بعد آلاف مؤلفة من الصفحات في المجلدات الستة من كتابه "كفاحي" الذي راج في كل لغة انتقل إليها من لغات العالم على مدى الأعوام الماضية، انتقل الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد نقلة حادة ليصدر سلسلة روائية بدأت قبل سنوات قليلة برواية "نجمة الصباح"، ثم صدرت أخيراً الترجمة الإنجليزية للرواية الثانية في السلسلة بعنوان "ذئاب الأبدية".
عينان تتطلعان إلى الغابة
يستلهم كناوسغارد عنوان الرواية الجديدة من قصيدة للشاعرة الروسية مارينا تسفاتييفا تقول فيها "مهما أطعمت الذئب، تبقى عيناه تتطلعان إلى الغابة. وكلنا ذئاب غابة الأبدية الكثيفة"، ويقدم لها بمفتتح من سفر الرؤيا نصه "والموت لا يكون في ما بعد". ولعل العنوان وبيتي تسفاتييفا وآية سفر الرؤيا كفيلة وحدها بإثارة الفضول إلى ما قد يليها في هذا السفر الضخم المؤلف من 800 صفحة، ولو أن مئات الصفحات في حال كناوسغارد ليست شئياً عظيماً، لكن قراء كناوسغارد ربما لا يحتاجون إلى ما يثير فضولهم، بخاصة لو أنهم اطلعوا على أول أجزاء الثلاثية.
كان كارل أوفه كناوسغارد خرج في ذلك الجزء، أي في رواية "نجمة الصباح"، عن أسلوبه السيري الذي اشتهر به في "كفاحي"، ونزع إلى أسلوب روائي خيالي محض، مزج فيه بين التفاته المميز إلى تفاصيل الحياة اليومية (بما فيها من مشاجرات زوجية وحفلات مدرسية وما إلى ذلك) ولمسة غرابة مما وراء الطبيعة، فكأننا أمام كتاب "كفاحي" ولكن بقلم ستيفن كينغ لا كناوسغارد على حد تعبير كريس باور ["صنداي تايمز"، الأحد الـ10 من سبتمبر (أيلول) 2023]. ففي "نجمة الصباح" تجري الأحداث في زمن معاصر على خلفية "موجة حارة تجتاح النرويج وظهور نجم جديد في السماء ورجوع موتى إلى الحياة".
وليس هذا فقط الداعي الوحيد لإثارة فضول قراء "نجمة الصباح" إلى "ذئاب الأبدية"، فقد ترك كناوسغارد أبطال الرواية السابقة ورواتها التسعة وهم جميعاً في مواقف عصيبة، فليس غريباً الظن بأن "ذئاب الأبدية" ستبدأ من حيث انتهت سابقتها، لولا أن كناوسغارد يخيب ظن قرائه إذ يبدأ "ذئاب الأبدية" عام 1986.
يكتب تشارلز أروسميث في استعراضه للرواية ["واشنطن بوست"، الـ13 من سبتمبر 2023] أن "نجمة الصباح" تبلغ ذروتها بسلسلة من الأحداث الغريبة، إذ يحدث انهيار زمني يتسبب في اصطدام بين عالمي الأحياء والموتى عندما ترتد الجثث إلى الحياة ويتوطد العالم المسحور، وتنتهي الرواية بتشويق كبير منبعه سؤال بسيط كبير ما الذي قد يعنيه ذلك كله؟
الخبر السار لقراء كناوسغارد الخلص في الأقل هو أن الكتاب الثاني في هذه السلسلة، أي "ذئاب الأبدية"، يطرح من الأسئلة أكثر مما يعرض من الإجابات، والواقع أنه على مدى مئات الصفحات من هذه الرواية لا تظهر "نجمة الصباح" أصلاً، ولكن مراجعات في النرويج للجزء الثالث من السلسلة وقد صدر بعنوان "المملكة الثالثة" أو "الرايخ الثالث" في ترجمة محتملة ومثيرة، تبين أن أهمية "نجمة الصباح" ربما تتضح في هذا الجزء. أما "ذئاب الأبدية"، فتلقي بعض الضوء على الكارثة القيامية [الأبوكالبسية] المقبلة [أي الكارثة التي ترصدها رواية "نجمة الصباح"] ولا يبدو أنها تتعجل الوصول إلى هناك، وإنما هي أقرب إلى تهدئة وتروٍّ قبل الوصول.
