هذه مقالة في جماليات الصوت وقدرته على بلورة الإشراقة المضافة إلى اللحن، وفي معنى الغناء ومعنى الموسيقى، وأصول الاستماع والقدرة على استكناه سيولة الأنغام التحتية واستعذابها. وكيف استطاعت أم كلثوم أن تضفي من إبداعها على ما غنته روحا جديدة، تكشف أن الإبداع الموسيقي هو قمة القدرات البشرية بل أعز سجايا الإنسان.

العامِرةُ وِصالاً

عاطف سليمان

 

الإحسانُ إلى الأسماع هو مأثرة أم كلثوم التي أدركت منذ أول شبابها أنها سترافق، على مدى عمرها، الودادَ والأشجان والحب والأشواق والنأْيَ والوصال، وستظل تحفُّ بها وتُبشِّر وتشدو إلى الأبد. هي أم كلثوم التي لها في كل أغنيةٍ مطارحُ ترتاد منها الأعماقَ البِكرَ لفنون الغناء وتحتشد وتأتلق وتطلع باللؤلؤة.

لا ريب عندي في أن شأناً عظيماً من فرادة أم كلثوم قد تأتّى لها من قُدرتُها على نقْد الإبداع الموسيقي؛ وباستماعي إلى أيٍّ من أغنياتها يخطر لي تساؤلٌ عن نصيبها الخفي في لحن الأغنية، فهي في اعتقادي صاحبة الإشراقة المضافة إلى اللحن في مقطع «وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش ف الخيال!» بأغنية «رق الحبيب» من لحن القصبجي، وهي مَن ألهبَ الوهجَ في مقطع «هل رأى الحب سُكارى مثلنا!» بأغنية «الأطلال» من لحن السنباطي، وهي صائِغة السحر في مقطع «هواك نَسّى الزمان طبعه» بأغنية «أقول لك إيه عن الشوق» من لحن السنباطي، وكذلك هي مُحرِزةُ سموقِ الشجن والالتياع، بلا كآبة، على طول لحن زكريا أحمد لأغنية «الأولة ف الغرام».

وهكذا استتبَّ الأمرُ في مواضع لا حصر لها بأغنياتها الطويلة على الخصوص، وحسبما يتبدّى لي فإنّ أم كلثوم كانت تتذوّق اللحنَ المعَد لأغنيتها الجديدة وتتحرّاه وتعيشه، وما إنْ تستطيبه وتندمج به حتى لا يعود معها هو ذاك الذي كان قد وضعه الملحِّن، إنّما تصير له تنقيحاتٌ وقياسات ولمسات وأبعادٌ وحِلى من إبداعها، وبينما هي تغنيه وتُوالي غناءَه تكون قد كَسَتْه إشراقاً وأغدقت عليه سِعةً وطرباً وتمليحاً وأخذته إلى أطرافٍ قُصوى لا يطالها غيرُها. كانت أم كلثوم تتلقّى أجودَ ما يمكن أن يقدّمه لها ملحنو أغنياتها وترتضي من الموسيقى والإيقاع ما تتقبّله روحُها وينسجم مع موجات كيانها، ولعل كل لحنٍ من ألحان أغنياتها كان بالنسبة إليها بمثابة المبدأ العام المشتمل على المعالم الأساسية لهيأة الأغنية الجديدة؛ فما كان لأم كلثوم أن تبتدع الألحانَ من أولها، لكنها قد تتحفّز من حيث أتمَمَ الملحِّنُ عملَه، فتُرهف سمْعَها إلى كوامن وخبايا الألحان وتتذوَّقها وتعكف على استلهامها وكَلْثَمَتِها وإطلاقها إلى أعاليها التي يصعبُ على أي ملحِّن الوصولُ إليها، ولا يكون بإمكان صوته أن يقربها ولا بمقدوره إبانتها فيعوزه التعبيرُ عنها بينما هي أعالٍ مألوفة لصوت ونبرات أم كلثوم ومأهولة لقُدراتها وخيالها وفنونها. ولا ريب عندي في أن كل مُلحِّني أغنياتها، بدءاً من الشيخ أبي العلا محمد، قد بُهِروا إذْ فاجأتهم أم كلثوم في غنائها بما أضفته هي على ألحانهم لها.

