مساحة هذه الدراسة تمتد لأكثر من قرن، وتتناول فيها المؤلفة مراحل تطور الغناء المصري من زمن المشايخ والعوالم، إلى زمن المهرجانات والراب. ورغم أن الحديث يهتم بنوعية الغناء السائدة أو المتصدرة في كل مرحلة، فإن الكتاب أشمل من ذلك بكثير، إذ يمكن اعتباره قراءة نقدية ثقافية لامعة لتاريخ الأغنية المصرية، تمتد أحيانا لتشمل قراءة ظواهر موسيقية وغنائية في العالم العربي.

«كل دا كان ليه؟».. الأغنية من كل الزوايا

محمود عبد الشكور

 

يمكنني أن أضع هذا الكتاب المتفرد بين أفضل إصدارات العام 2023، بل لعله من أمتع وأعمق ما كتب عموما عن فن الغناء المصري، سواء بمعلومات الكتاب وهوامشه الطويلة التفصيلية، أو بمنهجه متعدد الزوايا، أو بوضع الغناء ضمن سياقه الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والتاريخى، وعبر عناصر إنتاجه وتوزيعه واستقباله، ومن خلال ذوات من يبدعون الأغنية بكل أضلاعها.

الكتاب الصادر عن شركة ديوان الشرق بعنوان «كل دا كان ليه» للفنانة والكاتبة فيروز كراوية، وهناك عنوان شارح آخر هو: «سردية عن الأغنية والصدارة». مساحة هذه الدراسة تمتد لأكثر من قرن، وتتناول فيها المؤلفة، وهى أيضا مغنية صدرت لها خمسة ألبومات، وحاصلة على الماجستير من الجامعة الأمريكية فى الأنثروبولوجيا الثقافية، مراحل تطور الغناء المصرى من زمن المشايخ والعوالم، إلى زمن المهرجانات والراب، ومن عصر الحرملك والسرادقات، إلى عصر الأسطوانة والإنترنت، دون أن تنسى أزمنة الميكروفون والكاسيت والفيديو كليب.

ورغم أن الحديث يهتم بنوعية الغناء السائدة أو المتصدرة فى كل مرحلة، فإن الكتاب أشمل من ذلك بكثير، إذ يمكن اعتباره قراءة نقدية ثقافية لامعة لتاريخ الأغنية المصرية، تمتد أحيانا لتشمل قراءة ظواهر موسيقية وغنائية فى العالم العربى.

جوهر المنهج عدم انتزاع الأغنية من سياقها أبدا، فلا يوجد غناء فى فراغ، ولا يوجد سبب وحيد لتصدر نوع بعينه من الغناء، ولكنها أسباب متعددة ومركّبة.

فيروز تستقصي كل العناصر، دون إغفال الجمهور واحتياجاته وتحولاته، ودون أن تتجاهل التحليل الموسيقى، ولا عناصر تفوق المواهب الاستثنائية، سواء فى مجال الغناء أو التلحين.

هذا المدخل الديناميكي منح الكتاب حيوية بالغة، بل إنه أهدى القارئ زوايا جديدة ومبتكرة لتفسير بعض الظواهر، بعيدا عن الكليشيهات المعتادة والمتكررة، وأظنه سيفتح أيضا مجالات واسعة للنقاش.

توقفت عند كثيرٍ من تلك التفسيرات التى تقف فوق قاعدة معلوماتية صلبة، هناك مثلا التفرقة المهمة بين «العالمة» التى تغنى فى الحرملك للنساء، والتى تجيد العزف، بل وتحفظ الأشعار، وبين «الغازية» التى تحترف الرقص، وتنتقل بين المقاهى. لقد تسبب هذا الخلط فى ارتباط غناء المرأة بصورةٍ نمطية يغلب عليها المجون والانحلال، كما ساهمت ثلاثية نجيب محفوظ فى تكريس هذه الصورة السائدة، دون أن يعرف الكثيرون الأساس القديم لدور العوالم.

عند الكلام عن سيد درويش، تربط فيروز بين ثورة 1919 وثورة هذا الشيخ المتمرد، ومع أم كلثوم، يأخذنا التحليل إلى صورة مركّبة تجمع بين الفلاحة المحافظة، والمغنية العصرية الطموحة، التى صنع لها رامى ملامح غناء رومانسى خيالى منزوع اللمس والجنس، وقدّم لها القصبجى تجارب موسيقية تسبق زمنها، فدخلت إلى السينما دون أن تمر على المسرح الغنائى، وانتقلت من خانة الآنسة إلى خانة الست، ثم صارت أمّا للأمة، ورمزا يستحيل استبداله، لذلك فشلت محاولات إقصائها أو حجب أغنياتها بعد نجاح حركة الضباط الأحرار، وعادت بقوة مع أجيال أخرى.

