ليستْ قليلةً القصائدُ والمجموعات الشعرية التي تتحدث عن الشعر، ولا يَخفى على القراء مدى تداخل قصائد ما بعد الحداثة بالحديث عن الشعر والكتابة واللغة كمعادل للشاعر، حيث نمَتْ وتكرّست أفكار التداخل بين الإنسان والكون، وأخذ الشعر، بكونه الابن المفضّل للكون في تجسّداته، مكانتَه كقرين للإنسان، ليس من جهة أنه الأقرب بين الفنون إلى التعبير عن جوهره فحسب، وإنما أيضاً من جهة أنه المجهول الذي يزيد الجهل به كلّما اقتربنا من معرفته. ويزيد الاهتمامُ بمداخلة الحديث عن الشعر تحت ضغط إحساس الشعراء، ورؤيتهم بالعين المجرّدة من الشك، جَزْر مياهِ القراء عن شواطئهم التي تزيدُ حسرةُ تحوّلها إلى رمالٍ ترقص عليها بقيّة الفنون، متناسيةً في ظل تحوّلات التواصل أنّ من يَدفق فيها نبْض الحياة هو الشعر.
في مجاهدات الشعراء الصوفية لاختراق جدران الانحسار، والعروج إلى سدرة منتهى الشعر التي تعني لانهايةَ سيادته؛ تبرز المجموعات الشعرية التي تسير في بلورة ذاتها كباقات متمحورة حول موضوعٍ نابضٍ يخص وجود الإنسان وأسئلته عن ماضيه ومآلاته، بخصوصية اكتشاف بؤرة التمحور، مثلما تفعل مجموعة الشاعر المغربي عبد الحق ميفراني «أنفاس الكينونة». إنها تتمحور حول «الكينونة» المرتبطة بالوجود كمصدر لفعل الكون، يُذكّر القارئَ بمشيئة الربّ، وإن خالفت المجموعة هذا، إذا أراد شيئاً أن يقول له «كن فيكون»، وفق مفاهيم الدين التي مازالت مستخدَمة لتفسير الخلق، بخصوصية تبنّي فلسفة هايدغر لهذه الكينونة كصيرورة، وتأكيد ذلك شعرياً، خارج فخاخ الفلسفة، بالأنفاس، مانحةً ذاتَها ألَق العنوان بالنبض، رغم كلاسيكية تعريف الجملة التي تُغلق في العادة الأبواب أمام أجنحة الطيران.
في مجاهدتها لأزمة الشعر وغربته التي وصلت أقاصي انسداد الآفاق، وتداخلها بالحديث عن الشعر واغتراب المتفرّدين السالكين طريق «التجريد» إن صح هذا المصطلح في وصفها؛ تسير مجموعة «أنفاس الكينونة» بتداخل الخطوات مع الصوفية، في أحد مستوياتها التي وضعها ميفراني على محور كينونته، في البنية التي شكّلها، صراحةً في حديثه عن نساء أطلانتيس، بقصيدته الطويلة المعبّرة بقوّة عن محور ومستويات المجموعة، حيث: «في الصخرة ذاتها/ تلك التي وَشَمَت النساءُ/ دمَ الحرية/ على بعض شقوقها/ هي اليوم تَكتبُ خيطَ نزولي الأول/ يوم 4 أكتوبر/ ترجّلتُ إلى عالم حيث ترك الصوفيُّ/ آخرَ وصية خطّها لي/ على جدار الغرفة 1969 / كنْ/ نطفةَ الحكمة/ وظلّ الدهشة/ واستعارةَ الروح/ لا تتحلّل من الحبّ/ بل تَدَلّى من الموت/ كشذرةٍ/ تسكن الغياب».
وحيث تزيد الصراحة في ذكر من رافقوه في هذه الرحلة، حيث: «في جنوب الروح رافقتُهم جميعاً: السهرورديّ، والحلّاج والروميّ وابن عربي والنفّري.. تركتهم جانباً.. عدتُ لطاركوفسكي.. وسيمفونية البجع، رأيت الصورة بكاملها في العيون السود.. وما زلتُ قربَ سليم بركات، وهو إلى جانب النافذة يطلّ على اللغة ترقصُ أمامه التانغو».