يحلو لي مراقبة أم كلثوم، وهي جالسة على كُرسيها، أثناء عزف موسيقى التقديم لأغنياتها؛ أراها على كُرسيها تنصتُ لَكأنها تتعرَّف على اللحن، هذا الذي هي أعرفُ الناسِ به، ذلك أنّها تتهيّأ للتماهي نهائياً مع موسيقاه لِتُطلَّ على سامعيها من جوانيات نغماته ولِتأتيَهم ليس إلا من ذَوْبِ روحِها. تجلسُ أم كلثوم على كُرسيها وأنا أُديمُ الرُّنُّو إلى تواضعها وإلى كبريائها وإلى رصانتِها المصونة من الجمود، وأستبينُ نيرانَها الآخذة في التوقُّد مع سريان الأنغام. تنتشي أم كلثوم وتتقدُّ وتحتشد فألمحُها تختلج من دون خِفةٍ، إذْ إنّ أقصى ما يمكن أن تُظْهِره لا يزيد عن إمالةٍ برأسِها أو رفَّة بعينِها أو اهتزازةٍ طفيفة بإحدى قدميها. حضورُ أم كلثوم، الجالسة، يُشعرني بالبِشْر ويسبغُ طمأنينة وانبساطاً على العازفين وعلى الجمهور ويشيعُ ضمانتَه بأنّ الساعات المعقودة معها سوف تفُوق الخيالَ أُنْساً ولُطفاً؛ وتُشْبِع الجميعَ سروراً ورضاءً، على ما هو معهود في كل التقاءٍ مع سَلطنتِها الواصِلة الموصولة.

وتحينُ اللحظةُ التي تقفُ فيها، فتنتصبُ بانتزاعةٍ لجسدِها من جلستِها وكأنها لم تكن جالسةً أبداً، كأنها -وقد حلَّت واقفةً- غافلت العيونَ وأتتها من غَيْب. وأثناء نهوضها يصفو وجهُها مُشرِقاً بابتسامتِه الطفيفة وبمنتهى نُورِه وهيْبته وحبوره وقلقه. تطأُ بقدميها السجادة وفي يدها منديلها، فيراها الجمعُ واقفةً بالرِّقة والوقار وبالاحتشام كله وبالشموخ كله وبالفرادة والتواضع، وتخطو خطوةً أو خطوة ونصف صوبَ الميكرفون المعلَّق البعيد، لاقط الصوت الأمين، اللاقط الموعود، بينما التصفيق يحيطها كمثلِ هالةٍ من استبشار؛ وإنه لَتصفيق يميِّزه المرءُ من بين كل تصفيق، ذلك أنه تصفيق التطلُّعِ وأمارة الابتهاج والإجلال والخُلُوِّ لإطلالة المحبوبة، صاحبة العِصمة والغِبطة، الـمُتأهِّبة لوَصلةِ غنائها، المتحرِّقة للإجهار بأشواق روحها وإطلاق آهاتها. تتلقى التصفيقَ بامتنانٍ وهي تطالع وجوهَ الحاضرين بحنوٍ وشمولٍ، فعساها تلتقطُ وجهاً يتلقّى عن الجميع منها وتتلقّى منه.

تُغنِّي أم كلثوم وتذوبُ، مثلما يتفانى الذَّاكِر في مطلوبه، فتأخذ مستمعيها إلى الطرب؛ إلى أحلاه وإلى قيعانِه وإلى ما لم يكن لهم به دراية، وتطوِّح بهم إلى نكهتِها في الإغداق، فتنتشي من غنائها الأرواحُ. ولا ريْب في أن أم كلثوم كانت تعكف بعد كل حفلٍ لها فتفحص وتتأمل ما قدّمته، لأجل أن تتخلّص من أي عوارٍ أزعجَها في أدائها، هي، وتُزيل أيةَ رتوشٍ نافرة علقت بالموسيقى، وتتبيَّن كذلك البهاءَ الكامن والتجويدَ الممكن الذي قد يصير بوسعها إبداعه وإضافته عليها إذا هي أعادت غناءها لاحقاً.

