"الحلو مر"، اسم أطلقه السودانيون على مشروب ابتكروه، وظل جزءاً أصيلاً من ثقافتهم، فتوارثوه جيلاً بعد جيل. هذا المشروب المحير الذي يجمع مذاقه بين الحلاوة والمرارة في آن واحد، يشبه حال السودان منذ وقت طويل، الفقير على رغم غناه، والمتناحر على رغم سماحته. وربما كان ما يحيل إليه الاسم من دلالات، دافعاً للكاتب المصري محمد مصطفى عرفي لاختياره عنواناً لروايته الأحدث، الصادرة أخيراً عن الدار المصرية اللبنانية – القاهرة، والتي تتبّع عبرها جذور الصراع، الذي يعيشه السودان اليوم. فرصد عبر أحداث رحلته السردية ما آل إليه هذا البلد المنكوب بعد انقلاب 1989، ووصول عمر البشير المحسوب على الحركة الإسلامية إلى الحكم، وهيمنة الإخوان المسلمين، وقضاءهم على أحلام السودانيين في الديمقراطية، وكل فرص النمو والتطور طيلة ثلاثين عاماً. فيفسر عبر ما ساقه من مقدمات؛ نتاج الواقع الراهن، الذي يئن تحت وطأة فِتَن، يُحمّل البعض، الإخوان المسلمين مسؤولية تأجيجها، رغبة منهم في العودة مرة أخرى إلى الحكم، وأملاً في استمرار استحواذهم على ثروات السودان.
أصوات متعددة
عمد الكاتب إلى منح صوت السرد لرواة متعددين، فسمح لشخوصه المحورية، بالتعبير بصدقية عن ذواتهم، على نحو أبرز الخصوصية الثقافية لكل شخصية، لا سيما وأن أبطاله ينحدرون من مجتمعات، وثقافات مختلفة. ويعكس كل منهم قيم مجتمعه، فلم تشبه ثقافة أبناء النيل، سواء محجوب السوداني وأسرته، أو محمود المصري؛ ثقافة الإنجليزي مايكل هسلر، حتى وإن تأثروا بنمط العيش في لندن، المدينة التي قصدوها للجوء، ولطلب العلم، والتي اختارها الكاتب فضاء مكانياً؛ دارت فيه معظم الأحداث. وقد أتاح هذا المزيج الثقافي، تمرير الكثير من المقارنات الضمنية والصريحة بين الأنا والآخر، أبرزت بدورها نوعاً من الانبهار بالثقافة الغربية، التي يتجلى فيها احترام الوقت، والقانون، والاهتمام بالتعليم، والجدية في الحفاظ على البيئة من التلوث، وقبول الآخر، وحرية الرأي والتعبير. وهي قيم لا تزال بعيدة من المجتمعات العربية، التي لا تبالي بالوقت، ولا بالبيئة، الموسومة بالعنصرية والتعصب وعدم قبول الآخر، والتي لا يستطيع مواطنوها التعبير عن آرائهم خشية أن ينكل بهم...
وبينما ينتصر الكاتب للثقافة الغربية، عبر ما عقده من مقارنات بين الأنا والآخر، يبرز في الوقت نفسه الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية، التي حالت دون التماهي الكامل للنازحين السودانيين "أسرة محجوب"، مع قيم مدينة الضباب: "نحن لسنا هم. وهم ليسوا نحن. نحن نسلم ونصافح، ولكننا لا نقوم بالتقبيل ولا العناق. ولا نحتسي الجعة، ولا نأكل الخنزير. هكذا كانت حياتنا مجموعة من النواهي والإشارات الحمراء". (ص171)
واستفاد الكاتب من هذه الخصوصية الثقافية، في تأجيج الصراع الداخلي لدى طالب الدكتوراه محمود، الذي انتهى به، بغية تفضيل الحصول على الجنسية البريطانية، عبر الزواج من سودانية مجنّسة "مها"، عن الزواج من إنجليزية لا توافق طباعه، ولا تتواءم مع ثقافته الشرقية. وكان المونولوغ الداخلي أداة، طفا عبرها هذا الصراع إلى السطح: "هل الأفضل أن أتزوج إنجليزية الأصل بدلاً من التجنيس؟ ولكن أين هي، وهل ستعاملني بفوقية؟ وماذا عن علاقاتها السابقة، هل سأتغلب نفسياً على أنني لن أكون أول من يطأ شريكتي في الحياة؟". (ص141).
