوداء الثقيلة التى ورثتها عن أبى حول جسدى وفتحت الباب، وجدت رجلاً مسناً  قصير القامة يحاول الاحتماء بسقف السلم من المطر الذى أغرق جلبابه، سألنى:

-  شقة الأستاذ منتصر ؟

 قلت له:

-  أنأ منتصر، خير؟

-  أنا بلدياتك من كفر حمزة ،عاوز حضرتك فى موضوع

 لاأعرف الرجل  ولم أره من قبل، تمهلت قليلا قبل أن أجيبه، وجدت أن الظروف كلها لاتسمح  بصده، حتى لو كنت رافضا لوجوده فى هذا الوقت  أو كنت قلقا من ذلك الغريب  فلايجوز أن أرده إلى الشارع

 قلت له

 -  تفضل

وسّعت له الباب وسبقته الى حجرة الاستقبال ،أشرت له بالجلوس على أحد كراسى الأنتريه لكنه جلس على الكرسى الخيرزان الوحيد فى الحجرة قائلا:

--   خّلّينى هنا  ،الجلابية مبلولة،  على ماتنشف

سألته

 -  تشرب إيه؟

  مافيش داعى بلاش نزعج الحاجّة

-  أي حاجة سخنة تدفيك

-  يبقى شاى

عدت حاملاَ  صينية عليها كوبى الشاى وكوب الماء، وجدته واقفاَ يتأمل عن قرب شديد صورة أبى المعلقة على الحائط ، لم يشعر  بدخولى إلا عندما سمعنى أسأله:

-   تعرفه ؟

إرتد الى كرسيه سريعا وقال:

-  معرفة قديمة قوى ، من قبل ماتتولد بسنين طويلة، من أيام ماكنا عيال صغيرين، ماتعرفنيش طبعا ؟

   -  بصراحة لأ

خلع الجوربين من قدميه ووضعهما خلفه على الكرسى وقال:

-  أنا عمك جاد، كنت  زميل المرحوم والدك من واحنا عيال  فى البلد، قبل الأيام  ماتفرقنا،على فكرة انا حضرت الجنازة ومشيت فى الدفنة وحضرت العزا لحد ماخلص بالأمارة كان فى البلد زى ما وصّى

 -  ماشوفتكش!

-   انت كنت فى إيه والّلا إيه!  العزا باسم الله ماشاء الله ربنا ينولها لنا ،الناس كانوا كتير ،أصل أبوك الله يرحمه كان محبوب من صغره ،أنا فاكر كويس أيام ماكنا صغيرين كان يلعب معانا الكورة فى جرن العمدة ،كنا نشتم بعض  ونتخانق ونسب بالأب والأم إلا أبوك، عمره ماشتم ولامسك فى خناق حد، عمك جاد بقى كان شقى ،أشاكل طوب الأرض وماحبش أتغلب، كنت أتغاظ  من اللى يغلبنى وأفضل وراه  لغاية ماغلبه

 فرد الرجل ساقيه على الترابيزة الصغيرة فى منتصف الحجرة وقال:

-  لامؤاخذة  يامنتصر، انت زى  محسن ابنى ،البرد كسَّر عضمى ، لو أعرف كدا ماكنتش خرجت من البلد، الصبح كانت الشمس طالعة والجو كان دافى

فاجئنى الرجل عندما سألنى وهو يعود بظهره للوراء:

 -  فسخت خطبتك ليه يامنتصر؟

دهشت لسؤاله، ليس معقولاً أن يكون الرجل قد قطع المسافة الطويلة ليسألنى هذا السؤال وخطيبتى السابقة ليست من بلدنا وأعتقد انه لايعرف أهلها

-  نصيب ياحاج ، ماتفقناش

-  خسارة انت شاب محترم زى ابوك الله يرحمه ووظيفتك فى البنك أكيد دخلها كويس

لم ساقيه وانكمش على الكرسى وهو يرتعش وقال:

-  شقتكم برد ، ماعندكوش دفاية؟

-    مابنستعملهاش  بابنا مقفول دايماَ

وجدته يزداد ارتعاشاَ، خلعت العباءة ووضعتها على كتفيه  فلفها حول جسده بإحكام حتى اختفى جسده داخلها وقال:

