تأسيس العمل الروائي بناءً على ثيمة البحث عن المفقود والحفر في آثر الشخصية الغائبة وتفكيك حلقاتها الغامضة التي تلقي بغلاف التشويق على جسد النص ليس بآلية جديدةٍ في محترف السرد الروائي بل يرتبُ الكاتب الفرنسي باتريك موديانو أوراق مدوناته الروائية من خلال سحبِ الخيوط المُتشابكة مع شخصيات تتحركُ في منطقة العُتمة وبالتالي فإنَّ الأشتغالُ على فكِ الأحاجي واختراق الأقاصي المنسية لعبةُ أثيرة لدى صاحب “سلالة” ومن الواضح أنَّ نجيب محفوظ قد حبكَ وحدات روايته “الطريق” انطلاقاً من بنية البحث عن الأب إذ لايهمُ البطلَ سوى اكتشاف جذوره المُتمثلة بشخصية “سيد رحيمي” بدورها تُنظمُ الكاتبةُ الكورية “كيونغ سُوك شين” برنامج روايتها الموسومة ب” أرجوك اعتني بأمي” على موضوعة البحث والتعقيب عن شخصية الأم التي يحركُ تواريها عن الأنظار آلة السرد.
وكما يبدو من العنوان أنَّ مكونات العمل تنهضُ على رصدِ دور الأم وما يعني وجودها لدى المُتكلم. قد يتفاجأُ المُتلقي بالمفارقة الملحوظة في استخدام الضمير الأول بالعتبة الأولى وتوظيف ضمير المُخاطب في الافتتاحية إذ قبل التطرق إلى مايخلفهُ ضياع الأم من الفراغ والتوتر في أجواء العائلة يضعكَ الراوي أمام جملة تُذكر بالعبارات التي تظهرُ في مُستهل الأفلام وغالباً مايكونُ الغرضُ منها تحديد المكان أو الإخبار عن مرور الفترة الزمنية على وقوع الحدث وبالطبع أنَّ قصَ المادة الروائية على هذا المنوال يوفرُ خفة في استئناف حركة السرد كما يُكسب المرويات مرونة ً،لأنَّ الانجذاب إلى غواية الإطناب والحشو يكون أقلَّ.
البداياتُ في العملِ الروائي تدفعُ بالتوقعات إلى الذهنِ وتنبيءُ بالمسلك الذي يتخذه تيارُ السرد.نجحتْ كيونغ سُوك شين في صكِ جملة المفتاح هذا إضافة إلى أن العبارة المُكثفة بالايحاءات الزمنية المُتعاضدة مع بنية الحدث “مضى أسبوع على اختفاء أمك” التي يتمُ بها ترويس حركة النص الأولى يشحنُ أثير الرواية بنفس درامي بحيثُ يكونُ الترقبُ قائماً للأخبار التي تردُ بشأنِ مصير الأم في سياق الحلقات السردية. مايعني أنَّ شخصية الأم تسحبُ الأضواء نحو بؤرتها.ومن نافلة القول بأنَّ الشخصية الروائية ليس لها تاريخُ خارجَ الفضاء اللفظي لكن ما أنْ تنزلَ إلى موقعها السردي حتى تكتسبَ بُعْداً تاريخياً.وبذلك ينشأُ مجالُ لمعرفة تواريخَ متعددةٍ قد تكونَ لها مرجعياتُ رسمية أو واقعية كما ترى هذا المنحى في متن ماترويهُ صاحبةُ “فتاة كتبت العزلة”.إذن تتحولُ العدسة إلى ما يدور في بيت الشقيق الأكبر هيونغ تشول من النقاش الذي ينتهي بالاتفاق على إعداد نشرات إعلانية وتوزيعها في المنطقة التي ضاع فيها أثر الأم.يستبطنُ الراوي مايعتملُ في سرائر كل شخصية إذ تطفوُ الأفكار على السطح كاشفة عن الاختيارات المحدودة للتصرف مع حادث اختفاء الأم قد لايتجاوز الأمرُ أكثر من إبلاغ أو بحث في أرجاء الأمكنة أو الاستفسار من المارة وسؤالهم إذا صادفوا إمرأةً تشبهها.هنا لايغيبُ دور الوسائط الألكترونية في البحث عن المفقود.إذ يكتب الأخ الأصغر منشوراً واصفاً فيه ملابسات اختفاء الأم.والحقيقة التي لايمكنُ للأفرادِ تجاهلها أنَّ الأمَ لاتستيطعُ الذهاب إلى أي مكان بمفردها.لايمضي المتلقي في متابعة سلسلة الوقائع النصية حتى يتأكدَ بأنَ الصوت الذي يخترقُ خلجات الشخصيات ويعلنُ عن عوالمها الباطنية ليس إلا صوت الأمِ الغائبة، إذ لاوجود لجدارٍ بينها وبين هواجس أبنائها.