وعلى رغم هذا الزخم من التناقض والتضاد، بين الغرب والشرق، أبرز الكاتب مقاربة بين المجتمعات النامية، واستخدامها للدين كأداة للضبط المجتمعي، وتطويع القوانين لتحويل الجماهير إلى قطعان، وبين استخدام الحضارات الغربية الرأسمالية؛ نظام القروض، والرهن العقاري، لتحقيق النتيجة نفسها: "تجد نفسك ممتلكاً لشقة أو منزل بما يفوق إمكانياتك، يتعين عليك سداد القيمة على أربعين عاماً، وهكذا بالنسبة للسيارة والمنزل الصيفي إلى آخره. هكذا تصبح مجرد ترس في الآلة الرأسمالية الجبارة، ولا تستطيع الفكاك منها، أو الحفاظ على قدر من الاستقلالية". (ص68).
تحليلات سياسية
استفاد الكاتب من دراسته في مجال العلوم السياسية، ومنح الخلفية ذاتها لشخوصه، سواء الباحث المصري محمود مصطفى كمال، الذي قصد لندن لنيل درجة الدكتوراه، أو مايكل هسلر الأستاذ في جامعة لندن، والخبير بشؤون الشرق الأوسط، وكذلك محجوب، الذي كان يعمل سكرتيراً أول في سفارة السودان في لندن، حتى تم عزله بعد انقلاب الحركة الإسلامية تحت مسمى "ثورة الإنقاذ"، فتحول الدبلوماسي الحاصل على ماجستير من جامعة أكسفورد، إلى عامل صرافة في مطعم هندي. وعبر هذه الشخوص مرر الكاتب رؤى سياسية، وتحليلات متعمقة، تفسر ما حدث في السودان، وترصد الهوس الديني، الذي يخاصم العقل، ويناقض المنطق. وحاول استكشاف أسرار استشراء هذا الفكر، في طبقات من الشعوب العربية، لا سيما السودان، مما ساعد الحركات الأصولية في الانقضاض على الحكم، وألقى بالسودانيين في مستنقع من العنف. وحرمهم على مدار عقود، فرصتهم في التحول الديمقراطي... "من أين جاؤوا؟ وكيف ترعرعوا؟ وكيف بلغوا السلطة؟ وكيف كانت لهم الغلبة على شعب اشتهر بطيبته ورقته وتسامحه؟ كيف هزمت أدبياتهم الدينية الممجوجة والساذجة، ثقافة الشعب السوداني المعروف بولعه بالقراءة؟ كيف لأصحاء العقل المكتملي الرشد، في مصر والسودان والجزائر وغيرها، أن يتبعوا كالقطعان أشد الفتيان رعونة ونزقاً، لمجرد أنه ارتدى جلباباً، وشغل مكانة الإمام في إحدى الزوايا المنتشرة هنا وهناك؟!". (ص19).
اعتمد الكاتب تقنية التناص بكثافة اتسقت مع طبيعة القضايا، التي طرقها، ومع المستوى الثقافي للشخوص، فبرز بمستوييه المباشر وغير المباشر، مع الموروث الديني "متلفتة ذات اليمين وذات اليسار"، وكذا مع الموروث الشعري "أنى لي أن أقنع أبي بالعودة وهو مشتاق وعنده لوعة، ولكن مثله لا يذاع له سر" (ص27). وعززت هذه المساحات من التناص؛ جمالية لغة السرد.