هناك تحليل ممتاز يتعلق بتجربة عبدالوهاب الطويلة، التى استفادت من تغير الزمن، وظهور السينما، وعصر الإسطوانة، ثم الميكروفون، ثم ذكاء عبدالوهاب نفسه، سواء فى إدارة معركته مع المحافظين محتميا بتجربة سيد درويش، أو فى انتقاله إلى الأغنية المسجلة فى الأستديو، بعد أن كان نجم الحفلات والصالونات.

ولكنى لم أتحمس لتعبير «الحداثة التوفيقية» الذى قدمته فيروز، لأن «التوفيق» فيه معنى رد الفعل والمواءمة، بل والتلفيق أحيانا لمجاراة الموضة، بينما تجربة عبدالوهاب تستجيب أولا وأخيرا لذائقته، ولروحه المتمردة، التى لم تفارقه أبدا، مضافا إلى ذلك بصمة شخصية وأسلوبية قوية، تجعل كل ما يقدمه يتحول إلى خلق جديد يحمل طابعه.

أذكى ما ذكرته فيروز عن عبد الوهاب إشارته إلى أنه كان محطة عبور بين الطبقات، إذ جمع بين الأصل الفقير، والغناء للملوك والأمراء، وكان له جمهور فى كل الطبقات، على عكس الرأى الشائع الذى أراد حصر نجاحه بين جمهور بعينه.

سنجد قراءات ذكية مثل الربط بين ميكرفون عبدالحليم وميكرفون عبدالناصر، وبين مركزية الإنتاج الغنائى، والتركيز على نوعية محددة من الغناء، مثل الأغانى الشعبية (المهذبة والمنقحة)، والأغنيات الوطنية، ثم انفراط العقد بعد هزيمة 67، وصولا إلى اختراق هذه المركزية مع ظهور الكاسيت، الذى صنع إنتاجا موازيا له شعبية وحضور، وصنع أيضا نجومه، وعلى رأسهم أحمد عدوية.

مع وفاة المطربين الكبار، ووصول الأغنية الرومانسية التقليدية إلى حائط مسدود، وظهور الفرق الغنائية، سينفتح الباب فى أزمنةٍ تالية للتعبير عن ثقافات فرعية، وستستوعب الأغنية حالات القلق الاجتماعى، والاحتجاج السياسى، والإحباط الوطنى، من تجربة نجم والشيخ إمام، مرورا بتجارب عربية متنوعة عند زياد رحبانى ومارسيل خليفة، ووصولا إلى أغانى الراى.

ومع عصر الإنترنت، سيصبح من المستحيل التحكم فى مركزية الإنتاج الغنائى، مما سيتيح للهامش أن ينتج ويُسمع صوته، بالذات بعد العام 2011، فنصبح فى عصر المهرجانات، وتجارب الراب، وكلها ظواهر مختلفة ستكسر نهائيا الشكل القديم للأغنية، بقوالبه المعروفة.

يبدو لى أن كل حلقة ترتبط بسابقتها، فتجربة عمرو دياب وحميد الشاعرى، عبرت بشكلٍ واضح، كما لاحظت فيروز بذكاء، عن تراجع دور الكلمة، وتضخم دور المنتج الفنى، وسيطرة الإيقاع والتوزيع، ومنحت الغناء شكلا احتفاليا صاخبا.

ولعلى أضيف أن هذه التجارب الاحتفالية منحت الجمهور دور المشارك، بل لقد شاهدنا المغنى يصفق بدوره للجمهور، وجاء عصر الإنترنت ليفتح الباب أمام الجمهور ليصبح منتجا بشكلٍ كامل للأغنية، مما جعل من الصعب إيجاد تعريف للأغنية المتصدرة، التى تتغير باستمرار، وجعل من تطور الأغنية عنوانا على تحولات المجتمع.

كتاب مهم للغاية، وباحثة من طراز رفيع، يمكنها أن تضيف الكثير إلى حقول الدراسات النقدية والثقافية والغنائية.

 

عن (جريدة الشروق)