يوكلُ إلى الأبنة الكبيرة “تشيهون” بكتابة النشرة الدعائية مع التنويه بالمُكافأة لمن يبلغ بمصير بارك سونيو كونها تجيد الكتابة ولايقفزُ السردُ على السجال الذي يثيرهُ تاريخُ ولادة الأم المفقودة،لأنَّ هذا الموضوع يفتحُ مجالاً للإشارة الوامضة إلى أن الأهل كانوا ينتظرون أنذاك سنتين أو أكثر قبل الشروع بتسجيل الأطفال في البيانات لأنَّ الموتَّ كان بالمرصاد لحديثي الولادة.لذلك فإن تاريخ ولادة الأم مسجل بسنتين بعد توقيت ولادتها الحقيقية.ويردُ في هذا الصدد مايشبه ببطاقة تعرفية عن شخصية بارك سونيو ومواصفاتها الشكلية.ومن ثمَّ يتم الانتقال إلى مطالبة الأمِ بضرورة الاحتفال بعيد ميلادها متزامناً مع عيد ميلاد زوجها لأنَّ التوقيت الفاصل بين المناسبتين ليس سوى يومين.وكان الاحتفال يقامُ مع الأبناء في المدينة بعيداً عن “تشونغ أب” والحال هذه تقعُ على ما يكشفُ عن وجود التوتر والمشاحنات الكلامية بين الأبناء حيثُ كل فردٍ يلقى بمسؤولية فقدان الأمِ على الآخر.وما تتلقى الإبنةُ على سؤالها لماذا لم يذهب أحد لاستقبال الأم بمحطة القطار إلا بسؤال من الإبن “أين كنتِ أنتِ؟” تراءت لتشيهون حيثيات الحدث فكانت اللحظة التي فصلت فيها يد الأمِ عن شريكها في محطة سول مُتزامنةً مع تواجدِ الإبنة في الصين حيثُ تُشاركُ مع زُملائها في معرض الكتاب.إذن لايغيبُ المشهدُ في ذهن الشخصيات التي تتحركُ في جغرافية الرواية.يهرولُ الأبوان نحو محطة القطار يصعدُ الأبُ على متنه وعندما يلتفتُ لايقعُ نظره على سونيو.والمؤثرُ في سياقِ ما يتواردُ على صفحة الذاكرة هو السؤال عن عدم القدرة على تخيل الأم خارج الصورة النمطية لماذا لايخطرُ على ذهن الأبناء شكل الأم وهي كانت طفلةً أو هي إنسانة تختزنُ في داخلها مشاعرَ للمقربين ولاينحصرُ عالمها في حدود المنزل والمواصفات المُحددة.يتجهُ بندول الذاكرة إلى اللحظة التي كانت تُملي فيها خطاباً مُرسلاً إلى هيونغ تشول وتبلغُ تشيهون أمها بمحتوى الرسائل الآتية من أخيه المقيم في المدينة. أنذاك كانت الرسائل هي الوسيط الوحيد بين الأمِ والأبناء المغادرين للقرية واحداً تلو آخر.وماتستغربهُ الإبنةُ أنها لم تدركْ في ذلك بأنَّ الأم لاتعرف القراءة.
ليس هذا كل مايذكر عن الأم في الرواية بل يمتدُ طيفُها على براح النص بأكمله بحيثُ لا تنقطع القصص الفرعية عن حكاية الإطار التي لايكونُ لها بطلُ سوى الأم ومن المشاهد التي تكشفُ عن الشغف المعرفي لدى الإبنة عندما كانت في بواكير العمر مُطالبتها من الأم بأن تقتني كتاباً وهي بصحبتها إلى سوق البلدة لبيع جراء.ومن بين العناوين المعروضة تختار “إنسان مفرط في إنسانيته” ولن تكونَ ذكريات الأمِ أقل حضوراً لدى هيونغ تشول الإبن البكر الذي أراد أن يحقق حلمها بالتخرج من كلية الحقوق ويصبح مدعياً عاماً ولايغيبُ عن ذهنه الموقف الذي يفصحُ عن التفاني والتضحية إذ فضلت الأمُ أن تنامَ مجاورة للحائط البارد بحجرة المناوبة الليلية التي كان يسكنُ فيها هيونغ بسول مُتحملةً الهواء القارس بدلاً من ابنها ومنذ هذه اللحظة ماكان يشغلُ هيونغ هو أن يكسب المال أكثر حتى يوفر مكاناً دافئاً لأمه إذا زارتهُ في سول.هذه المعطيات النصية لاتخالفُ مايمرُ عليه المتابعُ في الواقع لكن ما ينتقلُ بها نحو وضعية غير مألوفة هو حسن التشكيل وعدم التضخم العاطفي في بناء النص.