في بنية مجموعته التي وضع الكينونةَ محوراً لأنفاسها، في الشعر الذي فتح تعريفه بلا تعريف في تقديم المجموعة كـ: «أثرٌ../ يقيم في النص،/ وفي الروح لا ينمحي..»؛ وضع ميفراني ثلاثة مستويات رئيسةً على هذا المحور، تتعلّق جميعها بالشعر، ويمكن إيجازها بـ: ماهيّة الشعر، الموت والشعر، وديمومة الشعر، إلى جانب بقيّة المستويات. وقدّم بها المجموعة بجمل استشهاد لأعمدة المؤثرين في تكوينها: الفيلسوف الألماني هايدغر، المؤثّر في فلسفة الشعر والوجود، بجملته: «إن كل تفكير تأمُّلي يكون شعراً، وإن كل شعرٍ يكون بدوره نوعاً من التفكير»، والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث الأكثر تأثيراً بانتحارها في شعراء ما بعد الحداثة بجملتها: «أنا دائماً بخير، أعرف كيف أتجاوز كل شيء وحدي، أعرف كيف أنام وفي قلبي ما يكفي من الألم». والشاعر أدونيس، بجملته «الإقامة أينما كنا مؤقتة غير أنها دائمةٌ في الشعر».
وأكّد ميفراني على هذا بما يعكسه شعراً، على غلاف المجموعة التصديري، من قصيدة «كمّامة الغريب» المصاغةٌ شكلا ً بأسلوب قصيدة السطر المتوالي بقصيدة القطعة، والمتقاطعة مع جملة هايدغر حول التفكير التأملي والشعر، وتخاطب موضوعاً سيلفيا بلاث، الشاعرة المنتحرة بعد اكتئاب قاتل، كمرآة لنفس الشاعر: «سيلفيا الصادقة تماماً، المرأة الفِضّية المكتئبة حدّ الثمالة، عينُ إله صغير، تلوِّح لي غير ما مرةٍ». والكاشفة لمعاناته من الآخرين الذين ضيّقوا الأرض، باستخدام جملة النفّري الشهيرة: «كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا»، حيث: «عندما تضيق هذه الأرض/ يتّسع هذا البياض/ وتفتح اللغة فخذيها «تماماً»/ ليس في الأمر حسّ إيروتيكي/ فالعالم لا يحتمل../ كلّ ما هناك/ أن التُّجار الكبار باعوا كل شيء/ ووضعوا الآن أرواحنا في المزاد/ والمدهش/ أن لا أحد يشتري، لا أحد يزيد سنتاً واحداً/ لذلك، اخترتُ الشهداء/ وعوّدت روحي أن تكون صادقةً تماماً/ فلي موعد، مكتمل الملامح/ سأنزع كمامتي وألتقي الغريب».
ويمكن للقارئ في هذا ملاحظة التداخلات التي تعكس وضع الشعر في المجموعة، وفي واقع الآن الذي وصل إلى نهاية الواقع بالواقعات الافتراضية التي يفتحها العلم، كما يمكنه تلمّس موقف الشاعر من البشر الذين يقتلون العالم بمشابهات التفاهة، وتأكيده على تفرد الذات المهتمة لتجديد العالم وإحيائه. ونهو يحاول أن يوحّد بين النصّ ومبدعه في الموقف الذي يعرفُ القراء مدى التباسه لدى العديد من الشعراء الذين فاجأوهم بتناقض سلوكهم مع كتاباتهم على صراط «المواقف»؛ وذلك باعتماده في نهاية قصيدة «فاكسات قاسية عن الحب»، قولَ الشاعر محمد الماغوط: «أحاول أن أكون شاعراً في القصيدة وخارجها، لأن الشعر موقف من الحياة، وإحساس ينساب في سلوكنا».
وفي بنيته المتمحورة حول الكينونة، باستخدام اللغة التي تجسدها، في مستوياتها الصوفية المحافظة على جِدّتها، والحديثة التي تندمج فيها الحياة اليومية، ومفرداتها الخاصة التي تعكسها، وتتجلّى فيها مفردة البياض كموشور لتلوّنات الشعر في طيف الوجود، يُجري مفراني ثلاث عشرة قصيدة نثر، يغلب عيها توسّط الطول. وتبرز بينها القصيدة الطويلة الغرفة 1969، التي يتقسّم فيها الزمن إلى غرف متداخلة، وتكاد أن تطوي كامل المجموعة بأجنحتها، وتحييها بنبضها، وبالأخص فيما يخصّ علاقة الشعر بالأسطورة كامتداد لحياة وأبديّة الكون؛ ويستخدم فيها ميفراني وجود وعدم القارة المفقودة أطلانتيس، مداخلاً فيها وضع النساء والحرّية، داعماً ذلك بالقصائد التي تتحدث عن الحياة والحب والثورة، وما يرافقها من التباسات، يرد فيها كارل ماركس وتشي غيفارا وبليخانوف وشعراء حديثين في تداخلاتٍ تدفع القارئ للتفكير حول صناعة الحياة والحب والثورة، وعلاقة ذلك بطبيعة الشعر الذي تنهج المجموعة سبيل الغموض فيه إلى حدود التفكير بالتجريد.