وما من مماراةٍ في أن كل غناءٍ تالٍ من أم كلثوم لأيٍّ من أغنياتها القديمة هو أغنية جديدة لها. في مكمنٍ عميقٍ بقلبها يُسعدها تصفيقُ الاستحسان الذي يُقاطعها به جمهورُها الحاضرُ، من فرط حبورِه وافتتانِه وانخطافِه بل جنونه كذلك؛ لكنها لا تأبه بتصفيق أو تهليلٍ ولا تتوقّف له إلا إذا تجاوزَ صخبُه قدرتَها على طمسه أو إسكاته، مستمسكةً بالتجلّي والاسترسال ومواصلة الغناء. تندمج هي في غنائها وتصهْلِل فيبدو لي أنها لم تكن لتتعطّل عن شدوِها، مهما يكن، إلا إذا قوطِعت بضجيجٍ وهرج عارم أو أُوقِعت أرضاً. في مراتٍ احتدمت نشوةُ الجمهور واستهوته الرغبة في الانفلات إلى الاصطخاب فما استجابت هي أبداً إنّما كانت تحتالُ بابتسامةٍ أمومية عجلى مقتضبة تُنهي بها أيَّ نزوعٍ كذلك.

وفي كل الأحوال فإنّ غناءَها، وإن اسْتُوقِف لهُنيهةٍ، ما كان إلا ليُستأنف. لا فُرصة لأيّة لحظة فتور مع غناء أم كلثوم الحارَّة المرحة الذكيّة، التي تُشعِر مستمعيها بأرهف المعاني التي تتذوّقها بينما هي تغنيها وتعيدها، وفي مواضعِ التسلطُن من أغانيها كان لها هي أيضاً أنْ تَطرَب وتنتشي وكان لها أن تَتدلَّل دلالاً حيِّياً طبيعياً يُشغِف ويَخلُب، وكذلك اعتادت كلّما راقتها نغمةٌ من عزفِ عازفٍ فإنها تترنَّمها وتُدندنها بصوتها بدلاً من صوت الآلة الموسيقية، مُنسجمةً مع كل عازفٍ تنحّى فأفسحَ لها لتطْلِق هي آهاتِها في فضاءٍ كان سيشغله هو بعزْفِه؛ ولَطالما جرى ذلك كآيةٍ من تآلفٍ مدهش متحقق بينها وبين فريقها الموسيقي، وكأن عازفيها كانوا موصولين بفؤادها يفهمون عنها ويلبّون لها ما تروم بدقة وكمال وسلاسة.

ويليق بالمحصول الكلثومي المغدِق الوفير التمهُّلُ والاسترواح مع قُطافٍ من أبي فراس الحمداني «إذا الليلُ أضواني بسطتُّ يدَ الهوى»، ومن أحمد فتحي «وكنتَ عيني؛ وعلى نورها لاحت أزاهيرُ الصِّبا والفُتُونِ»، ومن جورج جرداق «ثم أغْمِض عينيكَ حتى تراني»، ومن إبراهيم ناجي «وضحكنا ضحكَ طفليْن معاً وعدَونا فسبقنا ظِلَّنا»، ومن صَفيّ الدين الحِّلِّي «إنْ لم تكن أحق بالحُسنِ؛ فمَن!»، ومن عمر الخيّام «أطفئ لَظى القلب بشهد الرضاب»، ومن أحمد شوقي «ريمٌ على القاع بين البان والعلم» و«يُسألُ في الحوادث ذو صوابٍ»، ومن أحمد رامي «الصبُّ تفضحه عيونُه» و«كان فجراً باسماً في مُقلتيَّ يومَ أشرقتَ من الغيب عليَّ»، ومن رابعة العدوية «أحبكَ حُبيْن؛ حُبَّ الهوى وحُبّاً لأنك أهلٌ لذاكا»، وغير ذلك كثير.

لكن كان من الطبيعي والضروري أن تُصاغ أكثرية الأغنيات في مقطوعات بغير اللغة الفصحى، على مثال رائعتها «عوّدت عيني على رؤياك»، إلا أنّ بعضاً مما أُتيح من تلك المقطوعات كان لا يليق بأم كلثوم، بل رديئاً، بل شديد الرداءة أحياناً؛ فغنّت مثلاً «حُب إيه اللي أنت جاي تقول عليه!» التي تصل الكلماتُ فيها إلى الفظاظة والسوقية، و«اِسأل روحك قبل ما تسأل إيه غيّرني» التي تُناهِز صيغةَ السباب في التعاملات اليومية، و«القُرب أساه ورّاني البُعد أرحم بكتير» التي تهين المحبوب وتزدري الحب، وعلى أية حالٍ فما هي إلا أغنياتٌ قليلة تلك التي تدنَّت كلماتُها وتملّقت نوازعَ شعبوية؛ ولعل كلمات أغنية «ح أسيبك للزمن» كانت هي الأسوأ لاكتظاظها بمعانٍ تُحيل علاقةَ الحبيبين إلى ساحة ثأْر وانتقام وتشفٍّ، وتُغالي في القسوة بين حبيبةٍ وحبيبها. غيرَ أنّ السنباطي صاغَ لها موسيقى عذبة شجيّة لا غاضبة، فانتزع منها أنقعَ سمومها، وقد غنّتها أم كلثوم بنبرة العتاب والتشاكي فأبرأت وأبطلت الكثيرَ من حرْفية معاني كلماتها.