-  ربنا يخليك يابنى ،معليهش أزعجتكم ، هى الست ام منتصر والآنسة سعاد  صاحيين؟

أربكنى سؤاله وقلت لنفسى احتمال أن تكون زيارته لأمر  يخص أمى  فلا داعى للكذب عليه فقلت له أنهما موجودان فقال:

-   ممكن أسلّم عليهم؟  قل لهم حد من ريحة الحبايب

عندما أخبرت امى انه يرغب فى رؤيتهما أكدت أنها لاتعرفه ولم تسمع إسمه من قبل وعلاقتها ببلدنا لاتزيد  عن زيارات متقطعة على فترات طويلة لإخوتها أو زيارة أعمامى لنا فى شقتنا بشبرا .

 لفت امى طرحتها وانتظرنا حتى لفت سعاد حجابها.

 وجدته واقفا للمرة الثانية أمام صورة أبى،  حيَّته أمى وجلست  على أول كرسى  فى حين ظلت سعاد واقفة ٌقال لها :

-  أقعدى ياسعاد يابنتى انت مكسوفة واللا إيه! أنا من عمر ابوكى بالضبط ، مش عارفانى طبعا ياست أم منتصر؟

عدلت امى نظارتها الطبية وقالت :

-   العتب على النظر ياحاج والسنين اللى غيرت أشكالنا وعجِّزتنا

-   نمسك الخشب ياحاجّة، باسم الله ماشاء الله ماتغيرتيش كتير،  ماتقلقيش من عملية المية البيضا على عنيكِ، دى عملية بسيطة إتكلى على الله واعمليها

 دهشت من هذا الرجل كيف عرف برفض  أمى إجراء عملية فى عينيها

قالت أمى فى براءة :

-  خايفة على شوية النور اللى فى عيني  يروحوا ،على الأقل لغاية ماطمئن على منتصر وأخته

-  إطّمنى ياحاجّة ،الحمد لله منتصر موظف قد الدنيا وسعاد خلصت جامعتها السنة دى وعريسها عندى

أدركت أن زواج سعاد هو الأمر الذى جاء من أجله، وجدته يتوجه ناحية سعاد ويجلس بجوارها ويقول لها :

-   محسن ابنى ، مدرس عربى بالسعودية من سنتين ،رأسه وألف سيف يتجوز من مصر، كل ماختار له واحدة من بلدنا يقول لى مش هاتجوز من الفلاحين، الواد زى القمر ياسعاد ماتخافيش هايعجبك لما تشوفيه ،نازل بعد شهر

 بادرت أمى بالكلام وكأنها تخشى اندفاع ابنتها برفض الزواج بهذه الطريقة و قالت

-  دا شرف لنا ياحاج  بس  يرجع الأول بالسلامة

 

 لاحظت أن أمى زال عنها توترها المعتاد فى وجود الأغراب بينما انتقلت سعاد لكرسى أخر قبالة الرجل ربما لترى وجهه جيداَ .

كان صوت المطر قد بدأ يخفت،سألته:

  -  مين اللى دلك علينا ياعم جاد؟

 أجابنى وهو ينتقل إلى  كرسى الأنتريه الأقرب إليه:

  • الكرسى الخشب دا ناشف قوى ،حسن ابن عمك شغال مع محسن ابنى فى نفس المدرسة وهو اللى رشح بنتنا سعاد وعرّفه العنوان ،ولما محسن  قال لى فرحت وجت لكم على طول والحمد لله زى ماتوقعت ،ناس طيبين وعروسة زى القمر

إستأذَنَت أمى منه ثم نادت على سعاد التى جاءت بصينية العشاء وناولتها لى لأضعها على الترابيزة العريضة فى منتصف الحجرة، تعلل الرجل بأنه سبقنا  وتعشى فى طريقه إلينا لكن أمى أصرت عليه ليكون بيننا عيش وملح فاستجاب وجلس بيننا يأكل .

عندما انتهى مد يده إلى جوربيه  ليلبسهما قائلا:

  •  الحمد الله بطلت تشتى

فوجئت بأمى تقول له:

 - الأرض مطينة مش هاتعرف تطلع على الطريق ،الصباح رباح

وكأنه كان ينتظر ،وجدته يجلس قائلا :

-   هاضايقكم ياحاجّة

-   هاتبات مع  منتصر فى أودته للصبح

     -  خللى الأستاذ منتصر على راحته ،لو مافيهاش مضايقة أفرد طولى على الكنبة هنا  لغاية الصبح

تركناه وأغلقنا عليه الباب ثم أخرجت أمى بطانية جديدة من الدولاب ليتغطى بها لكنه رفضها  مكتفيا بالعباءة الثقيلة.

