صدرت أخيراً عن «منشورات الجمل» (الشارقة/ بغداد) ترجمة الكتاب المرجعي المهم «تسع مقالات حول دانتي» للشاعر والروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (١٨٩٩-١٩٨٦) بترجمة رضوان ناصح وزينب سعيد. في التاسعة والثلاثين، بدأ بورخيس قراءة دانتي في الترامواي الذي كان يقلّه إلى إحدى ضواحي بوينس آيرس حيث حصل على أول منصب له كأمين للمكتبة. الرحلة التي تستغرق ساعتين وظّفها صاحب «الألف» لقراءة «الكوميديا»، مستنداً في البداية إلى ترجمة إنكليزية. على مرّ السنين، تشعبت قراءته للعمل الذي طبع القرون الوسطى الأوروبية بأكملها، وأفضت ملاحظاته إلى نصوص مختلفة، جمعت عام 1982 في هذا الكتاب.
الإحالات إلى «الكوميديا» التي يسمّيها «الكتاب الأكثر صلابة في الأدب» سنعثر عليها في كل أعماله الأخرى، بما في ذلك المقالات والنصوص النثرية والقصائد. لا ينفصل نقد بورخيس للكوميديا بالطبع عن عوالمه الخيالية التي استوعبت الكثير من الافتراضات المعلنة أو المقنّعة من الثقافة العالمية، وإذ يقول الشاعر الفرنسي بودلير إنّ «الخيال، بفضل طبيعته البديلة، يحتوي على الروح النقدية»، يمكن للمرء أيضاً، بالنسبة لبورخيس، عكس الاقتراح والقول إنّ الروح النقدية، بفضل طبيعتها الملهمة، تحتوي على الخيال. المقالات التسع حول دانتي تقدّم نفسها بالطريقة ذاتها تقريباً: يعرض بورخيس مشكلة في القراءة، ويستشهد بالكثير من النقاد الذين حاولوا حلّها، ويختتم بإجابته الذاتية التي تطرح نفسها بطريقة مدهشة ومتواضعة. يقول بورخيس في أحد كتبه: «لتحقيق الشهرة، ليس من الضروري أن يكون الكاتب عاطفياً، ولكن من الضروري لعمله الأدبي وبعض ظروف حياته أن تبعث على الشفقة». في عمل دانتي، شخصية أوديسيوس أو الحبيب التعيس، التي تستحضر بقوة في المقالة الثالثة، تمثل تماماً هذا البُعد المأساوي الباعث على الشفقة. في الرحلة الأخيرة لأوديسيوس، يتساءل بورخيس لماذا يلقي دانتي ببطل الأوديسة إلى الدائرة الثامنة من الجحيم بين المستشارين الخونة. لقد قام دانتي بالفعل بتحوير أسطورة هوميروس التي أعادت أوديسيوس بحكمة إلى إيثاكا بعد عشرين عاماً من التيه التجوال: نراه في نص دانتي يقوم برحلة أخيرة ومميتة. لا يشكك بورخيس في مصدر هذا البديل المأساوي، بل نجد ربما المبرر في مقولته الشهيرة حول حق الكاتب في اختراع أسلافه، وبالتالي حقه في تعديل ذكريات الماضي أو الأسطورة بأكملها، وهي نظرية شرحها بورخيس في أحد كتبه اللاحقة: «من الواضح أنه لا يمكن لأي إنسان ولا حتى الربّ، أن يغيّر ما في الماضي، ولكن بلى، يمكن تغيير صور الماضي»: إن ثبات الماضي، بالنسبة لبورخيس، هو انحراف للواقعية. لذلك، يستعيد مراراً في حواراته نظرية الذاكرة التي شرحها له والده أستاذ علم النفس في طفولته. الذاكرة، وفقاً لهذه النظرية، لا