ذلك أن أم كلثوم توخّت أداءً تترجّى به أن يشعر الهاجرُ بالشجن، لا بالذعر، على هجرِه لمن يحب، وجاءت رقةُ أداء أم كلثوم بديلاً عن التربُّص والوعيد اللذين تطفح بهما كلماتُ هذه الأغنية. كذلك امتلأت كلمات أغنية «الحب كله» بأفخاخٍ من الركاكة والمجانية؛ مثل "اسقيني تاني م الحب، منك، من نور زماني" و"يا حبيبي يا عبير الشوق يا نصيبي من ليالي الشوق"، ناهيك عن السوء الناجم عن تكرار لفظتيْ "حَسْ" و"بَسْ" الثقيلتين في خواتيم "الأبيات" بما يُنذِر باحتمالية اختلاط نُطقِهما بقدرٍ من الصفير، ويبدو واضحاً أن كلمات هذه الأغنية، بما فيها من اصطناعٍ وتلفيق، قد أحبطت قدرات أم كلثوم التي راوحت عند أضعف قدراتها وهي تحاول الترميم. وبالموازاة مع أغنية «ح أسيبك للزمن» التي ساهمَ لحنُها الحصيف في إنقاذها من كلماتها؛ جاء اللحن الفاتر الخامل لأغنية «أنت الحب» ليُميت كلماتِ أحمد رامي ويهدِر صوتَ أم كلثوم. أمّا في قصيدة طاهر أبي فاشا «عرفتُ الهوى مذ عرفتُ هواكَ» فيا ليت السنباطي كان قد تصرّفَ حيال مُزاحمة نغمات الموسيقى المعزوفة، المصاحِبة لغناء أم كلثوم، التي طغت على صوتها فحرمته من براحٍ ومن سكونٍ كان جديراً بأن يشرق فيهما بنبراته.

غنّت أم كلثوم «هذه ليلتي»، وقد كانت لها ليال عُشّاق صوتها وفنونها وليال أعمار عاشقيها الهائمين في وجودها كله. ما كان أحمد رامي ومحمد القصبجي هما وحدهما العاشقيْن، عشق الهوى، لأم كلثوم، ولعل غيرهما من عشاقها قد حاولوا، لأسبابهم، التحفُّظ في إظهار شغفهم بالحبيبة أم كلثوم أمام الملأ. ولعل أفضل وأرقى ما استحقته ونالته أمُّ كلثوم هو أن عشق عُشاقها اتخذَ تعبيراً سامياً لديهم كان هو الولاء، وقد تنافسَ عشاقُها، ليس للاستحواذ الفردي عليها أو على عواطفها، إنما في الولاء لها ولكل ما هو لها، وتباروا في الإجادة والإخلاص لأجل إعلاء أغنياتها لتكون على الدوام في أروع وأكمل وجود.

أمّا القصبجي وأم كلثوم؛ ففي الحب كانت هي، بالطبع، صفيَّة فؤاده، وفي الحب، كان هو، بالطبع، عزيز مُهجتها، والحب ينيرهما، وينيرُ ما بينهما. على مسرح الحفل يجلس قصب مع زملائه الموسيقيين العازفين في فرقة أم كلثوم، يلوح منعزلاً مُجتنِباً أيةَ حركة قد تشي بوجوده، يتوارى محتضناً خشبَ عُودِه، خلف الحبيبة مباشرةً، على يسارها قليلاً، بوَجْدِهِ الطافرِ على وجهه، وشَعرِه المصبوغ بالأسود، ونظّارته السميكة الغامقة التي لا تفلح في إخفاء صبابته، فإلام كانت تنفَذ نظراتُ هذا الجالسِ قُبالة آلافٍ وملايين ممن يرونه ولا يراهم، هذا الموعودِ الذي لا يفقه أن يرى أو يسمع إلّاها؛ ست الحُسن وست الحُب وست الطرب، ثومة، الواقفة أمامه تشعلل الأثيرَ بصدحِها. لا تشغله انفعالاتُ الجمهور عن صوت الحبيبة، ولا يضطلع بأية طموحاتٍ إلا طموحات الهوى، زاهداً -هو الأستاذ المبدع الـمُجيد- كل الزهد في تقديم فاصل موسيقي منفرد على آلته مثلما يتطلّع زملاؤه؛ عازفُ القانون وعازف الكمان وعازفو الرق والناي والأوكورديون، إنّما فقط هو يدقُّ عُودَه لنفسه، ولقلب الحبيبة ولكل مَنْ يبارك له هواه. رقَّت الحبيبة وواعدته، والملْقى يكون دوماً منصة الغناء، قُدّام الشهود وشهود الشهود وسائر الملأ، وهي تُوُدِع في الأثير نشيدَها وسِرَّها وآهاتِها، وهو هائمٌ هائمٌ هائمٌ ولا خوفَ عليه هو الوالِه العائش في الخيال.