تبدأ "ذئاب الأبدية" في الماضي، إذ تجري أحداث النصف الأول منها عام 1986 وترصد حياة سيفرت وهو جندي نرويجي شاب عائد من الخدمة العسكرية في البحرية ليعيش مع أمه وأخيه. يحدث ذلك في غمرة قلق عارم، فعلى بعد آلاف الأميال تشمل تداعيات كارثة "تشيرنوبل" معظم شرق أوروبا. بدا الأمر بالنسبة إلى سيفرت "وكأن حادثة وقعت ففتحت باب الجانب الآخر ليخرج شيء ما. فانتابني اضطراب شديد. باب خفي انفتح على مكان خفي. وإذا بشيء يأتي إلى جانبنا كأنه طوفان"، غير أن "تشيرنوبل" وقلقها لا يعدوان بعض الخلفية، فالمهم هو سيفرت وحياته الرتيبة.
بعد فترة وجيزة من عودة سيفرت من الجيش يرى في الحلم أباه الذي مات في حادثة سيارة، فإذا بملامحه أوضح مما هي في ذاكرته. ويفضي إليه أبوه بأنه لم يكن سعيداً في زواجه ويبدأ منعطف في الرواية.
يكتب أروسميث أنه على رغم بعض اللمسات الغرائبية، بخاصة في سلوك بعض حيوانات المنطقة، يتحرك القسم الأول الطويل من الرواية أساساً بدافع من تعقيدات الواقع والخيال الواقعي، فثمة حب ومرض ولغز عائلي، ولا يخيب كناوسغارد توقعات قرائه، فتجري أحداث هذا القسم على خلفية من تأملات الراوي الوجودية لأنشطة الحياة اليومية من قبيل التسوق والطبخ والشرب ولعب كرة القدم والتفكير في الفتيات بما يمثل "شريط الصوت الروائي" على حد تعبير أروسميث، "فلو أنك من المغرمين بكناوسغارد، فهذا القسم يمثل قراءة واجبة شأن كل ما كتبه من قبل".
هوميروس الحياة اليومية
يكتب سفين بيركيرتس في استعراضه للرواية ["نيويورك تايمز"، الـ16 من سبتمبر 2023] أن "كناوسغارد معروف بأنه هوميروس الحياة اليومية، فالفقرة النمطية عنده تبدأ على هذا النحو ’صببت لنفسي بعض العصير وأخذت شريحتين من لحم الخنزير، ثم غرفت ملعقتين من عصيدة الرز في طبقي‘". وبمثل هذه النبرة تمضي الحياة بسيفرت، وعلى هذا النحو من العادية تبقى أيامه "إلى أن يبدأ البحث في صناديق أبيه المهملة في الحظيرة ليعثر على كومة من الكتب الروسية، ثم على حزمة من الرسائل المكتوبة بالروسية أيضاً، ومع الترجمة تظهر امرأة أخرى، وحياة أخرى".
"وعلى رغم القلق الذي يثيره الاكتشاف في نفس سيفرت، تظل حياته على وتيرتها الطبيعية إلى حد كبير، إذ يجدد التواصل مع أصدقائه القدامى وينضم إلى فريق لكرة القدم ويقابل امرأة اسمها ليزا في أحد الأندية ويقضي وقته مع أخيه غور، ثم يتحول إلى رعاية والدتهما حينما تمرض وتنتقل إلى المستشفى. ولكي يحافظ على الأسرة يقبل سيفرت أول وظيفة تتاح له وهي مساعد حانوتي. ويبعث رسائل إلى العنوان الروسي الذي عثر عليه فلا يأتيه رد. وينتهي هذا القسم من الرواية والأحداث معلقة، فالأم لم تزل في المستشفى وليزا تبعث بإشارات ورسائل مختلطة في شأن مشاعرها".