من المفروض أن يكونُ الوعي بمستويات التعبير جزءاً من تشكيلة النص الروائي،لأنَّ ذلك من آليات داعمة للطاقة الاقناعية في أثير العمل الإبداعي وهذا ما نجحت كيونغ سُوك في الانتباه إلى أهميته صحيح أنَّ المادة المسرودة من منظور أربع شخصيات روائية “تشيهون، هيونغ،الزوج، والإبنة الصغرى” هي بمثابة مرآة مدورة ترصدُ صفات الأم المفقودة على المستويين الخارجي والداخلي لكن اللغة المعبرة عن المشاعر تختلف من مفصل إلى آخر.أكثر من ذلك فإنَّ طبخة الرواية مُطعمة بالموروث الشعبي للبيئة الكورية هذا علاوةً على فتح الزوايا لتضايف قصص واقعة على حافة المركز وهذا ماينطبقُ على شخصية كيون شقيق الزوج حيثُ ينفتحُ النص على حياته القصيرة قبل أن يتم الالتفات إلى واقعة موته.كذلك الأمر بشأن قصة ارتباط الأب بأمرأة أخرى ومغادرة الأم للبيت، وتنزلُ العلاقة القائمة بين تشيهون وشريكها يو- بين أيضاً ضمن هذا الصنف القصصي.و لا تتجاهلُ الكاتبةُ المراحل المفصلية في تاريخ بلدها دون أن يستغرقَ في تفاصليها إذ تمررُ اشارات وامضة إلى الحروب التي نَشِبَتْ بين كوريتين.ومايشدُ المتلقي إلى بيئة الرواية أكثر هو الحكمة الفطرية التي تنطقُ بها الأمُ المتماهية مع الطبيعة وهي تخطابُ ابنتها قائلة “كيف يمكنك الحياة وأنت لاتفعلين سوى ماتشتهين”كما وبخت الابن لأنَّ الأخير استغرب مرافقتها للغريب من محطة القطار إلى يونغسان –دونغ متسائلة بلهجة عنيفة” كيف تستطيعُ الحياة من دون أن تثق في الآخرين.الأشخاص الجيدون أكثر بكثير من الأشخاص السيئين في هذا العالم»
يتمثلُ عنصر المفاجأة في كشف النقاب عن قصة تواصل الأم مع شخص خارج قريتها وذلك يتم سرده على لسان المفقودة مباشرةً وصادف أن التقت برجل في طريق عودتها إلى البيت عرض عليها المساعدة في حمل الدقيق على دراجته غير أنَّ ماكان في الظاهر خيراً لم يكن إلا سرقةً في الحقيقة وما من المرأة إلا حذت حذو الرجل إلى أن عثرت علي بيته وهناك رأت واقعاً بائساً أشفقت على زوجة السارق وهي تعاني مخاض الولادة ولاتبخلُ عليها بالتطعيم وتتابع حالتها للأيام غير أنَّ البؤس يؤدي بحياتها في الأخير وتتكفل المرأة الغريبة برعاية الرضيع وتستمرُ العلاقة بين الشخصين دون يُعكرَ صفاؤها الروحي.يشار إلى أنَّ الكاتبة قد وفقت في تصميم الرواية من خلال الضرب على الوتر الذي تردداته تطالُ الخاتمة إذ تباغتُ الكاتبة قارئها بأنَّ البلد الذي تمنت الأم أن تأخذ منه الأبنةُ مسبحة لها هو فاتيكان كما أنَّ المقصود بالطلب في العنوان ليس إلا الأم المقدسة تقع عليها عينُ تشيهون في أحدى كاتدرائيات مدينة روما. اللافتُ في الرواية “أرجو ك اعتني بأمي” هو البساطة في الأسلوب إذ لايستمدُ النصُ مقومات هويته من الفنتازيا المُستعارة ولا من محاكاة التشكيلات الإيداعية السائدة في بناء العمل الروائي كما تبتعدُ الكاتبةُ من الانغماس في منجم التاريخِ طينة هذا النص لاتشبه غيرها في السبك والموضوع وأنت تقرأُ رواية بهذا العنوان تتذكر شخصية الأم لدى كامو أو مسكيم غوركي أو نجيب محفوظ في ثلاثيته لكن كيونغ سوك شين تمكنت من صياغة مرويتها بطرز مُختلف منطلقاً من سؤالٍ لماذا لايمكنُ معرفة شكل آخر لشخصيات نتعامل معها خارج المواصفات التي حددها السياق الاجتماعي أو الأسري.أكثر من ذلك أن الاستمرار في مُتابعة فصول الرواية والأصوات التي تتناوب عليها لايصرفُ الذهن عن دال العنوان والغاية من صيغته الإنشائية والغموض لاينجلي عن ذلك إلى تكون وجهاً للوجه مع الجملة الأخيرة.
جريدة المدى