اللحظة التي وقعت فيها عينا أم كلثوم لأول مرة على عبارة «الصَّبُّ تفضحه عيونه» كانت هي اللحظة التي تولّت إنجاب أحمد رامي على مبدأ العشق ليقترن فيها وجودُه إلى ما لا نهاية بوجود أم كلثوم. حَظيَ رامي، في عِشق ثومة، بما ليس عند غيره إذْ كان له وحده أن يسمع، بصوت محبوبته وبإحساسها، كلماتِه التي حشدَها إليها فيتأكد ألف مرة من أنها قد أدركت مُرادَه وتذوّقت عواطفَه وأحسّت لواعجَه ويُوقن بأن رسائله إليها قد فُضَّت قاطبةً عن آخرها بسويداء قلبها. إنه هو رامي المنتشي بحبها ولا يرومُ إلا التداني منها، ويُرضِي غرورَه هوناً أن تُذيع هي أسرارَ قلبه إليها شدواً على الملأ، وهو المترنِّم الذي أنشدَ لها تِيهَه في "أقبلَ الليلُ" وراحَ يترجّى قُربَها الخالص منه ويقدّم نذورَه، ولا باطل عنده إلا ما يناوئ اقترانَه بها واقترانها به، معاً يلهوان، يتغنّيان، هو لها روحٌ هيمان وهي له سُلافة الروح، متباركَيْن بكل نسْمةٍ وبكل ذكرى. كانت وقْدةُ الحب التي رعاها رامي لثومة مُفصَحاً عنها، قرينةً لصحائف العشق العتيقة، لا يني يترقرق منها سَمتُ التقديس.

استوفت أمُّ كلثوم درسَها منذ بواكيراها فلا عجلة ولا ابتسار ولا استبدال، بل نضوج فنضوج أضحت به أم كلثوم نِعمةً تتالت على أجيالٍ من سامعيها العارفين؛ منذ عشرينات شبابها إلى ثلاثيناتها إلى أربعيناتها إلى سبعيناتها، وكان صوتها يتعارج من جمالٍ إلى جمال وغناؤها يتخصّب وأحاسيسها تستوي، ولعل المتأمل يلاحظ أن صوتها، مع تتابع السنين، لم يكن فحسب مستودعاً لخصائصها الشخصية بل اكتنزَ كذلك قبساً من سمات كل عصرٍ مَرَّ به، فنبراتها في أغنياتها بسنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، مثلاً، تبوح بنكهة الحياة المصرية في هذين العقدين.

أوفت أمُّ كلثوم صدحَها بذخائر وفيض من الطرب الساحر الفريد، وكان غناؤها برهاناً، في يقيني، على أن الإبداع الموسيقي هو قمة القدرات البشرية بل أعز سجايا الإنسان، ولو أُتيحت لي فرصةٌ لتعريف الإنسان لقطعتُ بأنه صائغُ الموسيقى الحقيقية التي يطرب لها الوجدان. وبعد، فمثلما كانت الألفاظُ السحرية تفتح المغاليقَ في الحكايات القديمة دامَ صوتُ أم كلثوم إفصاحاً عن جمالٍ مكنونٍ لا تُخطئه الأفئدةُ السويّة، يفتح الحنايا والأعطاف ويصل المهجة بالمهجة.

 

                                                atif_sol@yahoo.com

نُشرت في جريدة «أخبار الأدب»