رغم أن الرجل لم يبد منه مايقلق فقد اضطررت لترك باب غرفتى مفتوحا وظل النوم غائبا عنى على غير عادتى..

رأيته مع أذان الفجر  واقفا بمنتصف الصالة ثم توجه الى الحمام فعرفت أنه يتوضأ  وسمعت صوته عاليا وهو يصلى فغفلت عينى.

 فى الصباح لم أجده  ولم أجد العباءة ،قلت لأمى فقالت ربما  خشى البرد وسيعيدها.

 فاجأنى حسن بن عمى عندما اتصلت به بأنه لايعرف أحدا اسمه محسن  ولم يدل أحدا علينا .

اضطررت للسفر إلى بلدنا ،سألت خالاتى وأعمامى  عن رجل اسمه جاد  له ولد اسمه محسن جاء ليخطب سعاد فأكدوا جميعا أن بلدنا لايعيش فيها رجل بهذا الإسم.

  وفجأة تذكره خالى مصطفى الذى وجدته يخبط جبهته بيده وهو يقول:

  • افتكرته! ياه جاد ابن عطيات الداية! معقول هو لسّا عايش! دا هاجج من البلد من أكتر من تلاتين سنة وافتكرناه مات!

عرفت من خالى أن عم جاد ترك البلد بعد موت أمه فقد كان وحيدها الذى مات أبوه وهو جنين فى بطنها .

 أغرب ماقاله خالى  أن جاد هذا  فاتحه فى الزواج من أمى فى نفس الوقت الذى تقدم فيه أبى طالبا يدها، وبالطبع فضّلت أسرة أمى أبى عليه لأن أبى من عائلة ميسورة وأكد لى خالى أن أمي لم تعرف بهذا الأمر.

 

زيارة

تخطت البيوت المهجورة وانحرفت يساراَ ، مرت على خمس حارات ضيقة ودخلت السادسة .

عندما أخذها رفاعى لترى المدفن  الذى اشتراه قالت له:

- مش عالوجهة ليه؟

ضحك رفاعى ووضع يده على كتفها وهما يسيران باتجاه المدفن وقال:

- الواجهة مش لينا ياصِدّيقة، حًرّاقة علينا

- يعنى  هايتدفن  فيها أحسن مننا، انت مخبر قد الدنيا والكل بيعمل لك ألف حساب

أبعدت يده الثقيلة من على كتفها وهو يقول:

-عموما  اللى بيموت مابيحسش مدفون فين

فى طريقها لزيارته تمر  على ترب الواجهة فترى السلالم المزايكو والبوابات الحديدية المغلقة بأقفال ضخمة وأشجار كبيرة تظللها وكأنما تحمى من بداخلها من الشمس وبرد الشتاء ،عندما تصل الى تربهم تراها بلا أبواب ،مجرد أسوار متوازية يفصل بينها  ممرات ضيقة تتراص فيها العيون التى تشبه الشبابيك الصاج، فتدرك أن رفاعى كان على حق، فهى الآن تعجز عن تدبير قسط المدفن .

 كانت (صِدّيقة )تطلع على زوجها فى الشهر الأول لموته كل جمعة  ثم منعتها الزيارات الكثيرة لجيرانه  الموتى وصخب الأطفال اللحوحين من الاختلاء به والفضفضة معه، فأصبحت تزوره كل أربعاء لتجد نفسها فى أغلب الأحوال بمفردها معه، ترمى حمولها عليه مثلما كانت تفعل قبل موته، تستشيره فى كل الأمور ولا تفعل شيئا يخصها والبنات الثلاثة إلا بموافقته

 فردت( ِصّديقة) الحصيرة الصغيرة التى تأتى بها من البيت كل مرة ولمت ساقيها تحتها ،أسندت رأسها على جدار المدفن  بعد أن فكت عقدة الطرحة السوداء،.

قالت له أنها لم تنم الليلة وظلت طوال الليل تتطلع الى السماء المعتمة انتظارا لأول ضوء لتأتى إليه.