هنا، قرب منتصف الرواية، يحدث تحول. نحن الآن في روسيا وحقبة بوتين، و"نجد أنفسنا في أعقاب امرأة روسية في منتصف العمر، عالمة أحياء تطورية تدعى أليفتينا، وهي تعيش مثلنا في القرن الـ21. ويتيح تغير المنظور، من مراهق إلى أكاديمية، لكناوسغارد أن يوسع نطاق الرواية الفلسفي ليشمل نظرية التطور والوعي الحدسي للأشجار وضيق نطاق الفهم البشري.
كانت أليفتينا في الماضي طالبة ممتازة لديها الطموح والفضول وتطرح الأسلئة الكبرى حول الحياة والوعي الإنساني، لكن مع اقترابها من منتصف العمر، تفقد معظم ذلك الوهج وتجد نفسها في مكان لا تريد أن تكون فيه ولا تفهم كيف وصلت إليه. يبدو أننا تركنا سيفرت تماماً وانهمكنا مع أليفتينا كوتوف عالمة الأحياء في جامعة "موسكو"، إذ تسافر برفقة ابنها الصغير إلى منزل زوج أمها للاحتفال بعيد ميلاده الـ80. وليت الأمر يقتصر على أليفتينا.
في رحلتها إلى البيت الريفي، تقابل أليفتينا على غير انتظار صديقتها فاسيليسا، وهي كاتبة تعمل على مشروع يحملها على البحث في طوائف روسية في النصف الأول من القرن الـ20 انشغلت بإحياء الموتى وبالعالم الآخر، ويركز البحث على العالم نيقولاي فيودوروف الذي كان له تأثير كبير في زمنه في تولستوي ودوستويفسكي. كان فيودوروف يعتقد بإمكان إحياء الموتى وإعادة إعمار الأرض بمن عاشوا عليها من قبل، وترى فاسيليسا أن هذا الجنون يجسد الرغبة في مقاومة الدموية التي أحدثتها حروب ذلك العصر، وكذلك ترى رابطاً بينها وبين بحوث ما بعد الإنسانية في زماننا واستعمال التكنولوجيا في مقاومة الموت المادي.
يكتب أروسميث أن "الموت مركزي في أدب كناوسغارد، فهو الذي يقيم روايته السيرية ’كفاحي‘ ويمنحها المعنى، و’نجمة الصباح‘ تنتهي بمختتم استقصائي طويل في معنى الموت لدى مختلف الثقافات، وبالمثل تحتوي ’ذئاب الأبدية‘ على مقاطع مقالية طويلة بعيدة الشبه ببقية السردية تستكشف كلاً من الإيمان بالآخرة والموت نفسه. وفي هذه المقاطع يثبت كناوسغارد تارة أخرى أنه قارئ واسع الاطلاع عميق التأمل، لكن على رغم انشغاله بالموت وهدفه الفلسفي الأسمى يبقى من أعظم مؤرخي التجربة الإنسانية لحظة بلحظة، فقد تفكر أليفتينا ذات لحظة تفكيراً عميقاً في التطور، وفي اللحظة التالية تفكر في كرات اللحم في الحساء. وكناوسغارد شديد الانسجام مع ما في الحياة من تجاور بين الجليل والتافه. ويرى أستاذ الفلسفة مارتن هغلوند في كتابه ’هذه الحياة‘ أن قوة أعمال كناوسغارد تكمن تحديداً في الحرص الشديد على رصد التفاصيل العديمة المعنى والأحاسيس الوجودية العابرة. ومن خلال كتابته بهذه الطريقة، في ما يرى هغلوند، يبدي نوعاً من ’الإيمان العلماني‘ ويلفت انتباهنا لا إلى الأبدية بل إلى حياتنا المحدودة بوصفها الموضع الذي يوجد فيه كل ذي شأن وقيمة".
متاهة روسيا البوتينية
لا يتركنا كناوسغارد في متاهة روسيا البوتينية مع أليفتينا وسلفيا والأحياء التطورية وإحياء الموتى، فيصل بأليفتينا أخيراً إلى البيت القروي ونعرف أنها نشأت في رعاية زوج أمها الذي تقصد البيت للاحتفال بعيد ميلاده ونعرف أنه موسيقي وأنه اتخذها ابنة له وأنه منحها من الحب ما صرفها تماماً عن الاهتمام بمعرفة والدها البيولوجي، وحينما تبدأ أخيراً في البحث عن ذلك الأب، تعرف أنه مات قبل سنين كثيرة تاركاً ابنين. نعم، هما غور وسيفرت.
