يكشف الكاتب والروائي اللبناني في قراءته عن أهمية العناصر السردية المدهشة في كتابة السيرة كفن أدبي قادر على اقتناص القارئ في شبكته. من خلال تناول الكتاب الجديد لكاتبة البجعات البرية الشهير عن تاريخ الصين مع الثورة الثقافية وويلاتها. لكن بجعاتها الجديدة يكشفن عن جوانب شيقة وغنية في تاريخ الصين الحديث.

ثلاث صينيات أخريات تحت مجهر يونغ تشانغ

حسن داوود

 

تراجعت يونغ تشانغ (مؤلّفة «بجعات برية، ومشارِكة زوجها جون هوليداي في كتابة سيرة ماوتسي تونغ) عن تخصيص كتاب لسون يات – سين حاكم الصين في فترة انتقالها إلى الجمهورية. أوقفها عن ذلك انشغالها بأخوات سونغ الثلاث «التي تشبه سيرتهن حكايات الجن» كما تقول. ذاك أنهن كن شديدات القرب من السلطة، اثنتان منهنّ احتلتا مركز سيدة الصين الأولى، إذ كانت إحداهما زوجة يات – سين الرئيس الممجد إلى ما بعد وفاته. والأخرى ماي لينغ زوجة القائد الأعلى للصين وحاكمها شيانغ كاي- شيك من بعد سلفه يات – سين. أما الكبرى بين الثلاثة، إي ـ لينغ، فتزوجت من هـ. هـ. كونغ الذي تولّى رئاسة حكومة الصين ووزارة ماليتها لفترة طويلة.

«الأخوات الثلاث» هو كتاب عنهن، لكن أيضا عن تاريخ الصين منذ الاستعدادات الأولى لحقبتها الجمهورية وصولا إلى ديكتاتورية ماوتسي تونغ. كما يشمل ذلك الحروب التي قامت في تلك الحقب، وتدخّل الدول الكبرى فيها وعلى رأسها روسيا واليابان والولايات المتحدة. وكذلك عن الحياة الشخصية والعاطفية لحكام الصين، وانجذاب طبقاتها العليا إلى ثقافة أمريكا ونمط العيش فيها.

الشقيقات الثلاث أُرسلن إلى الولايات المتحدة، واحدة بعد الأخرى، للدراسة هناك. وإذ عدن إلى بلدهن المقسّم نتيجة الحروب وتعدد الأمراء والقادة، بقي حنينهن إلى العيش في أمريكا قائما. كن يتكلمن الإنكليزية مثل أهلها، وهنّ تمكّن من عاداتها ما أضاف إلى ثراء عائلتهن الواسع ميزة خلبت ألباب عشاقهن، رغم أنهن لم يكنّ جميلات حسب مؤلّفة كتابهنّ. الرقّة والقوة معا بدلا من الجمال. أما حظوظهن في ذلك فكانت متفاوتة بينهنّ، كما كنّ مختلفات في خياراتهن، حيث لم تلبث وسطاهن عند خيارها الأمريكي، فتحولّت إلى الشيوعية ولقّبت بالأخت الحمراء، فيما بقيت الأخرى على ولائها لزوجها شيانغ كاي – شيك الذي لم يتوقّف الشيوعيون عن محاولات إسقاطه. أما الثالثة فانصرفت إلى تجميع المال حتى بلغت ثروتها، بتقدير المؤلفة، مئة مليون دولار.

في الكتاب تظهر كل من الأخوات غير متأثرات إلا بخياراتهن التي ذهبن فيها حتى نهاياتها. كن وفيّات ومخلصات لما يعتقدن به، كما لأزواجهن وعائلتهن. التحول الذي عرفنه قليل ونادر. وقد اقتصر حدوثه لدى كل منهن على مرة واحدة أو مرّتين طيلة الحياة. وهذا مخالف لطبائع رجالهن المشوشة والملفّقة، حتى أن أيا من الرجلين الكبار، رئيسي الصين تواليا، كانا غير مكترثين بالتوفيق بين ما يزعمانه، وما يسعيان إليه حقا. سون يات – سين، الرئيس المبجّل حتى إلى ما بعد حكم ماو، كان متملّقا مداهنا الدول للحصول على أموال لتعزيز سلطته. واعدا تلك الدول بتقديم أجزاء من الصين لها كهدايا. أما الكذب فبلا حساب، وكله تحت يافطة تأسيس حكم جمهوري ديمقراطي في الصين. لكن ما يفاجئ في شخصيتي الرئيسين هو وفاء كل منهما لعلاقته بزوجته. شيانغ كاي- تشيك بدا في الكتاب عاشقا مولعا بزوجته، حتى في أوقات اشتداد قبضته على مدن الصين. كان يبعث برسائل تنضح تولّها بزوجته ماي لينغ، وكان ينتظر عودتها في المطار كشابّ موله، وفي مرّات وصفت المؤلّفة ساعات أرقه مرفقة بدموعه الغزيرة.

المؤلفة يونغ تشانغ كتبت تاريخ الصين لتلك الحقبة الطويلة، فيما هي تسعى إلى تتبّع حياة بطلاتها الثلاث. كتابها تاريخ سياسي وعسكري وجغرافي- مناطقي لزمن ما بعد الأباطرة وما قبل حكم ماو الديكتاتوري، لكن، مع ذلك، لم يغب عن بالها أبدا أن السيرة، لتقرأ، يجب أن تحتوي على قدر كبير، ومدهش غالبا، مما هو غير منتظر ولا معروف من شخصية أصحابها (ولهذا ربما استهواها تشبيه سيرة الأخوات الثلاث بحكايات الجن). على السيرة أن تمزج التاريخ بالرواية وأن تداخلهما إلى حدّ لا تبدو معه خارجة من أحد هذين لتدخل، عامدة، في الآخر. عليهما أن يمتزجا. أن يدخل تفاوض سون يات سين مع الأمريكيين أو مع الألمان، كأنه جزء عضوي من نسيج القصّ. لذلك يبدو القارئ المحبّ للرواية كأنه يقرأ عرَضا لتاريخ تلك الحقبة الممتدة من الصين.

قبل المباشرة بتأليف كتابها جمعت يونغ شانغ آلاف الوثائق، كما قرأتْ كل ما كتب عن الجوانب الكثيرة لعملها. كان لا حدّ للجهد الذي بذلته لإنجاز كتابها هذا، المستوفي لما يحتاجه التأريخ لأزمنة وشخصيات عديدة، وإذ يتنقل قارئه بين فصوله وصفحاته لا يفارقه التساؤل إن كان قرأ سيرة مماثلة في كتاب عربي، أو عن شخصية عربية. الأرجح أن موانع كثيرة تحول دون ذلك فهناك، إضافة إلى عدم الاعتياد على بذل مجهود مماثل، بقاءُ المؤيدين على حماستهم وسخطهم إلى ما بعد رحيل القائد، أو السياسي بعقود، أو بقرون في ما خصّ الحالات الأكثر تقديسا، وهذا ما يحول دون تقديم أضواء كاشفة على الشخصية المؤلهة.

كتاب الصينية يونغ تشانغ «الأخوات الثلاث» نقلته إلى العربية سميّة فلو عبود وصدر عن دار الساقي في 334 صفحة من القطع الكبير- سنة 2021.

 

كاتب لبناني