تتغذى على الحقائق الحية، لكن تقتات في كل مرة على الذكرى الأخيرة لهذه الحقائق، التي بدورها هي ذكرى لذكرى، إلى آخر المتاهة التي يشتهر بها بورخيس. تتضمن الفرضية المخيّبة للآمال تعزية متناقضة: إذا كانت الاستمرارية الوحيدة الممكنة للماضي هي ذاكرة الذاكرة، فإن تعديل إحدى ذكريات السلسلة، بطريقة ما، هو تغيير الماضي، وهذا ما يسمح للأدب ما هو ممنوع عن التاريخ. لا يدين دانتي أوديسيوس لأنه تخلى عن أبيه وزوجته وطفله ولا لمشاركته في حرب طروادة، أو حتى حيلة الحصان الشهيرة بل يدينه على فضوله لمعرفة الناس والعالم وراء الحدود التي عيّنتها الآلهة وقادته بالتالي إلى الحكم بالموت على آخر رفاقه. إلا أنّ بورخيس لا يلبث أن يتجاوز لعب دانتي في صور الماضي، ليقول كلمته الأخيرة والمدهشة في هذا الفصل، حين يقارن بين «حج دانتي (في كتابة «الكوميديا») الذي يحمل معه نظرة مقدسة وأفضل كتاب كتبه الرجال، وبين مغامرة أوديسيوس التي تُعتبر ضرباً من التدنيس تقود صاحبها إلى الجحيم: كان دانتي عالم لاهوت وغالباً ما كانت كتابة «الكوميديا» لا تخلو من الصعوبة، أو ربما ليست أقل مجازفة وهلاكاً مقارنة بالسفر الأخير الذي قام به أوديسيوس. لقد تجرّأ على صياغة أسرار الغيب التي لمّح إليها بالكاد قلم الروح القدس؛ قد يحتمل القصد ذنباً ما. لقد تجرّأ على أن يساوي بين بياتريتشي بورتيناري وبين العذراء والمسيح، لقد تجرّأ على استباق الأحكام الغيبية لليوم الآخِر...»، ليعلن بورخيس بصراحة (ص ٤٩): «لقد مثّل دانتي أوديسيوس، وقد خشي بطريقة أو بأخرى أن يتعرّض للعقاب نفسه الذي لحق بهذا الأخير». في المقالة الثانية (أوكولينو الزائفة)، يطرح بورخيس الإشكالية الثانية القائمة بين الكاتب والمتلقي، والحدود في الكتابة بين الواقع والتخييل، ووظيفة الكتابة في زرع الشك أكثر من تقديم الراحة واليقين، حيث يبدو منحازاً إلى دانتي كما لو أنّهما يتشاركان الإلهام نفسه: الشاعر أو الأديب بالنسبة له لا يصف الواقع، بل يخترعه، لذلك لا يمتلك معرفة سابقة على ما يكتبه إلا ما كتبه في اللحظة السابقة: «المشكل التاريخي هو ما إذا كان أوكولينو ديلا كيرارديسكا قد اقترف في الأيام الأوائل لفبراير من سنة 1289 أكل لحوم البشر، هو أمر مستعصٍ على الإثبات كما هو جلي. المشكل الاستيطيقي أو الأدبي ذو طابع مختلف تماماً. يمكن طرحه على هذا النحو: هل أراد دانتي أن نفكر أنّ أوكولينو (أوكولينو جحيم دانتي وليس أوكولينو التاريخي) قد أكل لحم أبنائه؟ قد اجازف بهذه الإجابة: لم يشأ دانتي أن نفكر في ذلك بل أن نشك فيه. ويعتبر عدم اليقين جزءاً من تصميمه […] يلاحظ روبرت لويس ستيفنسون أن شخصيات أي كتاب ما هي إلا خرز من كلمات […]علينا أن نقول إن أوكولينو هو نسيج لفظي يتكون من ثلاثين مقطعاً شعرياً، وقد يقول دانتي إنه لا يعرف عنه أكثر مما ورد في المقاطع الثلاثية الأبيات موضع النقاش، […]في ظلام برج الجوع، يلتهم أوكولينو ولا يلتهم جثث أحبائه، وهذا الغموض المتأرجح، وعدم اليقين ذاك هو المادة الغريبة التي أُنشِئ منها»