أتاحت رغبة البطل في إجراء مقابلات مباشرة مع سودانيين، يعبرون عن أيديولوجيات مختلفة، من أجل استكمال بحثه حول جماعات الإسلام السياسي؛ وتوسيع الفضاء المكاني للسرد، ليشمل الداخل السوداني. وهكذا استطاع الكاتب نقل صورة لواقع يعاني قمعاً، وقبضة أمنية غاشمة، لا سيما وأن الحقبة التي دارت خلالها الأحداث في نهاية التسعينيات، وبعد عشرة أعوام من حكم البشير؛ شهدت سيطرة كاملة للحركة الإسلامية، على كل مفاصل الحياة في السودان، وشيوع مناخ من الخوف والتضييق. وعبر هذه المقابلات رصد الكاتب تنوع الانتماءات السياسية والأيديولوجية في السودان، بين مهديين، واتحاديين، وخاتميين، ويساريين. ونقل رؤاهم حول الحزب الحاكم، ومنهجه الاستبدادي، ولجوئه للتجويع الممنهج، وتصدير الرعب من أجل إحكام قبضته على الشارع السوداني، الذي بات يعاني من سوء الأوضاع المعيشية، ومن انتشار التدين الزائف. وأيضاً من ملاحقة أمنية مستمرة لم يسلم منها البطل نفسه، الذي تعرض على رغم جنسيته المصرية، للاختطاف من قبل رجال النظام.
الشخصية السودانية
عبر اتساع الفضاءات المكانية للسرد، رسم الكاتب ملامح الشخصية السودانية وسماتها، فجسّد، نزوعها الغيبي، وانبساطها وتسامحها. ونقل أيضاً ما طرأ على المجتمع السوداني من تغيرات، كانت نتاجاً لمنهج سلطة فاسدة، حكمت بالحديد والنار، حتى أصبحت اللحى تحمل رسائل ودلالات. وقد أُطلق عليها -على سبيل السخرية- أسماء تختلف وفقاً لحجمها. فبينما تُدعى اللحية الصغيرة "دعوني أعيش"، وتعني أن من يحملها يفعل ذلك مضطراً، من أجل التوافق مع النظام العام، تُسمى اللحية الكبيرة الكثة الشعر، "من أجل أولادي"، وتعني استعداد صاحبها للتواؤم بشكل أكبر. وهكذا بات السودانيون يعلنون عن أنفسهم، ويسبرون أغوارهم النفسية، عبر تلك الطريقة الصامتة.
ورصد الكاتب بعضاً من ملامح الثقافة السودانية ومكوناتها، عبر استدعائه "الونسة"، وهي عادة اجتماعية متوارثة، يتجمع فيها السودانيون مساءً، يجلسون القرفصاء، ويطرحون كل شيء للنقاش برحابة صدر. واستدعى كذلك عادات السلام بين الرجال بتلامس الأكتاف، والاعتقادات الخاصة بالمشروب السوداني التراثي "الحلو مر"، في قدرته على حمايتهم من الأسقام، والحسد، وكافة الشرور والآثام!
جذور الصراع الراهن:
رصدت الرواية معالم الواقع السوداني المعقد، في ظل حكم البشير، وتطويع النظام الحاكم للدين، من أجل دفع الناس لقبول الفشل، والأوضاع المعيشية المتدنية، وإقدامه على سرقة المواطنين، ومصادرة أملاكهم، وإجبارهم على الشراكة بنظام العشرة في المئة. فضلاً عن إفساده المعتقد، وتوغله في كل الأمور، ورعايته الإرهاب.
قدم الكاتب تفسيراً للصراع الدائر، الذي يعانيه السودان اليوم، على رغم إزاحة البشير وجماعته عن الحكم... "نظام البشير بات متوغلاً في كل شيء وأي شيء، ومن ثم تلاشت المسافة بين الدولة والنظام، بالتالي فإن رحيل النظام سيكون عملية قاسية مؤلمة محفوفة بالأخطار، وقد يفضي إلى تمزق السودان ذاته" (ص164). وأبرز عبر شخصية مايكل هسلر وعلاقته بأجهزة الأمن البريطانية، دور الغرب ومواقفه، مما يحدث في الشرق الأوسط، وتراوح سياسته في التعاطي مع جماعات الإسلام السياسي، بين السحق والاحتواء.
عن (اندبندنت عربية)