حينما يرجع السرد مرة أخرى إلى سيفرت تكون أربعة عقود قد مضت عليه، "وإذا به وليزا متزوجان منذ أمد بعيد، وإذا به يشرف على عدد من دور الجنائز وقد استقرت به الحياة، إلى أن يأتي يوم يتلقى فيه من العدم رسالة عبر البريد من امرأة تدعى أليفتينا، ويحدث اللقاء أخيراً في موسكو بين اثنين باعد بينهما القدر، ونستشعر النبض الجيني العابر للأجيال".
هكذا ينجح كناوسغارد، بحسب ما يرى سفين بيركيرتس، في أداء مهمة روايته على المستوى العاطفي، أما على المستوى الفكري فإن في الرواية توتراً هائلاً بين الأفكار والمفاهيم يبقى من دون ما حل. "وقد يكون هذا هو المقصود، لقد حشد كناوسغارد في روايته عدداً من هذه التأملات والتكهنات. والرواية، شأن روايات القرن الـ19 الروسية، تعالج عدداً من التناقضات الكبيرة، بين الرؤية المادية والرؤية الدينية، والعالم بوصفه حادثة كونية وكونه تجسيداً لإرادة مشعة، وهل العالم مليء بالمعنى أم خال منه؟".
وعلى رغم تلاقي بشر الرواية لا يحقق هذا حلاً لهذه التناقضات، وهنا تأتي الزيارة المحيرة على مقربة من نهاية الرواية، فذات ليلة يرى سيفرت فلكاً متوهجاً، "نجماً جديداً يسطع في بهاء وسط سماء لولاه لبقيت في سواد الحبر". لا يعرف أهو شذوذ فلكي، أم نذير؟ ويفكر في أن "الموجة الحارة ربما تكون قد أثرت في الغلاف الجوي، فليست الظواهر البصرية نادرة الوقوع على أية حال".
في هذه اللحظة تضعنا "ذئاب الأبدية" في أقرب موضع ممكن من "نجمة الصباح" وتجعلنا أيضاً في أمس الاحتياج إلى "الرايخ الثالث" أو "المملكة الثالثة"، أي الجزء الذي نشر بالفعل في النرويج من هذه الثلاثية ويفترض به أن يلملم شتات الكتابين الأول والثاني ويحل ألغازهما أو يضيف إليهما.
على رغم ما في "ذئاب الأبدية" من تأملات كثيرة للموت وإحياء الموتى وعلم الأحياء التطوري، وعلى رغم أن كناوسغارد يفسح مجالاً واسعاً للعالمة كي تقدم تأملاتها، وللكاتبة كي تطرح همومها البحثية، ولا يبخل حتى على الحانوتي بتقديم أفكاره حول الحياة والموت، فإن سايمون إنغز في استعراضه للرواية ["ديلي تلغراف"، الـ12 من سبتمبر 2023] يرى أن قوتها في غير ذلك كله.
يقول "ثمة قوة كبيرة، في تقديري، يمكن استخلاصها من عادية الأشياء. تلك الشفقة التي نستشعرها إذ يفتش سيفرت في صناديق أبيه القديمة لا من أجل أن يقترب منه، بل على العكس من ذلك، من أجل أن يتخلص منه ويرده إلى صناديقه مرة أخرى مع أغراضه". تلك العادية التي تكتنز بالفعل مشاعر عارمة هي التي تحدو بسايمون إنغز إلى القول إنه "ينبغي على كناوسغارد أن يقاوم غواية الاستعانة ببطاقته الخاصة بالاستعارة من المكتبات، وأن يستمر في تأليف كتب عظيمة ضخمة في اللاشيء. فكلما قل ما تتكلم عنه ذئاب الأبدية كثر ما يمكن أن تقوله"
العنوان: The Wolves of Eternity
تأليف: Karl Ove Knausgaard
الناشر: Penguin Press
عن 0اندبندنت عربية9