في المقالة السابعة (اللقاء الذي حصل في الحلم)، يطرح بورخيس إشكالية ثالثة كبيرة في «الكوميديا»، إذ يلتقي دانتي محبوبته في موكب شديد الغرائبية: أربعة وعشرون شيخاً بلباس أبيض، وأربعة حيوانات على أطرافها ستة أجنحة، تتخلّلها أعين مفتوحة، تتقدم عربة النصر تجرها الفتخاء (حيوان خرافي برأس نسر وجناحي وجسم أسد ضخم)؛ على يمين العربة ثلاث نساء يرقصن، إحداهنّ شديدة الحمرة بالكاد نميّزها من داخل النار، وعلى يسار العربة أربع نساء بحلل قرمزية، واحدة منهنّ بثلاث أعين. تتوقف العربة فتظهر امرأة محجبة، لون لباسها لون اللهب المشتعل، يفهم دانتي أنها بياتريش من ارتعاشة دمه. لماذا تبدو بياتريتشي على هذا القدر من القسوة تجاه حبيبها؟ لماذا عددت للملائكة بصرامة خطايا حبيبها وأعلنت له أن الطريقة الوحيدة لخلاصه، بما أنه سقط إلى أسفل سافلين، هو الاعتراف بذنوبه أمام الكائنات المدهشة التي تُنصت؟ لا يلبث بورخيس أن يعطينا الإجابة المحتملة: الوقوع في الحب معناه خلق ديانة يكون إلهها غير معصوم. أن يمارس دانتي عبادة وثنية تجاه بياتريتشي حقيقة لا يمكن إنكارها. فمن بين الوقائع التي سجلها كتابه «الحياة الجديدة» هي أن بياتريتشي قد سخرت منه تارة واستهانت به طوراً. هذا ما يزيد من تعزيز يقيننا بأنه حب تعيس وخرافي. بموت بياتريتشي ورفضها له، وفقدانها إلى الأبد، عمد دانتي إلى التخيّل للقائها، لكنه حلم بها صارمة جداً، وهي على عربة يجرّها شيء ملتبس بين الأسد والطائر، حيث يمكن للأحداث أن تتكهن بكابوس في الأنشودة التالية حيث تختفي بياتريتشي ويهجم عُقاب وثعلب وتنّين على العربة، وتغطّى العجلتان والدفّة بالريش، وتظهر عندها سبعة رؤوس من العربة، ويستولي عملاق ومومس على مكان بياتريتشي. إنه الحب الذي يستحيل أن تتساوى دفتاه، كما يقول الشاعر العربي: «فيا ربّ سوِّ الحبّ بيني وبينها، يكون كفافاً لا عليّ ولا لِيا». وهذا ما يكشفه بورخيس بوضوح: «كانت بياتريتشي بالنسبة إلى دانتي كل شيء، هي الوجود المطلق، أما دانتي بالنسبة إلى بياتريتشي فأقل من ذلك بكثير، أو ربما لا يمثّل لها شيئاً. كلنا نميل بدافع الشفقة أو بدافع التبجيل إلى نسيان هذا التنافر المثير للشفقة، والذي لا يمكن لدانتي أن ينساه. أقرأ وأعيد قراءة مصاعب لقائه الوهمي، فأفكر في المحبوبين اللذين حلم بهما في الدائرة الثانية... أفكّر في أمر فرانشيسكا وباولو المتّحدين في جحيمهما إلى الأبد («هذا الذي لن يغيب عني أبداً»). لا بدّ أنه صاغ هذا البيت بحبّ مخيف، وبقلق وبإعجاب وبحسد»
عن جريدة (الأخبار) اللبنانية