والشعر التجريدي، المتراكب والمفتوح على جميع احتمالات عيشه وفق ما يلتمع بداخل القارئ، داخل الصورة العامة التي تتمحور حولها القصائد، حيث: «محض صدفة/ كعادة أسلافنا/ لم نكن إلا خطأ/ سقط سهواً/ على حين غرة». وحيث لا حدود للشعر، ولتشكلاته التي يعتمد ميفراني في تركيب قصائدها على قصيدة السطر القصير وقصيدة القطعة، والدمج بينهما؛ ويعتمد في تركيب جمله على ما يعكس فلسفته في الكينونة، مميزاً أسلوبه بإلغاء الارتباطات الظاهرة بين العنوان والجمل وبين الجمل وبعضها، كما في الكتابة الآلية الجارية بتراكبات الأحلام، حيث: «الكلمات سرّ شهوة الجسد/ حارسٌ بين السفر والرحيل/ مرايا الملامح/ أفق الانفجار/ الجسد حرقةٌ ترفض الكينونة/ والمرئيّ/ كائنٌ يحلم باليقظة»، في قصيدة «احتراق».
وفي هذا التراكب الذي يمسح جميع القصائد تقريباً، تومض موضوعات: الموت، الحَرْف وارتباطاته، فعل الديمومة، وكينونة الزمن، في قصيدة «يوميات كلماتي خارج النص»؛ وموضوعات التأمل في البياض في قصيدة «تفاصيل للبياض»؛ وموضوعات الشاعر ولغته بالمقاربات مع قلق نيتشه، وفلسفة الأمل، وبأجواء الحنين والبحر والمطر والصور التي تخط كينونة الشاعر، ودهشة الاستعارات، وسحر الموت في عيون المجاز و«نظرة الريح وهي تمرّ على نبض الروح»، في قصيدة «لا أحد يمرّ»، حيث: «قد لا يجد الذين يعبرون اليوم لعتمات الأملِ، الممشى في نهاية الطريق، لكنّهم يصرون أن تكشف خطوتُهم كوّةً تؤدي إلى الأشجار.»؛ وموضوعات تقطيع الزمن وتجميعه في كولاج متداخل بالقارة المفقودة، ويجري فيه الزمن «شذرات ضوء منثورة في الهواء»، حيث أطلنتيس هي: «نشيد النساء اللواتي اخترن الحرية لضفائرهنّ»، وحيث الشاعر: «أنا حبّات أطلنتيس، ريحُ الجبل وعَرَق الرمل وحبّات رذاذ البحر، أنا الماء الذي انسكب على جسد العرافة، وهي تمشّط ضفيرتها التي تدلَّت من البحر إلى الحر».
هنالك أيضاً موضوعات العدم الفاتح هوّتَه للواقع في قصيدة «ضوء على ضفيرة سحابة الخيبة»، مختوماً بجملة سيلفيا بلاث: «بعد هذا البلاء العظيم، أي طقوس من الكلمات، يمكن أن ترمّم الخراب»؛ وموضوعات التكرار والتفاهة، وفق فلسفة هايدغر، حول الكائن المهتمّ الذي «يسعى دائماً إلى وجوده الأصيل والمتفرّد في العالم، والمنفصل عن القطيع في الأحكام والآراء السائدة، وتُشْغِلُه أسئلةٌ كونية ومصيرية، الإنسان الذي يسمو فوق تفاهات الحياة وضحالتها، ويستشعر ألمَه الدائم من خلال معاناة الآخرين؛ وموضوعات الأثر، حيث يكتب الشاعر سيرة قصيدته ويختمُها بما يعود إلى بدايتها في:
«لا بأس أن تترك يدي
هذه الحروف
تحت أيّ سماء أخرى
لي إقامة دائمةٌ هنا
حيث لا أثرَ للحقيقة..
فقط
أنا وأثري
نقتفي
ما تبقّى
من أنفاس الكينونة.»
عبد الحق ميفراني: «أنفاس الكينونة»
منشورات بيت الشعر في المغرب، 2022
111 صفحة.
عن (القدس العربي)