 قالت أن  ما جاء بها اليوم الاثنين وليس الأربعاء أمر خطير لابد ان تستأذنه فيه.

لاحظت حرامى الحًلّة وبعض الديدان تحوم حولها فكنستهم بفردة الشبشب وقذفتهم بعيدا بطول يدها، فلم تعد الحشرات الغريبة التى  تزحف باتجاهه كلما جاءت تفزعها مثلما كانت فى أول موته.

قالت له أن  بعض الناس يسخرون منها والبعض يأخذونها على قدر عقلها ويظنونها مجنونة عندما تقول انه ينتظرها كل زيارة ويجلس بجوارها على الحصيرة يسمع لها ويشور عليها،ظلت تلف وتدور تبحث عن شجاعة مصارحته بما جاءت من أجله.

 حكت قصة الشيخ عيد إمام الجامع الذى غطس فى الترعة ليتوضأ للفجر فجرفه التيار وظلوا يومين يبحثون عنه تحت الماء وينتظرون أن تقب جثته حتى وجدوه ، الغريب ان الشيخ كانت فيه الروح وعاد ليؤم الناس فى الزاوية ويغطس فى الترعة،.

 ذكرته فى زهو أنها كانت تميز صوت الرصاص الخارج من طبنجته الميرى وكانت تعرف انها ستسمع الترحيب به وستضرب الفرقة سلاماَ خاصاَ للحكومة احتراما لوجوده.

 كانت تتباهى بأن مأمور القسم ذات نفسه ينيبه فى الأفراح والمآتم ،وكان الجميع يعرفون انه ليس له فى قعدات الحشيش والشم ومزاجه الوحيد فى الأكل، وقبل انتهائه من العشاء يكون مناب البنات وأمهم قد سبقه الى البيت، فخدة لحم او صينية حمام محشو بعددهن ،الآن أصبح الحال ضيقا فالمعاش قليل لكنها مستورة والحمد لله.

ضحكت وهى تخبره انها استدرجت الولد اسماعيل ابن صاحب المطحن الذى يسير وراءها منذ أن مات الى السوق و جرسته أمام الناس ،قالت له بالحرف الواحد:

  • هى اللى تنام جنب راجل زى رفاعى تبص لواحد زيك

ثم استجارت بالناس:

 - ياناس لو رفاعى  عايش كان اللمامة ده يتجرأعلى مراتهّ!

اختفى الولد ولم تره بعدها أبدا.

اكتشفت( صدِّيقة )انها حكت له كل ذلك بالتفصيل فى زيارات سابقة ولابد أن تقول له ماجاءت من أجله.

تعرف ان روحه عالقة ببناته وكان يحلم بتعليمهن وتزويجهن زيجات محترمة ،فكيف تخبره أنها تريد منع البنت الكبرى من المدرسة  !

فقد حاضت البنت بالأمس فأصيبت هى بالرعب ، البنت فارت فى يوم وليلة ،ورثت عنه طوله وامتلاء الوجه والجسد ولا يصدق أحد أنها لاتزال طفلة لم تكمل الرابعة عشرة ، والأيام تغيرت ورفاعى ليس موجوداَ ليحميها والمسافة بين البيت والمدرسة طويلة تركب لها البنت مواصلتين.

ظل الكلام  ملتصقا بلسانها  تبحث عن شجاعة قوله :

-  سلمى مش هاتروح المدرسة تانى  ،قلبى واجعنى

 لاحظت سحلية تدخل شرخا صغيرا فى جدار المقبرة المواجهة ،سمعت صوتا قادما باتجاهه يسألها:

-  بتعملى ايه هنا ياصِدّيقة؟

نظرت خلفها وجدته عبد الموجود التربى  قالت:

-   باقرا الفاتحة لرفاعى

-  دى مش تربة رفاعى، دى فاضية لسا ماحدش سكنها، تربتكم فى الحارة اللى جاية

فزت واقفة ،وضعت قدميها فى الشيشب وهى تعدل طرحتها وهرولت مرتبكة، تاركة الحصيرة مفرودة,

عندما أصبحت أمام حارة رفاعى وقفت قليلا  تنظر باتجاه التربة  ثم أكملت طريقها عائدة الى البيت